انتحار وسط أوسمة الشجاعة
12 رمضان 1431
د. جاسم الشمري

يقال إن هتلر في الحرب الكونية الأخيرة قال وهو يشير إلى قطعة من النحاس مرمية على الأرض بأنه سيحتل العالم بهذه، وفعلا خصص مصنعا كاملا للأوسمة العسكرية، والتي كانت حافزا كبيراً لجيشه لغزو العالم، كما كانت الأوسمة والنياشين على صدور ضباط هتلر مدعاة للسخرية، وقد تناولتها إحدى الطرائف عن جورينغ وهو المستشار العسكري لهتلر،وتقول الطرفة:" حصل جورينغ، على أوسمة ونياشين كثيرة حتى وجد صعوبة في إظهارها كلها على صدره إلى أن خطرت على باله فكرة. فقد ظهر في إحدى المناسبات وهو يضع مجموعة كبيرة من الأوسمة والنياشين على صدره تنتهي بسهم إلى الوراء.ولما سألته إحدى السيدات عن سبب هذا السهم أجابها جورينغ: معنى ذلك يا سيدتي أن بقية الأوسمة والنياشين أحملها على ظهري!"
وهذا التكريم الرمزي ما زال متبعاً في جيوش العالم حتى الساعة.

 

هذه المقدمة تقودنا للحديث عن جيوش الاحتلال في العراق وأفغانستان، حيث إن ما تقوم به قوات الاحتلال في العراق من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وما أفرزته تلك العمليات الإجرامية من مقاومة باسلة من الشعب العراقي للاحتلال قادت إلى آلاف الضحايا من جنود الاحتلال بين قتيل وجريح ومريض نفسي، على الرغم من الإغراءات الكبيرة لقادة وجنود الاحتلال لتهوين المخاوف التي تفرزها الخسائر الكبيرة التي تلحق بهم جراء استمرار المقاومة للقوات الأجنبية المحتلة.
وقادة وجنود الاحتلال قبل غيرهم يعرفون حجم الإجرام الذي مارسوه في العراق ضد المدنيين العزل من المعتقلين والمواطنين سواء في الطرقات والأحياء السكينة، أو خلال المداهمات، أو في مراكز الاعتقال السرية والعلنية.

 

وقبل شهر تقريباً أثار الكشف عن محاولة انتحار فاشلة قام بها الضابط في الجيش البريطاني جونسون بيهاري، مخاوف كثيرة من الانعكاسات السيئة المحتملة للمشاركات العسكرية في العراق وأفغانستان على الجنود وبيئتهم الاجتماعية بعد عودتهم من الخدمة، وبيهاري حصل على أكبر عدد من الأوسمة، أو الأنواط من بين جميع الجنود البريطانيين الذين خدموا في العراق على مدى ست سنوات منذ مارس 2003، ومن ضمنها وسام «فيكتوريا كروس» الذي يمنح عادة لكبار العسكريين والذي قلدته له الملكة إليزابيث الثانية عام 2005 على الشجاعة التي أبداها في خدمته في العراق. وكان بيهاري لفت أنظار الرأي العام، ليس فقط بفوزه بالأوسمة العسكرية، بل عندما كشف أخيراً أنه أثناء الاحتفال الرسمي لإحياء ذكرى الجنود الذين قتلوا في الحروب والذي جرى في نوفمبر 2009، رفض مصافحة غوردون براون، رئيس الوزراء في حينه، احتجاجاً على «عدم احترام رئيس الوزراء للقوات المسلحة»، وفقاً له، ما أثار جدلاً واسعاً حول الطريقة التي تعاملت بها حكومة براون مع القوات المسلحة، وكشف بيهاري أنه اتصل بأعضاء الحكومة الجديدة وبالذات رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ووزير الدفاع ليام فوكس وعرض عليهما خدماته لمساعدة الجنود الذين يعودون من ساحات القتال لاجتياز الأزمات النفسية الشديدة التي تنتابهم نتيجة للتجارب التي مروا بها، وسط معلومات مقلقة عن ارتفاع عدد الجنود الذين يصابون باضطرابات نفسية جراء تلك التجارب.
وأبلغ بيهاري الصحفيين أنه كان يشعر بيأس شديد قبيل إقدامه على الانتحار تحت ضغط نفسي شديد ناتج عن مشاهداته وتجربته خلال خدمته العسكرية في العراق، وانه يشعر بقلق دائم وبأوجاع في الظهر وفي أنحاء أخرى من جسمه لدرجة تدفع إلى الجنون.
وقال بيهاري إن معظم الجنود الذين عادوا من العراق ويعودون من أفغانستان تنتابهم أزمات نفسية شبيهة، ودعا الحكومة إلى مواجهة هذا الوضع بتشكيل جهاز قادر على مساعدة الجنود على الخروج من هذه الحالات النفسية قبل أن يرتكبوا أعمالاً بحق أنفسهم أو بحق الآخرين.

 

وفي يوم 15/4/2010، كشفت صحيفة "التايم" الأمريكية عن تزايد معدلات الانتحار في صفوف جنود الجيش الأمريكي في أفغانستان بصورة مطردة خلال السنوات الخمس الأخيرة وهو ما سبب قلقاً بالغاً لدى الضباط الأمريكيين على أعلى المستويات منذ بداية الغزو الأمريكي لهذا البلد، وأن عدد الجنود الأمريكيين المنتحرين في أفغانستان بلغ (817) جندياً منذ خمس سنوات وحتى صيف العام الماضي، بينما قتل (761) جندياً في عمليات القتال، وأن هذه المشكلة باتت محيرة بالنسبة لمسئولي الدفاع الأمريكيين وخاصة أنها تظل في ازدياد رغم إنفاق ملايين الدولارات لتقويضها ونشر المئات من خبراء الصحة العقلية لعلاجها.
وأشارت الصحيفة إلى أن أبحاثا ودراسات حديثة عن هذه القضية أرجعت تفاقم هذه المشكلة في صفوف الجيش الأمريكي إلى العبء النفسي المدمر لتكرار إرسال الجنود الأمريكيين إلى المهام القتالية.
ونقلت عن الجنرال جورج كيسي كبير ضباط جيش الاحتلال الأمريكي إحباطه إزاء تفاقم هذه الظاهرة حين قال أمام لجنة بمجلس النواب الأمريكي إن هناك إحباطاً كون كل الجهود التي بذلت لم تفلح في كبح جماح الانتحار بين الجنود.
كما لم يكن تعليق السيناتور الأمريكي جون ماكهيو أكثر تفاؤلا إذ صرح أمام لجنة خدمات الجيش في مجلس الشيوخ الأمريكي بأنه لا يعتقد أن التغلب على هذه المشكلة سيكون قريبا، واصفا ظاهرة الانتحار بالأمر المربك.

 

وقالت الصحيفة الأمريكية إنه بالرغم من أن كلمتي الإحباط والارتباك ليستا من الكلمات التي يستخدمها القادة العسكريون عادة فإن هذين القائدين اضطرا لاستخدامهما تحت وطأة تضاعف نسبة الانتحار بين الجنود الأمريكيين ما بين عامي 2001 و2006 حيث أقدم (160) جنديا أمريكيا في الخدمة العام الماضي على الانتحار مقابل (140) جنديا في عام 2008 و(77) جنديا في عام 2003.
وكانت مجلة «لانس» العلمية أجرت استطلاع رأي شمل (10) آلاف جندي خدموا في العراق وفي أفغانستان كشفت نتائجه أن نحو (20) في المائة من الجنود الذين يعودون من ساحات القتال يعانون من اضطرابات نفسية. وكشفت تقارير أخرى مصدرها وزارة الدفاع عن ارتفاع نسبة الجنود الذين يلجأون لتناول المشروبات الكحولية للهروب من الاضطرابات النفسية التي يعانون منها، ووفقاً للمحللين السياسيين فإن معالجة الآثار النفسية والاجتماعية السيئة التي تخلفها الخدمة العسكرية في الخارج هي إحدى المهمات الملقاة على عاتق الحكومة الجديدة.
وفي يوم 17/7/2010 أظهرت سجلات البنتاغون رقماً قياسياً جديداً في معدل حالات الانتحار في صفوف الجنود الأمريكيين الذين يخدمون في العراق وأفغانستان، حيث انتحر ما لا يقل عن (32) جندياً في شهر يونيو الماضي، مسجلاً أعلى معدل للانتحار منذ حرب فيتنام .

 

وكانت معدلات الانتحار في صفوف القوات الأمريكية العام الماضي قد أكدت حدوث (244) محاولة، تتعلق معظمها بالقلق النفسي والإحباط والضغوط الناتجة عن الخدمة لمدد طويلة في مناطق القتال، وقد قام جيش الاحتلال الأمريكي بتوزيع فيلم وثائقي لمكافحة النزعة نحو الاكتئاب لديه، ويظهر جنود يعرضون تجاربهم إزاء الإحباط ونجاحهم في مقاومة الرغبة في التخلص من الحياة .
يذكر أن معدل الانتحار الحالي وصل إلى (22) حالة لكل مائة ألف مجند، أي بزيادة تصل إلى 20 % عن المعدل المتعارف عليه، وهو (18) حالة لكل مائة ألف، واعتبرت هذه الأرقام تحدياً لإدارة الرئيس باراك أوباما والكونجرس على السواء .
الكولونيل تشرس فليبريك مدير قسم محاربة الإنتحار في جيش الاحتلال الأمريكي قال إن الجيش خصص مبالغ طائلة لمحاربة هذه الظاهرة، ولكن تبين من أرقام المنتحرين في الشهر الماضي أن البرنامج لم يعط ما كان متوقعا منه.
وسبق أن ذكرت في دراسة سابقة أن الأرقام التي حصلت عليها شبكة السي أن أن الأمريكية تكشف أن" الجيش الأمريكي أكد وقوع (128) حالة انتحار خلال العام 2008، إلى جانب (15) حالة انتحار قيد التحقيق ـ وإذا تأكدت فان هذا سيرفع إجمالي عدد حالات الانتحار للعام الماضي إلى(143) ـ وذلك من بين عناصر القوات المسلحة ممن لا يزالون في الخدمة، أو العاملين في الحرس الوطني، أو عناصر الاحتياط".

 

وفي (17) يناير 2009 ذكرت صحيفة يو أس أي تو دي أن" عدد الجنود الأمريكيين الذين خدموا في العراق وأفغانستان وأقدموا على الانتحار ارتفع من(52) شخصاً في عام 2004 إلى(110) في عام 2006".
هذه هي المحصلة النهائية لحرب هؤلاء القتلة على الأبرياء والمدنيين العزل من العراقيين والأفغانيين بحجة مكافحة الإرهاب، والقضاء على الإرهابيين، ولا ندري إلى متى ستبقى هذه الموازين المقلوبة في العالم الحديث، حيث قانون الغاب يحكم أغلب بلدنا العالم بحجة مكافحة الإرهاب في الوقت الذي عجزت فيه الدول الغربية نفسها وأمريكا قائدة الإرهاب العالمي أن تجد تعريفا محددا للإرهاب المزعوم؟!!
أما الوسام الحقيقي فهو وسام الشهادة من أجل المبادئ والأوطان ومقاومة قوى الظلم والعدوان، وسيتبقى هذه الأوسمة نفاخر بها الدنيا، وسنبقى نكافح حتى خروج آخر جندي حاقد من جنود الاحتلال في البلاد.
[email protected]

 

"نسخة المقال باللغة الإنجليزية"