الفتوى في منظور المتخصصين
23 رجب 1431
عبد المجيد بن صالح المنصور

الفتوى الصادرة من مشكاةِ النبوة هي بالنسبة للعامة نور وهدى، وتَقْطعُ على أهل الشك والنفاق طرق الهوى، تلك فتاوى أُولِي الحجا والنهى، لا يُهَيِّجون بذكرها الورى، ولايَلمزون أهل الشأن والتقى.

ألا مخبرٌ للجميع أن صحة الفتوى، لا توزن بالشكل أو المظهر أو الدعوى، فتلك عُمدةُ من قد غوى، ألا في زمن الضياعْ، وقلةِ العلمِ وعدمِ الانصياعْ، هادياً خِرِّيتاً يدل العوام، على مَنْ عليه في الفتوى القًُوام، الأُلى بلغوا في العلم المَرام، وعالجوا النصوص فهماً ردْحاً من الأعوام، وألّيس من أهل الفتوى كل من ترك المُلاَء، ولبس العباء، وتحمل الأعباء، أو كان من أو أُلي الصفاء في الوفاء.

 

ألم يضح لزاماً على ذوي الشأن والاختصاصْ، في زمن التحريض والتشويه والانتقاصْ، تمييز العالم عن المتطفل والقاصْ، بلى والله إنه أمر عنه لامناص، وبه مِن شر الدخيلِ يكون الخلاصْ.

وعندها فمن تَقَحَّم الشواذ من غير أهلِه، ونطق بجهله، أو وضعه في غير محلِّه، أو تطاول على الأغاليط، وجاء بالأخاليط، فيقال للعوام، تلك من الفتاوى الطَّوام، المُؤْرِثة للأمة الأسقام، وإن طبَّل لها أهل النفاق وذو الرَّغام، ونصرتها الأقلام، ونفختها الصحف والإعلام؛ لأن مُفتِيها ليس من أهل التخصصْ، إنما هو معتدٍ مُنغِّصْ، أو مُتَطفِلٍ مُتخَرِّص، أو مُتسوِّرٍ متلصصْ، وبمثله لا يُشغل الناس بالردود العلمية عليه؛ لأن الفتوى فيها أصلاً ليست إليه، إلا ما كان اختلافاً بين العلماء والمتخصصين، فذاك خير في عيون الحكماء والمنصفين، ورحمة إن خلا من القدح والسب والاتهام في الدين، وعلى أهل الرأي ترويضُ العوام على قبولِه، وأنه أمر طبعي بين العلماء حصولُه، وإن تشعب وطالت ذيولُه، والذبِ عن عرض أهلِه ما دام له دليلُه.

 

لذا قيل: لا تَمْنعوا العِلم أَهلَه فتَظلمُوهم، ولا تُعْطوه غير أهله فتَظْلموه. ولبعضهم:

مَنْ مَنعَ الحِكْمَة أَرْبابَها *** أَصْبح في الحُكْم لهم ظاِلمَا
وواضعُ الحِكْمة في غَيْرهم *** يكون في الحُكْم لها غاشِما
سَمِعت يوماً مثلاً سائراً *** وكنتُ في الشعر له ناظِما
لا خير في الْمَرْءِ إذَا ما غَدَا *** لا طالباً عِلماً ولا عَاِلمَا

 

والمنهج القويم، والطريق المستقيم، والهدي السليم، في كل رأي حديث أو قديم، رد العوام إلى العالمين بأصولِ الفقه ومقاصدِه، الفاهمين لفروعه وقواعدِه، المُقدِّرين لما دَقَّ من مصالحه ومفاسدِه، الدارسين للفقه في جامعاته ومعاهدِه، وجوامعه ومساجدِه.

 

وأما الأغاليط والشواذ من الأقوال، فليست بجديدة على المتخصصين بالحرام والحلال، فَجُلُّهم عَلِمُوها ودَرَسوها وفَهِمُوها، وبالمحاضن التعليمية الشرعية درّسُوها، وتوسعوا في الرد عليها وناقشوها، ولكن كما قال ذوو العقل والأفضالْ، ما كل ما يُعلَمْ يقال، وهذا المنهج السلفيِّ كما قال الفتي الذكي عليّ رضي الله عنه "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله"، أم تريدون أن تصبوا على نار الفتنة الوقود، كما قال الفقيه ابن مسعود رضي الله عنه "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وفي صحيح مسلم قال: حدَّثنا علي بن حُجْر السَّعْدِي، حدَّثنا إِسْمَاعِيل، يَعْنِي ابن عُلَيَّة، عن مَنْصُور بن عَبْد الرَّحْمن، عن الشَّعْبِي، عن جَرِير، أنه سَمِعَهُ يقولُ: أَيُّما عَبْدٍ أَبَقَ، من مَوَالِيهِ، فَقَد كَفَرَ، حَتى يَرْجِعَ إِلَيهِم. قال مَنْصُور: قد واللهِ رُوِي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكني أكره أن يُروى عني ها هنا بالبَصْرَة، قال النووي: معناه أن منصوراً روى هذا الحديث عن الشعبي عن جرير موقوفاً عليه، ثم قال منصور بعد روايته إياه موقوفاً: والله إنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعلموه أيها الخواص الحاضرون، فإني أكره أن أصرح برفعه في لفظ روايتي فيشيع عني في البصرة التي هي مملؤة من المعتزلة والخوارج الذين يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار، والخوارج يزيدون على التخليد فيحكمون بكفره ولهم شبهة في التعلق بظاهر هذا الحديث...) الخ، لله درهم ما أفْقَهَهم بالمآلات، وأعْقَلَهم في سدِّ الطريقِ على ذوي الشبهات، فهل يصل إدراكنا لتلك الدرجات، ونعرف مكامِن الثغرات، فنقْطَعُ الطريق على المنافقين وذوي الشهوات، كما قطعها الصحابة والسلف على أهل الشبهات، فلم يُظْهِروه بحجةِ حسنِ القصدْ وسلامة النيات، فلنقرأ مقالات الأئمة الأعلام، أمثال ابن تيمية شيخ الإسلام، ليحدثنا عن ضرر البَوْحِ ببعض المسائل على الأنام: (إن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء...، وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفهم بها، كما قال ابن عباس لما سأله أحدهم عن قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ...} [الطلاق: من الآية12]. فقال: "ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت، وكفرك تكذيبك بها"... فإذا كان العلم بهذه المسائل قد يكون نافعاً، وقد يكون ضاراً لبعض الناس تُبين لك أن القول قد يُنكر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص دون شخص...)، وهذا كلام آخر قَيِّم، يقوله ابن القيم "فإن لم يأمن- أي المفتي - غائِلَة الفتوى، وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها ترجيحاً لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما "، ويوضح هذا الفن المقاصدي، الإمام المتخصص الشاطبي، إذ يقول، وأجمل بالمقول:(ومِن هذا يُعلَم أنه ليس كل ما يُعلم مما هو حق يُطْلبُ نَشْرُه، وإن كان من علم الشريعة، ومما يُفيدُ علماً بالأحكام، بل ذلك يَنْقَسِم، فمنه ما هو مطلوبٌ النَشْر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يُطْلبُ نَشْرُه بإطلاق، أو لا يُطْلبُ نشرُه بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص...)، ثم يقول: (وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضْها في ذهنك على العقول، فإن قبِلَتْها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوتُ عنها هو الجاري على وفقِ المصلحة الشرعية والعقلية)، كأنه يُخاطِب بعض مُعاصِرِيْنا، وينصح بعض مُتَجرِّئِينا، ويُوعِّي بعض مُفتينا، فهل وَعَى المآل، من لم يُحقِق الوقت والحال، وهل عرضها --قبل النشر- على العقول لِيسْتَبِيْن اللائق بالمقام، قبل أن يَتلَقفها الإعلام والعوام.

 

علينا جميعاً أن نعلم أن الشأن ليس بالاستدلال-فحسب- بالكتاب والسنة، فكل يُجيد هذه المهمة، فالمرجئة والمعتزلة والعلمانيون يستدلون بهما، والخوارج ينطلقون منهما، ولكن للفقه مُقدِماتُه الكثيرة، وله آلاتُه وممهداتِه الغزيرة، لايُدركها إلا من تمكن من علم الأصولِ والقواعد، وختم بعلم المآلاتِ والمقاصد، كله وفقَ منهج السلف الصالح، مع إخلاصٍ وجهدِ مكافح، ومن لم يَتَضلَّع مما سلف لم يُصِبْ في بحثه المَرْمَى، ولم يستحِقّ الاجتهاد أو الفتوى، ولم يُمَيِّز بين الضعيف والصحيح، ولم يَهْتَدِ للصريح من غير الصريح، ولم يُصِبْ في الترجيح، ولم يعرف أصول الاستدلال من النصوص وطرائِقُه، ولم يدْرِ عوارضه وطوارقُه ومضائِقُه، ولم يعرف أنواع الدلالات مفهومها ومنطوقها، وأنواع صريحها(المطابقة والتضمن والالتزام)، وغير صريحها(الاقتضاء والإشارة والإيماء)، ولم يعرف معاني أنواع دلالات الألفاظ الواضحة نصها وظاهرها، وغير الواضحة مجملها ومتشابهها، ولم يفرق بينها وبين مُؤَّولِها ومُفسَّرِها ومُحكَمِها، ولم ولم...، وما يجهلُه بالكم، فلا تَسَلْ -إن تجرأ بدونها- عن أخطائِه الفادِحة، والمزالق القادِحة والفاضحة، والتقليدُ لمثلِه، خيرٌ له مِن الاجتهاد أو الفتوى بجهلِه.

 

لكن المتخصصين من العلماء درسوا ذلك كلَه، وفهموه جلَه، فانْبَجسَتْ لهم من العيون معارف، ومايَزوا بين النصوص كالقومِ الصيارِف، فكانوا أصوبَ فهماً للنصوص، وأكثر داريةً من العوامِ واللصوص، قال ابن العربي: "فإنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ نَصًّا يُدْرِكُهُ الْجَفْلَيْ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَظْنُونًا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِيَرْفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وَيَتَصَرَّفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي مَسَالِكِ النَّظَرِ، فَيَدْرِك بَعْضُهُمْ الصَّوَابَ فَيُؤْجَرُ عَشَرَةَ أُجُورٍ، وَيُقَصِّرُ آخَرُ فَيُدْرِكُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَتَنْفُذُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْعُلَمَاءِ).

هذا، وقد كَتبْتُ ما جَلَبه خَاطِري، وجالَ أمامَ ناظري.

لقد خَاطَرتْ من خاطِري خَطَراتُهُ... لشكوايَ حالاً ضاقَ عن كَتمِها وُسْعي

متحاشياً قَصْدَ الأعيان؛ لأنه ضَربٌ من الغيبة أو البهتان، وليس بَنهْجِ أهلِ الإحسان والإيمان، وسلكتُ به سبيلَ السجعِ المحمود؛ إذ إِحقاقُ الحقِ، وإبطالُ الباطلِ هو المقصود، وتنازلتُ عن كثيرٍ من الأفكار والمعاني، وأوْدَعتُها خَلْفَ الألفاظ والمباني، خوفاً من التكرار، ورجاء الاختصار، والحرُ اللبيبُ تكفيه الإشارة، والمُوجزُ من العبارة، والمرجو من القرَّاء النظرَ فيه بعينِ الإنصاف، والتجنب عن العناد والإعْتِساف، فلعمري إن الغَورَ في الموضوع لعميقْ، والمسلك إليه لدقيقْ، ومثلك يسدُّ الخطلَ والخللْ، ويُقِيلَ العثرةَ والزللْ، والله المستعان على التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق.