تيار هدام يقوض هوية المجتمع المغربي ... التغريب ..مظاهره وأسبابه ونتائجه

التغريب تيار إيديولوجي وثقافي وفكري  يسعى إلى تقويض أركان الإسلام بفرض نمط عيش غربي في مختلف  قطاعات الحياة وشتى شؤونها على شعوب البلدان الإسلامية، حتى يصير المسلم مقلدا للإنسان الغربي في لباسه وأكله وشربه ولسانه وتفكيره وطريقة نظرته لشؤونه الخاصة والعامة،  وفي أدق تفاصيل الحياة وجَلَلِها أيضا؛ فتنهدم بذلك أواصر الهوية الإسلامية خطوة خطوة،  عبر استخدام وسائل وقنوات كثيرة لعل أخطرها وأبرزها قناتا الإعلام والتعليم. فالإعلام ـ  خاصة المرئي منه ـ  يدخل كل البيوت بدون استئذان والتعليم يملأ عقول الناشئة بالأفكار والمعارف، ومتى كانت هذا القناتان مُغربتان إلا وعظمت فرص التغريب وازدادت توهجا في أوساط المسلمين عامة والشباب خاصة.

 

 وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه"، فقال الصحابة: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن".

 

 

مظاهر التغريب
ويرى المفكر الإسلامي المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد التغريب بأنه واقع كوني منذ أزيد من قرنين من الزمان، واستفحل بعد استقلال البلدان العربية والإسلامية المُغَربة، وهذه مفارقة مثيرة للانتباه ـ يضيف أبو زيد ـ  حيث كان من المفروض أن تنعتق هذه الدول بعد نيلها الاستقلال من براثن التغريب بحكم استعمارها من طرف الدول الغربية، مثل حالة المغرب حين احتلته فرنسا بدء من معاهدة "الحماية" عام 1912، فكان تغريبا إجباريا لكن العكس هو الذي حصل لما أضحى التغريب اختياريا من طرف سياسات مُملاة من طرف الدول المُهيمِنة مقابل ضغوطات ناعمة ومساعدات اقتصادية هزيلة".

 

ومس التغريب ـ  وفق المفكر المغربي ـ  جميع قطاعات الحياة بدء من أنظمة التعليم  إلى وسائل الإعلام وتطوير الأنظمة التشريعية لما يُزْعَم أنه ملائم لحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وانتهاء بلغة التدريس والاقتصاد ثم بالتغريب في الاختيارات الأمنية والإستراتيجية، وهذا المنحى الأخير يظهر جليا في إتباع المغرب شأنه شأن الكثير من البلدان الإسلامية لأطروحات ما يسمى "الحرب ضد الإرهاب".

 

ويتحدث الدكتور عبد الله الشارف أستاذ بكلية أصول الدين بمدينة تطوان في كتابه "الاستغراب في الفكر المغربي  المعاصر" عن مظاهر أخرى للتغريب في البلاد الإسلامية والمغرب نموذجا؛ منها "تأسيس المدارس والمؤسسات الفرنسية الداعية إلى التنصير والإباحية، وحث المسؤولين على الدخول في اتفاقيات التبادل الثقافي والتعاون الفكري من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الجامعات الغربية ليخضعوا لعملية التغريب، و "إصلاح" التعليم عبر إدخال برامج غربية ذات أهداف تغريبية، مع إبعاد الشريعة الإسلامية عن التعليم والقضاء والتنظيم الإداري والسياسي والاجتماعي".

 

 

تغريب العالم
وأبرز المقرئ  الإدريسي  أنه لا أمل لكثير من الشعوب الإسلامية في أن تكون لها إرادة الاستقلال الحقيقي طالما أنها مرتبطة بالتغريب وتنهج سياسته في مختلف القطاعات الحياتية، مضيفا أن الأجيال التي تطبق التغريب في بلدانها هي الأجيال التي أخرجت المستعمر من بلادها، مما يطرح أسئلة كبيرة حول أجيال الشباب الحالية التي لم تشهد لا استعمارا ولا احتلالا، وبالتالي يتغلغل التغريب  بشكل جيد في مثل هذه الأجيال الشابة لكونها فتحت أعينها أول ما فتحتها في أجواء مشوبة بروائح التغريب العفنة".

 

وأردف المتحدث بأن أجيالنا الشابة تعاني  من تغريب ثقافي واستقالة حضارية وانبهار مخيف تجاه الغرب، وكان من المفروض أن تحمل هذه الأجيال الفتية مشعل ثقافتنا وهويتنا الإسلامية إلى الأجيال القادمة حتى لا تنقطع بها سبل الاستكبار الثقافي المعاصر.

 

وزاد المفكر المغربي بالقول إنه يجب التمييز بين التغريب وبين التحديث، فالتحديث عملية ضرورية لعالم إسلامي شاخت وشائجه وفترت همته، فهو مطلوب كلما دعت الضرورة إلى ذلك، لكن التغريب مرفوض قطعا حتى أن الباحث الفرنسي المعروف
سيرج لاتوش Serge Latouche  في كتابه "تغريب العالم" استعرض تغريب العالم وإكراهه على الحياة بنمط عيش واحد  في أقل الجزئيات من قبيل تنظيم مسابقات الجمال وطريقة الأكل واللباس، وفي الأمور والقضايا الكبيرة أيضا، مما جعل العالم ـ خاصة البلدان الإسلامية ـ  يعيش تحت وطأة نموذج العالم الواحد الذي يفرض نفسه بقوة".

 

واسترسل الإدريسي بأن العالم لم يشهد طيلة تاريخه الطويل مثل هذه الحالة المَرَضية  عبر العصور المتعاقبة والأزمنة المتلاحقة والإمبراطوريات والدول المتوالية، حيث هيمن التغريب على الروح وعلى الذوق وعلى العقل والجسد..

 

 

الإعلام والتعليم قنوات للتغريب
ولعل تهافت "لوبيات" إعلامية قوية بالمغرب من صحف ومجلات وقنوات تلفزية وجمعيات مدنية على إشاعة التغريب ومد شرايينه في جسد المجتمع المغربي يعتبر من أخطر مظاهر التغريب بهذا البلد المسلم، فقد تزايدت في العقد الأخير  دعوات صريحة أحيانا ومبطنة أحيانا أخرى من طرف شخصيات وصحف ووسائل إعلام إلى الاقتداء بالغرب في كثير من مناحي عيشه، مرة بالمقال ومرة 

 

بالبرامج التلفزية ومرات بالأفلام السينمائية، ومرات أخرى بإقامة مهرجانات غنائية يطبل  الإعلام ويزمر لها  من أجل ترويج قيم  التغريب؛ مثل مهرجان "موازين" الدولي بالرباط واستضاف العديد من الأسماء الغنائية الغربية حتى المعروفة منها بفضائحيتها، وجندت له الدولة كل الوسائل اللوجستيكية والمادية الضخمة من أجل إقامته وتنظيمه في أحسن الظروف والأحوال، غير أنه في آخر يوم من هذا المهرجان  حدثت وفاة حوالي 11 متفرجا وإصابة العشرات بجروح أثناء تدافع الحضور لإحدى الحفلات الغنائية بالعاصمة المغربية خلال دورة السنة المنصرمة..

 

ويلعب التعليم أيضا دورا حاسما في تغريب الأجيال الشابة بالمغرب من خلال الانفتاح المبالغ فيه على اللغة الفرنسية بالخصوص، حتى صارت هي اللغة المفضلة في التخاطب لدى العديدين من النخبة الثقافية والسياسية والاقتصادية بالمغرب، فتلوث اللسان العربي الأصيل بالمغرب بلوثة اللسان الغربي دون مبررات ومسوغات معقولة.

 

 وأبرزت بعض الدراسات المنشورة أن هناك توصيات رسمية تدعو بإلحاح إلى  قيام سياسة لغوية مرتكزة على  اللغات الأجنبية: اللغة الفرنسية في المقام الأول، والإنجليزية في الدرجة الثانية، واللغة الإسبانية في الدرجة الأخيرة.

 

ويتجلى تكريس اللغة الفرنسية ومحاولة تغليبها على العربية في عدد الساعات المخصصة لهذه اللغة في الأقسام التعليمية بالمغرب؛ "فابتداء من السنة الثالثة من التعليم الأساسي يشرع التلميذ المغربي في تعلم اللغة الفرنسية بمعدل 10ساعات في الأسبوع. وفي السنة السادسة من التعليم الأساسي تحظى هذه اللغة بنصيب 33.50 من مجموع الحصص الأسبوعية. وفي الشعب العلمية من التعليم الثانوي ازدادت ساعات تعليم الفرنسية بمعدل 100%.. ثم إن معامل اللغة الفرنسية في امتحان الباكالوريا قد ارتفع من 1 إلى 4، أي بزيادة 400%؛ وذلك كله من أجل تهيئ التلاميذ المغاربة لمتابعة دراستهم العليا في المواد العلمية باللغة الفرنسية  بصفة عادية"، وفق مقتطف من دراسة للباحث المغربي مصطفى الغربي. 

 

ويتمظهر  هذا التغريب الذي وجد قنواته الأساسية لتمريره وتكريسه  من خلال الإعلام والمدرسة في طريقة حديث بعض الشباب ولباسهم الذي لا يوحي بأنهم شباب ينتمون إلى هذه الأمة الإسلامية الأصيلة، حيث بالغ البعض في الاقتداء بالغرب في "موضة" اللباس ذكورا وإناثا حتى تفوقوا على شباب الغرب نفسه في هذا الجانب، ولعل طغيان القيم الاستهلاكية العالمية والتحولات الخطيرة التي تعرفها الأسرة وضحالة التأطير التربوي كلها أسباب أفضت إلى ظاهرة ارتداء الشباب للباس الغربي مع طقوس ليست من صميم عاداتنا ولا تقاليدنا ولا هويتنا من قبيل الوشم على الجسد وارتداء السلاسل والأقراط والتزين بها.

 

 

الانبهار بالآخر
ويؤكد الدكتور مصطفى بنحمزة، عضو رابطة علماء المغرب ورئيس المجلس العلمي لمدينة وجدة (شرق البلاد) أن  التغريب سببه عدم الثبات على هوية الأمة الإسلامية من خلال فصل الإنسان المسلم عن جذوره الأصيلة ليعيش نموذجا حياتيا  ومجتمعيا يتأسى بالنموذج الغربي.

 

وأضاف بنحمزة أن التغريب يكون بانبهار الفرد المسلم بما لدى الآخر وعدم الاقتناع بما لديه من ثقافة وعادات وهوية إسلامية، والشخص المُغرب ينظر إلى الأمم الأخرى نظرة إعجاب وفي نفس الوقت يحتقر ثقافته وحضارته التي نشأ وترعرع فيها".
ويشاطر هذا الرأي الدكتور عبد الله الشارف في كتابه "التغريب.."، حيث يعتبر في حالة بلد كالمغرب أن "البون الشاسع على المستوى العلمي والتكنولوجي والثقافي، بين المجتمع المغربي والمجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان له التأثير العميق في نفس الرجل المغربي، وهو يلاحظ عجزه أمام قوة الغازي المستعمر المتسلح بكل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية".

 

وزاد الشارف بأن  البعض  انبهر بما حمله المستعمر من وسائل تكنولوجية، وأشياء حضارية راقية وثقافة متطورة، وأسلوب "رفيع" في الحياة، فلم يتمالك نفسه واندفع محاولا الاستفادة من هذا الجديد والإصابة منه، مضيفا بأن "هناك عناصر داخل الفئة المنبهرة، ثارت بدافع من الفقر أو الجهل بمبادئ الإسلام، أو من الأمرين معا، في وجه التقاليد المغربية والدينية والثقافية والتراث، وعانقت ثقافة المستعمر وأحبت لغته، وعبرت من خلالها عن مشاعرها وآمالها. وهذه الفئة هي التي نذرت نفسها "عن وعي" لتكريس نفوذ المستعمر وثقافته ولغته، فكان منها كتاب وقصاصون وروائيون وغيرهم..وتبوأ كثير منهم ومازالوا، مقاعد مهمة داخل مرافـق الدولة، خصوصا فيما يتعلق بالإدارة والثقافـة والتربيـة والتعليم".

 

 

النتيجة..شذوذ عن الأمة
واعتبر الدكتور مصطفى بنحمزة أن الاغتراب عن الأمة الإسلامية شذوذ عنها وظاهرة سلبية تدل على ضيق الأفق وعدم المعرفة بالأمة وخصوصياتها، مردفا أن الذين ينفصلون عن أمتهم الإسلامية لا يجدون مكانتهم لدى الآخرين الذين أرادوا الانتماء إليهم من خلال نمط العيش والتفكير والاعتقاد، لأنهم يصرون  على النظر إليهم (يقصد إلى الذين تغربوا) بكونهم غير أصلاء ودخيلون عليهم، وبالتالي لا يستحقون منهم بذل أي مجهود للتعامل معهم كجزء منهم.
وأكد عالم الدين المغربي أن المغترب يعيش  في الضياع لكونه أضاع  ثقافته وعاداته الإسلامية ولم يستطع الالتحاق بالثقافة التي انبهر بها، وهذه الأخيرة لا تجد إمكانية استيعاب من لا ينتمي إليها، مبينا أن الدول الغربية تحاول دوما الفصل بين الأصليين والوافدين عليها، وتنظر إلى الوافدين إليها الراغبين في أن يصيروا  غربيين مثلهم نظرة دونية تتجلى في العنصرية والاتجاهات اليمينية التي تغزو  البلدان الأوروبية لكونها ترى هؤلاء المسلمين "المتغربين" الآتين إليها بأنهم  سبب مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية.

وخلص بنحمزة إلى كون الشخص الذي يحترم نفسه لابد أن يبحث عن جذوره وأن يعمل على إصلاح  الخلل في انتمائه الحقيقي، لا أن يستمر في الارتماء في أحضان ثقافة عير ثقافته وهوية غير هويته وعادات غير عاداته"..