تزكية العلم
11 جمادى الثانية 1431

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وبعد فأثناء التحصيل أو التأصيل لابد أن يعلم الطالب بأن لما حصل زكاة، وكما أن المال ينمو بالزكاة ويزداد لأن الله تعالى يبارك له فيه، فكذلك العلم إنما ينمو ويزداد بإخراج زكاته الواجبة والنصاب بقدر التحصيل، يبدأ بآية كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمرو في الصحيح: "بلغوا عني ولو آية".. لكن ليحذر من تمام الحديث: "ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، والمقصود أن للعلم زكاة ولا حول لها! وليس لنهايته حد، ففوق كل ذي علم عليم.

 

وكما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35]، فقد قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159-160].

 

وزكاة العلم تكون بأمور منها:
-    التعليم وبذل العلم، وليس من شرط ذلك أن ينصب لك كرسي في المسجد، أو تقف محاضراً الناس ملقياً كلمة، بل من التعليم تعليم الأخ الصغير، والأهل، وتعليم من تخالط بقدر ما يتيسر لك، ولو حمل طلاب العلم هذا الهم، وحرص كل واحد على تعليم أهله وذويه ومن يليه، لتغير حال المجتمع.

 

-    الدعوة وما سبق جزء منها وهي أعم فتشمل إخراج المعلومة في قالب الموعظة، وتعاهد المدعو، والحرص على الدلالة إلى الخير، والأمر بالمعروف.

 

-    النهي عن المنكر فتحذير الناس من الشر وسبل الردى وما يعود عليهم بالضرر في دينهم ودينياه من جملة تزكية العلم الذي أعطاكه الله فجعل لك به فرقاناً تفرق به بين الحق والباطل، وإذا كان المرء يأثم إذا رأى أعمى يسير نحو هاوية ثم لم يأخذ بيده، بل قال الفقهاء إن مثل هذا يضمن لأن إرشاده أخاه المسلم واجب عليه، وكذلك قالوا في من رأى جائعاً أو عطشاناً مشرفاً على الهلكة فلم يطعمه ولم يسقه من فضل ما عنده حتى مات.. إذا كان ذلك كذلك فكيف بمن يرى الناس تمضي نحو (بئس المصير) وهو واقف لا يحرك ساكناً! ولهذا قالوا: الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمقر للمنكر كفاعله.

 

وهذه الأمور من لم يراعيها أثناء الطلب والتحصيل ويعاني مشقتها ويعيش مشاكلها فقد يشق عليه إذا انتهى أن يلج فيها، وإن ولجها فربما بغير فهم وفقه للواقع ومعرفة به، بخلاف طالب العلم الذي عركته التجارب ونجذته مداورة الشؤون، فإذا استوى علمه واستوت تجربته واستوى عمله كان إماماً ينتفع الخلق به.

 

وفي الختام وصية بالاعتدال والاتزان في الطلب والتأصيل وفي العمل والدعوة وفي شؤون الحياة العادية في حقوق الإخوان والأهل والجيران، فيا طالب العلم الاعتدال والتوسط في كل شيء مطلوب، قال مطرف بن عبدالله بن الشِّخِّير لابنه: يا بني! إن الحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوسطها، وشر السير الحقحقة. قال ابن سيده: "وهو الإجِتْهاد في السَّيْر حتى لا يُبْقي غايةً فيُنْقَطَع به".

 

وقوله الحسنة بين السيئتين أي أن الحق بين فعل المقصر والغالي، قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلاّ وللشيطان فيه نزعتان، فإما إلى غلو، وإما إلى تقصير، فبأيهما ظفر قنع.

وقد قيل:

تَسَامح ولا تَستوفِ حَقَك كله *** وأبقِ فلم يستوف قَطُ كريمُ
ولاتغل في شيءٍ من الأمرِ واقتصد *** كلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ

وفي الأثر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"(1).

 

والإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، وقد عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإغراق حتى في العبادة، وحمل النفس منها على ما يؤودها ويكلها، فما كان دونها من باب التخلق والتكلف فهو أشد مقتاً، فإن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا.

إن المفازة صعبة، ودوام السير يحسر الإبل

تقطع بالنزول الأرض عنا *** وبُعد الأرض يقطعه النزول

وفقني الله وإياكم للتوسط والاعتدال، وسلك بنا سبل العلم والخير، وزادنا فيها من فضله، ونفعنا وجعلها حجة لنا، والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

___________________

(1) الأثر جزء من حديث "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" قال ابن حجر في الفتح: "أخرجه البزار... وصوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبدالله بن عمرو موقوف، والصواب أنه لا يصح رفعه"، قال الدارقطني: "رواه يحيى بن المتوكل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ورواه شهاب بن خراش عن شيبان النحوي عن محمد بن سوقة بن الحارث عن علي وروي عن ابن سوقة عن الحسن البصري مرسلا وعن ابن المنكدر قال وليس فيها حديث ثابت"، قال العجلوني في كشف الخفاء: "واختلف في إرساله ووصله ورجح البخاري في تاريخه الإرسال". قال السخاوي: " وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة في إرساله ووصله وفي رفعه ووقفه، ثم في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمر" قال الألباني في الضعيفة 1/ 63 بعد أن ذكر الحديث: (وهذا سند ضعيف ) _ وبه علتان . لكن يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ... ؛ أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا". وانظر كذلك الضعيفة 5/501 حديث رقم 2480.