أطفال سرقت منهم البراءة
24 جمادى الثانية 1431
صفية الودغيري

كنا أطفالا صغارا نحمل بين أناملنا قطع الحلوى، لا نعرف إلا متعة اللعب. نراقص الدمى ونلقي بالكرات الملونة أمامنا تتدحرج، فتهزنا النشوة والفرحة ولا نكترث لغضبة أحد .

 

تذوقنا معنى الحرية وارتشفنا قطراتها الندية، كانت أقدامنا تتحرك بخطى بطيئة، حافية على بساط الأرض،  نحبو وبأيدينا نصفق .

 

أدركنا معنى التحدي، فكنا نرفع أيادينا الصغيرة وهاماتنا للأعلى تتقدم ، وإن هوت أجسادنا الفتية من تعب كررنا المحاولة مرات حتى نقف .

 

تعلمنا كيف نخطو أول الخطوات ونبتسم ، بعدها نما فينا الطموح فصرنا نركض في كل الاتجاهات ولا نتعب.

 

دخلنا المدارس وأحسسنا بصعوبة النطق بالحرف وألسنتنا تتلعثم ، شعرنا بلحظات الخوف حين نمتحن، ومع ذلك كانت جرأتنا أكبر من معنى الخوف بداخلنا يرتعد .
كانت الأشياء حولنا جميلة، نراها بعيون حدقتها لم تتسع ، لتكتشف صور هذا العالم الكبير، بكل ما يحمله من ألوان الخير والشر ، كان يكفينا أن عيوننا لا ترى إلا عالمنا بستانا أخضر ، تتفتح فيه الزهور بكل ألوان الربيع المزركش .

 

كبرنا ودخلنا الجامعات وتخرجنا من تخصصات مختلفة ، وحرف شتى ، توسعت مداركنا وتجاربنا، وصرفتنا الحياة بأعبائها وأثقالها وشدائدها عن ساحات اللعب، وولجنا أبواب أخرى، فتحت أمامنا مساحات أكبر من بساط الأرض التي كنا عليها صغارا نحبو ونلعب .

 

صرنا آباء وأمهات، ولدينا أطفالا يعيشون نفس لحظات العمر التي عشناها ، ونفس الأطوار التي مررنا بها، ونفس الأحاسيس على اختلاف بيننا وبينهم في الأذواق والاختيارات .
ولكننا اليوم نسينا أننا كنا نشبههم حتى في معالم الصور، وتقليد الحركات، لأن الذاكرة صارت تحمل قضايا وهموما أكبر من حجم ذكريات وأحلام الطفولة
وبدأنا نمارس على أطفالنا أنواعا مختلفة من التعذيب النفسي أو الجسدي، مع أننا نحبهم ونتمنى لهم حياة أفضل، ونسعى لنحقق أحلامهم وطموحهم، ولكننا قد نخطئ بأسلوبنا وطريقتنا في التعبير عن حبنا لأطفالنا، فمنا من لا يعرف كيف يحبهم، ولا كيف يشعرهم بحبه، ومنا من يعجز عن أن يقدم لهم الحب الذي هم بحاجة إليه .

 

فهل من الحب الصادق أن تسرق فرحة طفلك لمجرد أنه يمسك بخيوط الدمى أمامك تتحرك، أو لأنه يرسل كرته في اتجاهات مختلفة صوتها يزعجك، وحركتها تضايقك، فتسرع الخطى لتخطفها قبل أن تمسكها يده،  ثم فجأة يبحث عنها وأنت تنتشي بانتصارك عليه، وتستمتع لأنك أخفيتها وعالجت طنين أذنك ؟؟
هل تعتقد أيها الأب وأنت أيتها الأم أنكما تملكان بإقدامكما على مثل هذا التصرف تعبرا عن حبكما لطفلكما؟ أو أنكما كذلك تنجحان في جعله يحبكما باختياره؟

 

لو أن كل طرف منكما عاد سنوات  إلى الوراء، وتذكر لحظات مرت من عمره ، هي كعمر طفله الصغير، ألم يكن حينها يحب اللعب، ويستمتع أنه يمسك بالكرة ويحرك الدمى والعرائس، وقد يمل منها فيكسرها ويحطمها، ويطلب اقتناء غيرها  ألم تكن حركات كل منكما تضايق من حوله، ومع ذلك كنتما تستمتعان أطفالا بفرحة اللعب، ونشوة الحركة وخفة الركض دون كلّ أو ملل.. ألم تكن ملابسكما الجميلة والنظيفة من كثرة اللعب  تتمزق وتتسخ، ومع ذلك لا تهتمان إلا لمتعة اللعب ,.

 

هل من الحب الصادق أن ترغم طفلك على فعل ما يكرهه، فتجبره على أن ينام ويغمض عينيه في الظلام، ثم ترحل عنه وتتركه وحيدا يتخيل أمامه كل الصور التي ترعبه؟
إنك ومن غير أن تقصد زرعت بداخل طفلك معنى الخوف صغيرا، ويوما ما سيكبر هذا الخوف بداخله وحشا يدمره، وزرعت بداخله معنى أن يقبل ما يكرهه ويوما ما لن يملك أن يدافع عن حقه أو أن يناضل لأجل أن يحافظ عليه .

 

هل تستطيع أن تجبر نفسك الآن وأنت كبير على أن تنام ، وأنت لا تستطيع ذلك لأي سبب من الأسباب، فلماذا تفرض على طفلك ما أنت عاجز عن فعله ؟
وعندما يرفض أن يتناول نفس وجبات طعامك التي تحبها أو التي اخترتها لأنها تناسب ذوقك، ونظام تغذيتك ومع ذلك تجبره على أن يأكل ما تعافه نفسه ماذا تفعل به ؟ إنك تحرمه من التعبير عما يشتهيه،  تحجر على ذوقه واختياراته .

وعندما تختار له ملابسه بنفسك وترى أنها مناسبة له، مع أنها لا تعجبه، فيقول لك : ولكن أنا لا أحب هذه الألوان ولا هذه الأشكال ولا هذه الرسوم .. ومع ذلك يكون جوابك : عليك أن ترتدي ما اخترته لك، لا ما اخترته أنت ، ماذا فعلت ؟
إنك جعلته  يرتدي عباءتك أو جلبابك أو قميصك .. لقد صار مثلك يرتدي وهو طفل صغير.

 

وعندما تجلس أمام جهاز التلفزيون وتبدأ تنتقل من قناة لأخرى ومن برنامج لنشرة أخبار.. وتمر الساعات ولا تنتبه أن طفلك بجانبك، يترقب أن تشعره بوجودك ووجوده معك، وفي كل لحظة يوقظك من غفلتك ويعبر لك عن رغبته في أن يشاهد برنامجا هو يحبه، وأنت  مع ذلك تمهله وهو يظل  يلح ويلح ويلح وأنت لا تنصت لصوته المتكرر، وتصر على أن تتابع ما تشاهده ماذا فعلت ؟ إنك علمت إبنك أن يشاهد برامج الكبار، وأن ينصت لأشياء لا يدرك معناها بعد، لقد أفسدت طبعه الصغير، وفتحت عينه على عالم الكبار وهو لا يملك بعد مدارك التمييز، ولم يبلغ بعد سنوات الرشاد..

 

طفلك ليس كبيرا ليتفهم  حكمتك، ولا نظامك، ولا ترتيب الوقت، ولا الذوق الرفيع من الساقط، لم ينضج فكره بعد، ليعرف أن للعب وقتا وللنوم وقتا، للراحة وقتا وللجد وقتا، لم يحسن بعد اختيارت صحيحة في الأكل أو اللبس ..
لم يحسن بعد لغة الخطاب، واختيار الكلمات، وحركة الجسد ، وتعبيراته باتزان

 

دعه يتعلم، ولكن امنحه وقتا ليتعلم، لا تعجل عليه، فالشجرة لا تنمو فور زرع نباتها إلا بعد فصول من السنة حتى تثمر، لا تحرمه من فرحة إحساسه، ولا من نشوة حريته، ولا من رغبته بالصراخ، والركض في زوايا حجرته، واركان بيته.  دعه ينطلق، ولكن أحرسه بعنايتك وبتوجيهك الصحيح له، وبإرشادك الرفيق به،  لا تكن معه متسلطا ولو كان ذلك لمصلحته، إنما لكل مرحلة من عمره رفقا وشدة في التعامل، فتوسط وضع الميزان بعدل وإنصاف، فيعدل معك في بره بك وعدم عقوقه لك.

 

تأكد بأنه يوما ما سيكبر وستقل حركته، وتتقيد خطواته، وتثقل كاهله أعباء الحياة، وستتحكم فيه مسؤوليات وواجبات، وحينها سيتذكر ما كنت تزرعه، وما كنت تقدمه له ، وسيعي حينها أنك كم كنت تحبه وتختار كل ما في مصلحته.

 

طفلك لا يستوعب معنى صوتك العالي، ونبل مقصدك، وأنك تحاول أن تحكم جماح تصرفاته وتلجمها بلجام التأديب والتهذيب، إنما يستطيع أن ينصت لكلمتك ولفكرتك بأسلوب هادئ ورزين، حينها  ستنجح في أن تزرع بداخله قيما وفضائل تظل توجهه وترشده، لا تجعله يكره سماع صوتك، ويخاف منك كلما حركت شفتيك، ويتمنى لو يقفل أذنيه حتى لا يسمع صوتك يرتفع، لا ترغمه أن يفعل ما تريده فقط لكي  يهدئك، ويسكن ثورة جموحك ، ويقول لك: حاضر سأنفذ أوامرك فقط توقف عن الصراخ .

 

طفلك لا يستطيع أن يعرف ما يجري بينكما كزوجين ، لا يفهم أن بداخل كل بيت مشاكل زوجية، تحتاج لتحل وإلى حوار ونقاش وجدال، قد يتأجج حينها الغضب  وقد تثور الانفعالات، وتعلو الأصوات، فتلفظ الألسن كلمات كسهام جارحة، لهذا سيقلق وسيشعر بالألم مع أول مشهد يروعه، سيراوده إحساس بعدم الأمان كلما تكررت فصول هذا المشهد، وسيتمنى لو بإمكانه أن يوقف هذا النزيف من الألم، أو أن يهرب خارج أسوار بيته ويبتعد ,

 

ستتحول أحلامه الجميلة إلى حلم واحد هو أن يجد سكنا، وأن يمتلك بيتا هادئا ومريحا يشعر بداخله بالطمأنينة والسعادة والحب الحقيقي .
طفلك لا يسأل نفسه هل أبي يحب أمي أو هل امي تحب ابي،  لأنه لا يعرف معنى الكره، ولكنه يسأل فقط لماذا يصرخان ؟ لماذا يتشاجران ؟  لماذا لا يتكلمان بهدوء ؟ لماذا أمي تبكي في حجرتها ؟ لماذا أبي يضرب أمي ؟ لماذا  أمي تغادر البيت وتحمل حقيبتها ؟ لماذا أبي يغادر حجرته وينام  في حجرة أخرى ؟ لماذا هما يتصرفان هكذا ؟ ..

 

طفلك أمامك حائر، لا يفهم ما يجري حوله، لا يستطيع حتى أن يسألك ليفهم ، ولا أنت تملك أن تفسر له كل ما يحدث، إبنك لم يكبر بعد ليفهم ما يجري ولا ان يفهمك، وليس مستعدا ليعيش معاناتك ومعاناة والدته ,,
لعل ما قدمته لا يتعدى أن يكون مشهدا واحدا من مشاهد معاناة أطفال كثيرة ، وليس كل الأطفال تعيش هذه المشاهد الأليمة، ولا كل الآباء يتصرفون بقسوة، ولا كلهم يسيئون معاملة أطفالهم أو التعبير عن حبهم لهم .
ليست كل البيوت أسقفها منهارة، وأعمدتها غير ثابتة، فهناك البيوت الهادئة المستقرة، وهناك الآباء والأمهات القدوة، كما أن هناك ما هو خلاف ذلك وعرضه واجب للحفاظ على هذا النشء الصغير حتى يشب ويترعرع .
أطفالنا بحاجة إلينا، لنجعلهم يحيون الحياة الكريمة، لندعهم يحلمون أحلامهم الصغيرة، ويمارسون ألعابهم وأنشطتهم، لنوجههم برفق، ونحترم أفكارهم، لأنها ستكبر معهم، لنخلد بذاكرتهم ذكريات كلما استرجعوا شريطها وهم كبارا علت وجوههم الفرحة، وغمرتهم السعادة.

أطفالنا سيحاسبوننا يوما لو قصرنا في حقوقهم، وسيقفون أمامنا ليقولوا لنا بصوت عال : ليتنا كنا نملك ان نختار آباء سواكم، لأنكم حرمتمونا براءة الأطفال