ورحل الفارس

ياسر البرهامي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالدعوة إلى الله والعمل من أجل الإسلام رَحِم واسعة أوسع بكثير من الرحم النسبية، يكون لك بها أبناء وإخوان وأقارب أكثر مما يكون لك بالرحم النسبية، وربما كانوا أعلى منزلة وقدرًا من أقارب النسب والمصاهرة، ولقد فقدت شخصيـًا وفقدت الدعوة ابنا غاليًا وأخًا عزيزًا هو الأخ الفاضل الكريم المقدام الشجاع الداعي إلى الله الدكتور وليد السعيد رحمه الله وغفر له وعافاه وعفا عنه وأكرم نزله ووسع مدخله.

 

اللهم اغسله بالثلج والماء والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وقِهِ فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار، اللهم زد في إحسانه، وتجاوز عن سيئاته، اللهم أفسح له في قبره، ونور فيه، واملأه عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، واقبله في الشهداء، وصبّر والديه وأهله، وأصلح له في ذريته، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين.

 

عرفتُ وليد السعيد طالبًا نابغـًا في كلية الطب في أواخر الثمانينيات وقد مرَّت الدعوة في كليته بمرحلة من الفتور والضعف سرعان ما تحولت إلى نهضة وصحوة حين أُسندت مسئولية العمل الدعوي السلفي إليه، مما أهله لتحمل مسئولية العمل في الجامعة كلها، فشهدت الدعوة طفرة وانتشارًا كيفًا وكمًا يعرفها إخوانه الذين عملوا معه خلال هذه الفترة التي أخرجت رجالاً لا يزال أكثرهم له بصمته في العمل الدعوي في أماكن مختلفة داخل الإسكندرية وخارجها -جعل الله ذلك في ميزان حسناته-.
وقد تألفت به قلوبهم، واجتمعت كلمتهم، فأثروا فيمن حولهم، وبقي ذلك العمل أسوة لمن بعدهم.

 

أتذكَّر كيف كان وليد يكتب الأسابيع الإسلامية ويتابع نشرها في كليات الجامعة المختلفة، ويقود الإخوة في قوافل الدعوة حول موضوعات الدعوة الأساسية: من التوحيد والعبودية، والولاء والبراء، والحجاب وغير ذلك، مما نشر المنهج الإسلامي السلفي النقي في وسط جموع الطلاب وغيرهم، وأمد العمل في المساجد والمناطق المختلفة بجنود عاملين من أجل نصرة الدين.

 

وبعد تخرجه من الكلية تخصص في طب العظام الذي أظنه قد اختاره خصيصًا لأن نظره كان على المشاركة يومًا من الأيام في الجهاد في سبيل الله بالخبرة الطبية، وقد حقق الله ذلك أيام هجوم اليهود على غزة؛ فكان د. وليد السعيد من أوائل من ذهب إلى حدود رفح للبحث عن سبيل يستطيع به أن يغيث إخوانه المجاهدين والمستضعفين المظلومين، وقد حدثني كيف ظل هو وإخوانه من نقابة الأطباء على المعبر غير عابثين بضرب اليهود لشريط الحدود الذي هرب معه كل الموجودين من جنود حرس الحدود والجوازات وغيرها، وأحدث القصف فتحات في السور الفاصل لم يبق أمامها إلا الإخوة الكرام الراغبون في الشهادة، ووجدوها فرصة لإدخال أول شاحنات المساعدات التي كانت محجوزة عند المعبر، ووجدوا أنفسهم داخل حدود غزة، وتناقشوا: هل يستمرون في الدخول ويكون في هذه الحالة دخولاً بطريقة غير رسمية، أم يرجعون مرة أخرى في انتظار فرصة أخرى للدخول بطريقة رسمية؟ ولم يكن ترجيح الرجوع خوفـًا من أحد أو حرصًا على الدنيا؛ كيف وهم يعملون تحت قصف مستمر من الطيران اليهودي لا يدري معه أحد متى يأتيه الأجل؟ ولكن كان الترجيح بناء على مصلحة العمل الإسلامي واستمراره والامتناع عن الاندفاع والتهور غير المحسوب العاقبة.

 

ومع الصدق في النية والإخلاص والرغبة في نصرة الدين تتحطم العقبات، من أين؟ لا يدري الإنسان؛ فالله مقلب القلوب، وهو آخذ بنواصي العباد، فبعد أسبوعين من المنع والحصر والعودة إلى العريش ثم إلى الإسكندرية ثم إلى رفح قلَّب الله قلوب القوم على فتح المعبر أمام قافلة المساعدات الطبية والأطباء المصريين وغيرهم جزاهم الله خيرًا، ودخل الدكتور وليد السعيد وكان معه أخي الدكتور جمال برهامي والدكتور محمد الفحام الذين أشعروا الإخوة السلفيين بالإسكندرية وغيرها أن هناك من يقوم عنهم ببعض الواجب تجاه أهل غزة المظلومين، ولقد كان لهم أكبر الأثر الحسي والمعنوي والطبي في إخواننا المحاصرين هناك، نسأل الله أن يفرج كربهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.

 

ثم كانت العودة إلى مصر بعد انتهاء القتال وفشل الخطط اليهودية، وعاد وليد بصورة مشرقة عن العمل الإسلامي عامة والجهادي خاصة في غزة وبروح معنوية عالية يحدث نفسَه ويحدث غيرُه نفسَه بسببها بالغزو في سبيل الله والمشاركة فيه، و(مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ) كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (رواه مسلم).

 

وبدأت عقبها فجأة ودون مقدمات رحلة المرض الذي اكتشفه بغتة ولم يكن قد ظهر قبل ذلك أي آثار له، وبسرعة تم تشخيص المرض؛ سرطان في القولون وصل إلى الكبد، وسبحان الله الذي يقدِّر لعبده الراغب في الشهادة السائل لها من أسباب الشهادة ما لا يخطر بباله؛ فالداء كان في البطن، والصحيح في تفسير قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ) (رواه البخاري) أنه يشمل كل داء في البطن، وقد كان وليد ثالث ثلاثة من أبناء لي وإخوان أحباء في الدعوة إلى الله كان كل منهم له أثره العظيم في الدعوة في مكانه ماتوا بهذا الداء؛ هم الأخ الفاضل الكريم الداعي إلى الله سعيد معتمد من محافظة مطروح، والأخ الفاضل الكريم الداعي إلى الله علاء مقبل من الدخيلة بالإسكندرية، وثالثهم د. وليد السعيد رحمهم الله وغفر لهم وتقبلهم في الشهداء.
تعلمت من علاقتي بالدكتور وليد السعيد أن الحب الصادق في الله وإن كان يزيد بالبر -لأن الله أمر بالبر فلابد وأن يكون له أثره في الخير- فإنه لا ينقص بالجفاء، وإن كانت العبارة المشهورة المنقولة عن بعض السلف أنه "لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفا"، لكن الحقيقة أنه يزيد بالبر ولا ينقص بالجفا؛ لأنه حب لغير مصلحة دنيوية ولغير حظ نفس، وجدت نفسي ومشاعري تجاه د. وليد خلال فتره مرضه وقبلها وأثناء غسله وجنازته بالفعل كأني فقدت أحد أبنائي وربما أشد، فعلمت أن الاشتراك في الدعوة إلى الله والتعاون على البر والتقوى لا تبدله الاختلافات، ويبقى أثره في جذور القلب لا يتزعزع، فاستبشرت خيرًا.

 

فكم نختلف في الدعوة، وفي التقديم والتأخير، والإقدام والإحجام، والفعل والترك؛ لكن يبقى المنهج الواحد منهج أهل السنة والجماعة على طريق السلف محورًا لا يخرج من فلكه إلا المحروم، يبقى هذا المنهج يعصم الله به من الانحراف والهلكة، فمع البقاء والثبات عليه فإذا بصدإ الاختلاف يصقل ويزول، وإذا بمعدن الحب الصادق تحته براق لامع؛ لأنه معدن أصيل أغلى من الذهب، والصدأ الذي علاه ليس منه؛ بل هو مجرد أتربة وزبد أجنبي عن المعدن الأصيل، بنفخة يزول ويطير، فليبشر كل من تعاونوا على نصرة الإسلام وصدقوا في رغبتهم في ظهور الحق وإعلاء كلمة الله؛ فكلما تطهروا من الحقد والحسد والبغضاء وحظ النفس، وطالما زكوا أنفسهم وتخلصوا من الرياء والسمعة وحب الرياسة؛ فستتحول خلافاتهم إلى وفاق، ونزاعهم إلى حب يومًا من الدهر أصابهم قبل هذا اليوم ما أصابهم.

 

أُوصي والدي د. وليد وأهله وأولاده أن لا يبكوا على وليد؛ فقد مضت بالأمس ثلاث ليالٍ على رحيله؛ فإن ما عند الله خير للمؤمن من الدنيا وما عليها، وعلامات حسن الخاتمة من عمل صالح وُفق له قبل مرضه الذي أفضى به إلى ربه لم يوفق له إلا الأفذاذ وربما لم يوفق له شيوخه ومن سبقوه بالزمان في طريق الدعوة، ومِن صبر على المرض، وحسن ظن بالله، ومِن ذكره دائمًا لله -سبحانه- على فراش الموت رغم مشقة النًفًس، فضلاً عما هو فوقه، شهدت ذلك بنفسي وشهده كل من عاده في مرضه، ثم طبيعة ذلك المرض وهو من أدواء البطن؛ فهذه كلها مع غيرها مِن علامات حسن الخاتمة، نرجو له بها من الله منازل الأبرار ورفيع الدرجات ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات وصلاح الأولاد والأهل من بعده، (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف:82) فلن يضيعه الله أبدًا في أهله وذريته -إن شاء الله-.

وأوصي أولاده خصوصًا بأن أباكم كان فارسًا من فرسان العمل الإسلامي في مجالاته المختلفة، ناصرًا للدين جهده، طالبًا للعلم، محبًا لإخوانه، باحثـًا عن الحق، رجاعًا له، فكونوا على ذلك، واجتهدوا في المزيد؛ فهذا الذي يسعده ويريحه في قبره.
اللهم اغفر لأبي عبد الرحمن وليد السعيد، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واجعلنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقـًا.

 

اللهم أجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرًا منها.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا وليد لمحزنون.

 

 

ـــــ

المصدر/ صوت السلف