مقبرة "مامن الله في القدس .. نموذج للتطهير العرقي الصهيوني ضد أثار المسلمين (2-2)
13 جمادى الثانية 1431
جمال عرفة

التاريخ المعاصر وتاريخ الاعتداءات الصهيونية علي المقبرة .. 95% من القبور نُبشت !

 
 
أحيطت مقبرة مأمن الله في أواخر العهد العثماني بسور عام 1318هـ وأستمر المسلمون في دفن موتاهم حتى عام 1927م حيث أصدر المجلس الإسلامي الأعلى حظرا على دفن الموتى فيها بسبب اكتظاظها واقتراب العمران إليها ، وقام المجلس الإسلامي الأعلى أيام الانتداب البريطاني على فلسطين بترميمات متكررة لسور المقبرة وغرفة الحارس وتسوية منخفضات وخصوصا تعبئة حفر المحجر بالتراب ، ثم رغبة الأوقاف في تمهيد مساحة 150 متر في أرض مقبرة مأمن الله الجهة الغربية الشمالية وإزالة الضرر الناتج عن المياه المتسربة من البركة ، وقلع الأعشاب وزرع الأشجار على جانبي الطرق داخل المقبرة ، ومنع الاعتداءات على اختلاف أنواعها مما فيه رفع الضرر عنها والمحافظة على حرمتها .
ويدو أن كل المشاريع التي صممت في عهد الانتداب البريطاني كانت تحمل في ظاهرها صيغة الاعتناء والمحافظة العينية الجمالية لمقبرة مأمن الله لكنها في باطنها كانت تحمل هدفا أساسيا ، تقوم عليه تلك التصاميم والمشاريع وهو إزالة مقبرة مأمن الله عن الوجود ، كمنطقة دخلت طريق الازدهار العمراني والصناعي والسكني ، فمقبرة مأمن الله كأثر إسلامي له حرمته ، تشكل بمساحتها التي تزيد عن 150 دونماً تقوم حائلة دون الاستفادة من هذه المساحة الشاسعة وسط محيط يقع بالحياة .
ولعل المجلس الإسلامي الأعلى لم يتنبه إلى هذه القضية عندما قرر توقيف دفن موتى المسلمين في المقبرة عام 1927م وكذلك قرار دائرة الأوقاف بإقامة عمارة أو نزل على أرض الوقف التابعة لمقبرة مأمن الله .
وقد نشأت فكرة إنشاء عمارة على أرض الوقف في مأمن الله في بداية السنوات الأولى من العشرينات، وقد راودت هذه الفكرة المسؤولين وقتئذ لأجل الاستفادة من ريعها وتزييد واردات الأوقاف حتى لا تبقى هذه الأرض الثمينة بدون استفادة منها .
وقد ظهرت وجهات نظر متباينة بين القبول والرفض لهذه الفكرة ، وفي تاريخ 14/7/1926 وافق قوميون الأبنية على إعطاء الرخصة إلى دائرة الأوقاف للبناء على أرض الجبالية ، وبدأ العمل بهذا النـزل وانتهى العمل منه عام 1929م ، وجعلت العمارة فندقا من الدرجة الأولى وأطلق عليه اسم فندق بالاس بإدارة ثابت درويش أحد رجال القدس في تلك الآونة ، ونجح الفندق وصار أشهر فندق في بيت المقدس للسائحين والزوار وخاصة الأمريكان ولكن قيام شركة فندق الملك داوود بعد افتتاحه بقليل ، وبناء ها الفندق الكبير مواجها لبرج أو محراب داوود الذي يحمل اسمه كان يقي على بالاس وفي سنة 1933م أعلنت دائرة الأوقاف عرضا لتأجير العمارة ، وعلى أية حال ، فإن عمارة الأوقاف مرت بظروف وملابسات كبيرة كلها دارت حول مصلحة زيادة واردات الأوقاف ، البناية ما زالت قائمة ولم تنل منها أيدي البلى ، وما زالت تحتفظ بجمالها ورونقها ، ويظنّ إنها تستعمل لبعض الدوائر الحكومية الإسرائيلية .
اعتداءات مبكرة على المقبرة
·   في زمن الانتداب البريطاني خاصة بداية سنوات الثلاثين تعرضت مقبرة مأمن الله لانتهاكات متكررة ، وفي ظل مخطط وضع سنة 1933 م لمقبرة مأمن الله وهو في جوهره يقتطع جزءا للبناء السكني وآخر للبناء التجاري ، وثالث يكون حديقة عامة ورابعا يبقى مقبرة ، إلا أن الجزء الأكبر من هذا المخطط نفذ في أواخر سنوات الستين وما بعدها .
·   بتاريخ 6/7/1935 كتب مدير الأوقاف العام إلى مأمور أوقاف القدس يقول : أخبرنا أناس ، أن اليهود يلقون بأنقاض أبنية لهم في تربة مأمن الله ، فأرجو أن ترسلوا من يتحقق من الأمر وأن تمنعوا المعتدين إذا كان الخبر صحيحا ، وان تعلمونا بالنتيجة .
·   بتاريخ 15/7/1937 كتب مأمور أوقاف القدس إلى مفتش صحة بلدية القدس – وكانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك ، الذي كان يعين أعضائها ويشرف عليها ، علمنا من أن مواسير مياه قذرة ممدودة في الطريق العام وتصب في مقبرة مأمن الله بصورة مخفية ، وبعد البحث ، علمنا من ناطور المقبرة أن المواسير المذكورة مربوطة من دار عائلة لأحد اليهود غربي المقبرة ، فنرجو التفضل بالكشف عليها لرفع الضرر وتغيير مجرى المياه عن المقبرة ، حرمة لها .
·   بتاريخ 9/12/1937م أصدر وكيل أوقاف القدس إخطاراً لاثنين من عمال بلدية القدس لقيامهم بهدم قسم من سور المقبرة ، جاء فيه ثبت لدي إنكم هدمتم قسما من سور مقبرة مأمن الله وإنكم ألقيتم في المقبرة المذكورة كثيرا من الأنقاض والأوساخ ، وبما أن هذا العمل أضر الأوقاف ، ضررا عظيما ، وبما أنكم بعملكم هذا تعديتم على مصالح الأوقاف ، لذلك فإنني أخطركم برفع الأنقاض والأوساخ التي ألقيتموها داخل المقبرة ، وإذا تأخرتم أو امتنعتم عن ذلك ، فإنني اضطر لمراجعة الطرق القانونية لتغريمكم بكل عطل وضرر أصاب الأوقاف من جراء عملكم هذا .. .
·   بتاريخ 13/12/1937 كتب وكيل مأمور أوقاف القدس ،إلى رئيس بلدية القدس ، يقول : علمت أن احد مهندسي البلدية أمر عماله بهدم قسم من سور مقبرة مأمن الله من الجهة الشمالية وإلقاء أتربة الشارع المجاور في المقبرة ، وبما أن للمقابر حرمة لا يجوز انتهاكها فإنني استغرب جدا ، كيف أباح حضرة المهندس لنفسه انتهاك تلك الحركة ، بدون استئذان دائرة الأوقاف وإعلامها بالأمر ، ولقد جرأ حضرة المهندس بعمله هذا جميع المجاورين ، فأصبحوا يتخذون المقبرة محلا لرمي الأقذار ، وطريقا يمرون منه ويتعدون على قبور الأموات ، لذلك فإني أوجه نظر سعادتك لهذا الأمر ، راجيا أن تأمروا برفع الأتربة التي ألقيت في المقبرة وبناء السور كما كان ، وتحولوا دون الإقدام على مثل هذا العمل في المستقبل .
·   في شهر 4/1947 استولى الجيش البريطاني على مقبرة مأمن الله   وأقام فيها ، كما قام بهدم أجزاء من سور المقبرة ، حيث أرسل حارس المقبرة ، كتابا إلى مأمور أوقاف القدس بتاريخ 4/6/1947 يعلمه فيها بذلك .
 
نكبة واحتلال وطمس للمعالم
وفي عام 1948 احتلت القوات الصهيونية ، الجزء الغربي من القدس ، فسقطت من ضمنها مقبرة الشهداء والعلماء والصالحين (مأمن الله) .وفي نفس العام أقرت (إسرائيل) قانونا بموجبه يعتبر جميع الأراضي الوقفية الإسلامي وما فيها من مقابر وأضرحة ومقامات ومساجد – بعد الحرب – بأراضي تدعى أملاك الغائبين ، وأن المسؤول عنها يسمى حارس أملاك الغائبين وله الحق التصرف بها ، فيما استثنى القانون أملاك الطوائف الأخرى من هذا القانون ، أي حارس أملاك الغائبين يستطيع التصرف فقط بأوقاف المسلمين ، رغم ان هذا التسجيل الخاطئ لا يزيل صفتها الوقفية المقررة بموجب الشريعة الإسلامي، وبذلك دخلت مقبرة مأمن الله ضمن أملاك حارس أملاك الغائبين لدى دائرة أراضي (إسرائيل) .
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إسرائيل تقوم بتغيير معالم المقبرة وطمس كل اثر فيها ، حتى لم يتبقَ فيها أقل من خمسة بالمئة من القبور التي كانت موجودة فيها ،وقدرت المساحة المتبقية منها بحوالي ثمن المساحة الأصلية أي حوالي 19 دونما .
ففي عام 1967 حولت المؤسسة الإسرائيلية جزءا كبيرا من المقبرة الى حديقة عامة ، دعيت بحديقة الاستقلال ، بعد أن جرفت القبور ونبشت العظام البشرية وقامت بزرع الأشجار والحشائش فيها ، وشقت الطرقات في بعض أقسامها ، كما بني على قسم آخر واشتهرت الحديقة باستعمالها وكرا لممارسة أعمال الرذيلة خاصة من الشاذين اليهود .
وفي أواخر عام 1985م انشات وزارة المواصلات موقفا للسيارات على قسم كبير منها ، ففي كتاب من مساعد مدير الأملاك الوقفية الى مدير الأوقاف جاء فيه : لقد توجهت بسيارة الأوقاف صباح يوم الاثنين 2/12/1985م لزيارة مقبرة مأمن الله في القدس المحتلة ما قبل عام 67 وشاهدت ما يجري في المقبرة .
وقد رصدت تقارير الجامعة العربية ومعهد الأبحاث التطبيقية (أريج) في القدس، ومؤسسة الأقصى للوقف والتراث الاسلامي بعد التجول في المقبرة سابقا والحديقة العامة حاليا ما يلي :-
أولاً: هناك تغيير واضح وسافر في معالم المقبرة ، حيث أن حوالي 95% من القبور قد نبشت وأقيم عليها بناء .
ثانية : أن القبور المتبقية في المقبرة تستعمل للأعمال غير الأخلاقية ومكان للقمامة .
ثالثاً: أثناء تجوالنا في المقبرة وفي الناحية الشرقية الشمالية شاهدنا جرافات (إسرائيلية) تعمل هناك وقد نبشت جزءا من الجزء المتبقي من المقبرة ، ولدى سؤالي بعض العمال العرب – الذين يعملون هناك – أفادوا بأن الجرافة قد نبشت المقبرة وأخرجت منها بعض عظام الموتى ، وأن الحكومة (الإسرائيلية) تعتزم إقامة موقف للسيارات في منطقة الحفريات .
وفي أعوام 1987،1946،1985 نفذ عمليات جديدة من الحفر لتمديد شبكات مجاري ، وتوسيع موقف السيارات فدمرت عشرات القبور وبعثرت عظام الموتى في كل مكان ورغم احتجاجات المؤسسات الإسلامية ، فان البلدية نفذت مخططها وأجرت الحفريات .
وفي تاريخ 15/1/2000 قامت شركة الكهرباء (الإسرائيلية) بأعمال حفريات في المقبرة ، في الجهة المقابلة بجانب الشارع الرئيسي ، وهو ما تسبب في تناثر عظام الموتى على سطح الأرض ، وذلك بحجة تمديد أسلاك كهرباء في باطن الأرض .
ويستخدم جزء من المقبرة أيضا كمقر رئيس لوزارة التجارة والصناعة (الإسرائيلية).وما هو جدير بالذكر أن من بين الذين كانوا على رأس تغيير معالم مقبرة مأمن الله وساهموا في تحويلها الى موقف للسيارات وحديقة عامة وغيرها وما نتج عن ذلك من نبش للقبور وإزالة لها رئيس بلدية القدس تيدي كوليك .
التطهير العرقي للموتى !؟
وإمعانا من المؤسسة الصهيونية في اعتداءاتها المتواصلة على مقبرة مأمن الله فقد أعلنت في 9/2002م نيتها إقامة مبنى للمحاكم (الإسرائيلية) في منطقة مقبرة مأمن الله وأكد حينها سماحة الشيخ عكرمة صبري – المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية – أن هذه الخطوة تعتبر حلقة جديدة في سلسلة الاعتداءات على المقدسات الإسلامية واعتبر فضيلته الأمر انتهاكا لحرمة المقبرة وأن المشروع المعلن عنه يمثل امتدادات للاعتداءات التي شملت أجزاء كبيرة من هذه المقبرة ، وأن السلطات (الإسرائيلية) تسعى لمسح المقبرة نهائيا .
وقبل بضعة أشهر أعلنت الصحف (الإسرائيلية) نية الحكومة (الإسرائيلية) افتتاح مقر ما يسمى مركز الكرامة الإنساني - متحف التسامح في مدينة القدس على ما تبقى من أرض مقبرة مأمن الله الأمر الذي يؤكد تصميم المؤسسة (الإسرائيلية) إنهاء وجود مقبرة مأمن الله.