السودان: مناورات اللحظة الاخيرة
11 شعبان 1431
طلعت رميح

بدأت مدة الست اشهر الباقية علي اجراء الاستفتاء -الشكلي ربما -علي انفصال جنوب السودان، في التساقط يوما بعد اخر، فتكاثرت المناورات و التصريحات و اعمال القتال، في داخل السزدان كله،كما تسارعت الخطوات الخارجية –ولا نقول الدولية –كل يجري في الاتجاه الذي يحقق مصالحة، وكل يضغط على الاخر.
لقد تصاعدت مناورات الحركة الشعبية الانفصالية المتمركزة في الجنوب، في داخل الجنوب و علي صعيد السودان كله، وعلي صعيد العلاقات الدول الخارجية و خاصة الولايات المتحدة، فقد جرت اتفاقات كثيرة قليلها معلن وكثيرها سرى.

 

علي صعيد الجنوب،فقد جاءت "الحكومة" الجنوبية التى تشكلت بعد الانتخابات،واسعة العدد و متنوعة في تمثيلها القبلي،في محاوله لتشكيل شبكة واسعة من تمثيل قبائل الجنوب، بهدف توثيق سيطرة الحركة الشعبية الانفصالية علي الحكم في الجنوب، و لتحقيق تصويت يقر الانفصال باقل قدر من الاعتراضات في داخل الجنوب وبالى قدر من التصويت، بنعم للانفصال. وعلي صعيد العلاقات مع الدول الخارجية،فقد جال مبعوثين جنوبين الدول الغربية، كان اهمهم الامين العام للحركة الانفصالية باقان اموم الذي قام بزيارة للولايات المتحدة. و قد صبت كل تلك الزيارات في تكثيف الضغط علي الحكم في السودان لعقد الاستفتاء في الجنوب في موعدة ووفق شروط تحقق الانفصال، كما صبت استباقيا في تعزيز مواقف الجنوب من القضايا المختلف عليها، خلال اجراءات الانفصال، فضلا عن الحصول علي اعتراف بدولة الجنوب الانفصالية وبطبيعة الحال جرت اتفاقات حول تسليح جيش الجنوب، واستخراج النفط.

 

وفي المقابل، كثف الحكم في السودان من تحركانه، لاجل دعم موقفة و موقعة الراهن، فمن جهة جري طرح خيار الكونفيدرالية بين الشمال و الجنوب بديلا لفكرة الانفصال و تقسيم الدولة و الوطن و المجتمع، وهو ما تم خلال زيارة نائب البشير علي عثمان محمد طة للجنوب، فيما فهم منه محاولة لارباك خطوط و اتجاهات الصراع علي الصعيد السودانى و بشكل خاص في جنوب السودان،كما استهدف الاقتراح الاستفادة من تخوفات دول الاقليم من خطورة انفصال الجنوب لتاثيراتة داخل تلك الدول ذاتها، وتحويله الي فعل ايجابي بتقديم اقتراح يحول ضغوطها الدولية الي ضغوط وفق روية و اقتراح محدد.

 

و من جهة اخرى، دشن الحكم حملة سياسية و اعلامية و جماهيرية علي الصعيد الوطنى للتاثير علي نتائج الاستفتاء في الجنوب الي التصويت بلا، لمسالة الانفصال،و في هذا الاتجاه بدات القيادة السودانية تحركات واسعة في الجنوب و الشمال،لتعزيز هذا الاتجاه، اذ جري الاعلان عن بداية انفاذ العديد من المشروعات الانمائية في الجنوب، كما جرى اتخاذ قرارات عملية مشددة ضد النشاطات السياسية و الاعلامية الانفصالية التى ظهرت فى الاونة الاخيرة فى شمال السودان، الذى هو مقر حكم السودان تاريخيا.

 

 

وفي اتجاه ثالث، لاحظ المتابعون ان الحكم بدأ حملة واسعة لحسم الاوضاع في دارفور لمصلحة الحكم و الاستقرار،انطلاقا من ان اجراء الانتخابات في هذا الاقليم، قد افرزت ممثلين له داخل الاجهزة التشريعية للدولة، بما يضعف فكرة تمثيل حركات التمرد للمواطنين في الاقليم. لقد بدأ الحكم تحركات حاسمة تجاه الجهات الخارجية الداعمة لحركات التمرد فى دارفور وصلت حد اغلاق الحدود مع ليبيا، التي لجا اليها قائد احدي حركات التمرد،بعد ان نجحت الحكومة السودانية في عقد اتفاق "تحالف"ثابت -علي ما يبدو هذه المرة -بعدم مساندة كلا البلدين لحركات التمرد علي الحكم في البلد الاخري،فكان ان سحبت تشاد جواز سفر هذا القائد، و طردته خارج البلاد. كما تحولت القيادة السودانية باتجاه دول اخري في الاقليم من اجل الحصول علي دعمها –وفق توافقات تكتيكية او تقاطع مصالح -للوقوف في وجه انفصال الجنوب.
تتعدد و تتكاثر التحركات و المناورات، فالي اين تتجة الاوضاع في السودان خلال المرحلة القادمة ؟!

 

تخطي الاستفتاء
يبدو الاتجاه العام لحركة القيادة الانفصالية في جنوب السودان، هو اعتبار الاستفتاء قد انتهي فعليا الي الانفصال،اذ تجرى عمليات حشد الدعم السياسي للدولة الانفصالية الجديدة والاعتراف الدولى بها.وذلك ما توصي بة طبيعة التحركات التي تقوم بها تلك القيادة، بل ذلك ما اعلن فعليا بطريقة او باخرى من قبلها.

 

فالمتابع لمضامين تصريحات القيادات الانفصالية في الجنوب يلحظ انها حوت باستمرار تاكيدا متواصلا –او طرق علي فكرة واحدة –ان نتيجة الاستفتاء ستكون الانفصال، مع تحميل "الحكم في الشمال"، المسئولية عن وصول الجنوبين الي هذة الحالة،خاصة علي الصعيد الاقتصادى "بينما " للجنوب حكومة و مخصصات مالية تصل الي نسبة 30% من حصيلة بيع البترول السوداني، كما ان الاتفاق الذي جرى علي اساسه كل ما شهد السودان من تغيرات بين الشمال و الجنوب خلال المرحلة الماضية –اتفاق نيفاشا –يقضي بدفع الضامنين للاتفاق الاموال اللازمة و لتنمية الجنوب،وهذا ما لم يحدث.
كما المتابع يلحظ ان التحركات السياسية و التصريحات الجنوبية، تجري جميعها باتجاه الحشد و التعبئة لمواطنى الجنوب باتجاه الانفصال، كما تجري عملية اقصاء مشددة للقوي الرافضة للانفصال بين ابناء الجنوب، بما ولد تحركات واعمال عسكرية ضد حكم الحركة الشعبية الانفصالية فى الجنوب.

 

الان تحشد الحركة الشعبية الانفصالية، مواطنى الجنوب، في مظاهرات و تحركات ذات طابع جماهيري "احتفالي دعما لفكرة الانفصال"،كما تشن القيادات الوسيطة في الحركة الشعبية الانفصالية حملة سياسية ضد الشمال، و يجري التصعيد ضد الحكم في الشمال، باستعادة كل قاموس ووقائع الاقتتال الاهلى طوال الفترة السابقة، وفي ذات الوقت تجري عملية منتظمة لمطاردة العناصر الجنوبية الرافضة للانفصال، بما دفع بعضها لاعمال قتالية ضد "جيش الحركة الشعبية "،اذ وصل الضحايا بالالاف خلال العام الاخير وحده.
و الاهم ان عملية مخططة تجري لبناء اسس دولة الجنوب علي صعيد التمثيل الخارجي (سفارات و قنصليات )و في مجال بناء القوات المسلحة (تسليح و تدريب )،ويصل الامر حد الاعلان عن "مباحثات تمهيدية مع شركات ودول لاستخراج البترول او البحث عنه في اراضي الجنوب -بعيدا عن الدولة المركزية -بديلا للشركات الصينية و الهندية و الماليزية العاملة الان في هذا المجال.
وقد جرت مباحثات مع الدول الغربية،وفق قواعد البروتوكول للدول المستقلة للتباحث فى العلاقات الثنائية بين دولة الجنوب الانفصالية الجديدة و تلك الدول،واعلن الامين العام للحركة الشعبية الانفصالية في الايام الماضية، ان الدول الغربية اعلنت جاهزيتها للاعتراف بدولة الجنوب فور انتهاء الاستفتاء لتقرير مصير الجنوب.

 

الشمال والاستفتاء
واقع الحال ان الحكم المركزي في السودان المصطلح علي تسميته من قبل الحركة الشعبية بالحكم في الشمال، يحاول التعايش مع وقائع الازمة الحالية والتفاعل معها لتغيير اتجاهاتها، للتغلب على فكرة الانفصال التي لا يريدها وفق ما يعلن رسميا.
لقد حصل الحكم المركزي علي شرعية جديدة باجرائة الانتخابات، و هو يحاول الانطلاق منها لتثبيت شرعيته في البلاد كلها، غير انه يصطدم بان ذات الانتخابات، قد حققت مشروعيه للقيادة الانفصالية في الجنوب، التي تحول تمثيلها للجنوب، من تمثيل مستمد من اعتراف الشمال لها بهذا التمثيل –بتوقيع اتفاق نيفاشا معها- الي شرعية مستمدة من العملية الانتخابية، برعاية واعتراف دولى. والمعنى ان ما حصل عليه الحكم من شرعية، قابله بنفس الاسسس شرعية القيادة الانفصالية فى الجنوب.
ويجد الحكم المركزي نفسه، وقد قيدت حركته بمواعيد محددة لاجراء الاستفتاء في الجنوب، بما يضيق عليها من المناورة،خاصة و ان الراعين للاتفاق و الذين يراقبون عملية تطبيقه هم اصلا، الداعمين لمخطط فصل جنوب السودان، ولذا هو يحاول طرح خيارات جديدة خارج هذا الاتفاق كما هو الحال فى طرح فكرة الكونفيدرالية.

 

ويجد الحكم نفسه امام خيار مصيرى مؤلم، اذ هو اذا وافق فى نهاية المطاف على "انفصال الجنوب"، فانه قد يفقد شرعيته فى الشمال، باعتباره فعل ما لم تفعله اية حكومة اية حكومة سودانية منذ الاستقلال، واذا هو اخذ باساليب المناورة وجد نفسه واقعا تحت ضغط دولى وجنوبى ومن بعض قوى الشمال، يفقد النظام استقراره الحالى، وقد يؤدى الى حرب اهلية واعمال عنف خطيرة.
ووفق تلك المعطيات، يبدو الشمال ذاهب بالجنوب الى الاستفتاء، على امل اطالة امد ترتيبات ما بعد الاستفتاء، وربما ثمة مراهنة على ارتباكات حادة فى الجنوب قد تؤدى الى بعثرة اوراق الاستفتاء وترتيبات ظهور دولة الجنوب الانفصالية، بما يوفر فرصة ووقت لاعادة ترتيبها من جديد، وفق اطروحات اخرى جديدة.

 

وفى كل ذلك، يبدو المنطق العام الذى جرت عليه افكار واستراتيجية الحكم، هى نظرية جحا الذى اوصى بالصبر على الجار، حتى يرحل او تاخذه مصيبة.
لكن !
لكن هناك من دخل على خطوط الصراع لارباك الخطط، كما هو حال الصادق المهدى مسئول حزب الامة، الذى طرح خطة اعلن انها تستهدف الوحدة، لكنها فى جوهرها تنشد انهاءا للحكم الراهن فى الخرطوم اسسا ونظاما وفكرا وقيادات، وتبدو فى الاقتراحات رائحه نفاذة لقرارات وتحركات محكمة الجنايات الدولية، ضد الرئيس السودانى عمر البشير.