ميزانية جنوب السودان مخصصة لجيش سلفاكير استعدادا للانفصال !
11 رجب 1431
جمال عرفة

باق من الزمن حوالي ستة أشهر ويجري استفتاء جنوب السودان الذي سوف يتقرر علي أساسه استقلال جنوب السودان وانفصاله عن الشمال أو بقاءه موحدا مع الشمال ... ولأنه إذا أردت أن تعرف توجهات دولة أو إقليم ما فما عليك سوي أن تراقب ميزانيته بدقة متناهية ونسب الصرف المختلفة علي الأنشطة المتنوعة لتكون علي بينه من المستقبل.. فقد حاولت تطبيق هذه النظرية علي ميزانية حكومة (دولة) إقليم جنوب السودان الذي يستعد لإجراء استفتاء (بالانفصال أو الوحدة مع الشمال) في 9 يناير المقبل 2011 ، من خلال المعلومات الشحيحة المتوفرة عبر مصادر مختلفة ، فجاءت النتيجة موحية أكثر بأمرين : (الأول) أن حكومة الجنوب (لا شعب الجنوب بالضرورة) تتجه للانفصال ، و(الثاني) أن إقليم الجنوب يتجه لمخاطر حرب أهلية داخلية حقيقية سواء أستقل أو أستمر متحدا مع الشمال لوجود خلل واضح في الميزانية باتجاه مرتبات موظفي الدولة وجيش وتسليح الجنوب فضلا عن قصر هذه الميزانية تقريبا (90%) علي الصرف علي عاصمة الجنوب جوبا فقط وإهمال باقي مدن الجنوب التسعة الأخرى !.

 

ففي أعقاب توقيع اتفاقية نيفاشا لسلام الجنوب عام 2005 وبدء تقاسم النفط والثروة وحصول الجنوب علي 50% من عوائد النفط ، بدأت ميزانية الجنوب (التي تعتمد في حوالي 59-99% منها علي النفط) ، تتضح شيئا فشيئا وتزيد عاما بعد عام .. حيث بدأت بـ 800 مليون دولار عام 2005 ، ارتفعت الي 3.4 مليار جنية سوداني (حوالي 1.44 مليار دولار ) ، بالإضافة الي 3.01 مليار جنية حوالي 1.3 مليار دولار) أجازها المجلس التشريعي لحكومة الجنوب في أكتوبر 2008 خصصت (بحسب تلميحات وزير المالية الجنوبي) حينئذ لتسليح جيش الجنوب (أي بإجمالي 2.7 مليار دولار عام 2008 ) ، ثم عادت هذه الميزانية لتتقلص الي 1.52 مليار دولار عام 2009 (بسبب إنهيار أسعار النفط الي 40 دولار للبرميل) ، ثم أرتفعت الي 2.5 مليار دولار في ميزانية عام 2010 الحالي .
والظاهرة الملفته هنا أن غالبية هذه الميزانية كانت تذهب اولا للتسليح والانفاق علي المسئولين والجيش الشعبي ، وثانيا للانفاق علي العاصمة (جوبا) التي يقطنها وزراء الجنوب وكبار مسئولي الحركة الشعبية في حين يذهب الفتات الي باقي المدن الجنوبية العشرة التي يتشكل منها الأقليم الجنوبي ككل !.
ويمكن الاستدلال علي هذا من تصريحات لوزير المالية الجنوبي نفسه لوكالة رويتر بتاريخ 17 أكتوبر 2008 ، وكذا من دراسة صدرت لإدوارد توماس من المعهد الملكى للشئون الدولية Chatham House ) عام 2009 تحت عنوان : (تامين اتفاقية السلام الشامل فى السودان فى مواجهة الريح العاصفة) .

 

فعندما طالب وزير مالية جنوب السودان (كول اثيان) برلمان جنوب السودان الموافقة على ميزانية تكميلية للميزانية الأصلية تعادل نحو ثلثي الميزانية (61% تقريبا) في أكتوبر 2008 ، تحدث مباشرة عن الحاجة لها بسبب "الانفاق الزائد من القوات المسلحة" ، وأبلغ برلمان الجنوب – بحسب رويتر - أن "من الضروري أن يغطي نفقات أخرى تبلغ 2.08 مليار جنيه سوداني (980 مليون دولار) علاوة على 3.4 مليار جنيه تتضمنها بالفعل ميزانية عام 2008 " وقال الوزير لرويترز أن : (أكبر الجهات التي تجاوزت النفقات المخصصة لها هي جيش جنوب السودان الذي أنفق ميزانية بلغت نحو مليار جنيه بحلول يونيو 2008) .
أما دراسة (المعهد الملكي للشئون الدولية) فتحدثت عن أن 30% من مصروفات حكومة الجنوب المعلنة عام 2008 ذهبت للأمن والدفاع ، بخلاف المصروفات الاضافية التى خصصت للجيش الشعبى (وبخلاف ما هو سري من تقديرات غير رسمية) ، وقالت أنه تم تخصيص 45% من العائدات للمرتبات ( موظفي الحكومة والجيش من الحركة الشعبية بصورة أساسية) ، و28% لمصروفات التنمية فقط ، : وتخصيص حوالى 90% من المرتبات ونحو 67% من مصروفات التنمية فى عام 2008 علي الحكومة في العاصمة جوبا وحدها (مقابل 10% لتسع ولايات !!) .

 

ماذا تعني أرقام الميزانية ؟
لا شك أن هذه الأرقام (الشحيحة مع هذا) ، توحي بامرين كما قلنا في بداية مقالنا ، هما أن حكومة الجنوب لا يهمها سوي الصرف السخي علي موظفيها وجيشها الجنوبي وتسليحه بصورة لا توحي بأن هناك رغبة في تنمية الجنوب رغم العوائد النفطية التي تتدفق عليه من حصته من إقتسام الثروة ، بقدر ما هناك رغبة في التسلح وبناء جيش جنوبي يقارع جيش الشمال ويسعي لتأكيد الانفصال أو الانفصال الفعلي لو حدث تراجع شمالي عن تنفيذ أتفاقية سلام نيفاشا فيما يخص استفتاء تقرير مصير الجنوب .
فأنباء تسلح الجنوب ليست مجرد ادعاءات، وإنما هي حقائق خطيرة كشفتها تقارير للبنك الدولي وتقارير دولية تحدثت عن مد إثيوبيا للجنوب بدبابات حديثة، فضلا عن فضيحة السفينة الأوكرانية التي اختطفت أمام سواحل الصومال في أكتوبر 2008 وكانت تحمل سلاحا ثقيلا للحركة الجنوبية مسجلا باسم كينيا، وفق مسئولين بحزب المؤتمر الحاكم ، وقد أكد تقرير حديث للبنك الدولي صدر في يوليو لماضي 2008 أن الجنوب - وكذلك الشمال- يخزنان السلاح استعدادا لاستفتاء تقرير المصير والانفصال وربما لجولة أخرى من الحرب لو حدث ما يعكر صفو العلاقات، أو الصراع على مناطق النفط التي يقع أغلبها في الجنوب، وحذر التقرير مما أسماه بـ"العسكرة المفرطة".

 

ونقلت تقارير غربية في نوفمبر 2008 عن دبلوماسي غربي - بحسب وكالة رويترز- قوله: "إن نفقات الجيش الشعبي الجنوبي الذي يقدر بـ 170 ألف رجل -ما يجعله أحد أكبر الجيوش في إفريقيا- في ازدياد، وإن الميزانية السنوية الضخمة لهذا الجيش تبلغ قيمتها 1.5 مليار دولار، ولذلك صوت نواب برلمان جنوب السودان في أكتوبر 2008 على منح هذا الجيش 980 مليون دولار أخرى (من أموال النفط) لتضاف إلى الميزانية؛ ما يعني أن ميزانية هذا الجيش السنوية بلغت 2.5 مليار دولار تقريبا" ، وهو بلا شك رقم يكاد يطالب حجم ميزانية الجنوب بدون تنمية بالطبع !.
وهناك إحصاءات رسمية تتحدث عن أن حكومة الجنوب تنال كل شهر تقريبا ما يتراوح بين 160 و240 مليون دولار نصيبها من بيع النفط السوداني وفق اتفاق السلام الذي قضى بتوزيع عائد النفط على الحكومة المركزية وعلى الجنوب وعلى الولاية المنتجة للنفط، ما يعني أنه في العام الواحد قد يدخل خزينة حكومة الجنوب ما لا يقل عن 2 إلى 3 مليارات دولار، هذا فضلا عن الدعم الأمريكي المعلن وغير المعلن؛ إذ تمول الخارجية الأمريكية رسميا عمليات تدريب تهدف إلى تحويل الجيش الشعبي إلى "جيش محترف".
وسبق أن أعلن برلمان الجنوب رسميا عن تدشين قوات جوية وبرية وبحرية جنوبية (!) بخلاف عمليات تدريب الجيش الجنوبي على أيدي خبراء أمريكيين وغربيين بدعوى تأهيل قوات الحركة المتمردة السابقة لتصبح جيشا نظاميا منظما، الأمر الذي دعا الخرطوم بدورها لتحديث قواتها العسكرية ليس فقط لمواجهة انفصال الجنوب وإنما لمواجهة المؤامرات عليها ومحاولات تفتيتها.

 

الحرب الأهلية في الجنوب حتمية !
أما الأمر الثاني الأخطر الذي تكشفه ميزانية الجنوب – سواء حدث الانفصال أو بقي الجنوب ضمن السودان الموحد – فهو أن هذه الميزانية (الغير عادلة في التوزيع علي اقاليم الجنوب العشرة) والتي تهتم فقط بأنصار الحركة الشعبية وتابعيها ومناطق تمركز الحكومة في جوبا ، لم ولن تجعل الوحدة جاذبة كما يطالب الجنوبيون الشمال والدول العربية بجعلها هكذا عبر مزيد من الاستثمارات ومشاريع التنمية في الجنوب عموما ، بل وستؤدي هذه التفرقة في المعاملة بين العاصمة جوبا وباقي المدن الجنوبية التي تعاني الفقر انهيار البني الاساسية والتعليم والصحة وغيره ، ما سيتبعه بلا شك حالة من الفوضي والاضطراب في الجنوب سواء استقل أو بقي موحدا ما دامت حكومة الحركة الشعبية مستمرة في هذه السياسة لإرضاء أنصارها ووزراءها وجيشها علي حساب القاعدة العريضة من الجنوبيين !.
وإذا أضفنا لهذا الانتماء القبلى الذي يظل لاعباً سياسياً بالغ الأهمية فى جنوب السودان، والصراعات التي تجري بين القبائل السودانية من جهة والحركات الجنوبية المسلحة من جهة أخري سندرك حجم المخاطر المحدقة بالجنوب لو أنفصل والي أين سيتجه ، بعدما يختفي العدو التقليدي (الخرطوم) ويظهر العدو فيما بين الجنوبيين بعضهم البعض وتبدأ عمليات تصفية الحسابات ، وهي مسألة مستمرة والصراعات لا تتوقف حتي قبل الانفصال بين الفصائل الجنوبية واحصاءات الأمم المتحدة تتحدث عن الاف القتلي في هذا الصراع القبلي والحزبي الجنوبي الذي سوف يتعمق بلا شك بسبب الانتماءات والامتيازات القبلية ووجود ميلشيات خاصة ضخمة جنوبية متفرقة ن بخلاف التهديد المتواصل الذى يمثله جيش الرب الأوغندي علي جنوب السودان .

 

حكومة الجنوب وكشف الحساب!
ربما لهذا كتب الجنوبي (ذال مريال رونق) في صحيفة (الصحافة) السودانية 18 /3 /2008 ، يقول : "ان اولويات الصرف لدى حكومة جنوب السودان التي تسيطر عليها الحركة الشعبية، اتجهت الى الصرف علي رواتب وخدمات او مخصصات السادة الوزراء واعضاء المجالس النيابية في ولايات الجنوب العشر ، وكنا نتوقع ان تتجه اولويات الصرف على الصحة، والتعليم، والخدمات الاساسية كالكهرباء ومياه الشرب النقية " !؟.
واضاف ان : "المصالح والمطامع الشخصية اصبحت مقدمة على المصلحة العليا ومصالح الشعب فكيف يعقل ان تصرف 3.1 مليار دولار على السادة الوزراء واعضاء المجالس التشريعية الولائية دون ان نعير ادنى اهتمام بالمواطن الذي ندعي بأننا حاربنا من اجله. وهو ذات المواطن الذي دفع الكثير من اجل الثورة (يقصد حرب الجنوب ضد الشمال) ولولاه لكانت الثورة مجرد ذكريات " .
ويتساءل (رونق) بحسرة : "اين ذهبت الميزانية؟ ومدينة جوبا المفروض انها عاصمة الاقليم الجنوبي لا زالت تضج بالاوساخ والبعوض وفوق ذلك الغبار الكثيف الذي يلف سماء المدينة نسبة لعدم رصف وسفلتة الطرق الداخلية للمدينة ( قرنق كان قد وضع خطة لرصف أكثر من 13 طريقا تربط ولايات الجنوب مع بعضها البعض وكذلك جبال النوبة النيل الازرق) !.

 

وبدلا من اهتمام المسؤولين بحكومة الجنوب بالتعليم "خرجوا علينا بمنهج جديد لا يراعي الخصوصية الثقافية لتلك الاقاليم حيث عمدوا الى استجلاب مناهج من دول شرق افريقيا تعتمد الانجليزية .. وهذا ما لا نرضاه لان المنهج في تقديري هو تشكيل عقل الانسان من عمر الخامسة حتى التخرج للعمل العام مستصحبا معه قيم وعادات وتقاليد مجتمعة ولماذا لا ندرس المنهج السوداني طالما اننا سنضع منهجا جديدا؟ " .
اما في مجال الخدمات الاساسية ، فان الكهرباء والماء – يقول رونق – فهما تعتبران من الكماليات وليست من الضرورات نسبة لعدم وجودهما او توفرهما اصلا، وبما ان النيل يجري من الجنوب الى الشمال فان اهل الجنوب يعانون من عدم توفر المياه النقية الصالحة للشرب، اما الكهرباء فان اهل الجنوب لا زالوا يعيشون في بياتهم الظلامي !.

 

أقراوا ميزانية حكومة الجنوب حتي تعرفوا الي اين يتجه الجنوب والي اين يتجه الصراع هناك ، فمن الواضح أن النوايا ليست فقط مبيته علي الانفصال ، بل والدخول في حرب جديدة بدعاوي الحصول علي حق الجنوب في النفط بسبب استمرار الخلافات حول نسب الثروة وحدود أبيي بعد التعداد السكاني ، ولكنها هذه المرة ستكون بين دولتي الجنوب والشمال !.