اليونان مأزومة.. لماذا لا "تستعمرنا"؟!
28 جمادى الأول 1431
أمير سعيد

مسكينة بلاد الإغريق إذ لفها الفقر وأحاط بعنقها طوق الديون، وغدت تستجدي جيرانها الأوروبيين لإنقاذها من أزمتها المالية الشديدة، بما جعلها ثقباً أسود ربما جذب إليها اقتصادات أوروبا ثم امتصها.

 

من رائدة أوروبا إلى متسولته، صارت اليونان..ومن نبرة الاستعلاء التي كان يرددها ديموسيثينين في الثلث الأخير من ألفية ما قبل الميلاد: "إن البرابرة عبيد أما نحن الهيلينيين فرجال أحرار" إلى كلمات الاستجداء واسترضاء الجيران الأغنياء، ومن السيادة المالية إلى التفريط فيها ووضع الاقتصاد اليوناني العليل تحت الوصاية الاتحادية الأوروبية.

 

وبـ110 مليار يورو، منها 30 ملياراً وافق عليها صندوق النقد الدولي (10 مايو الحالي) كقروض لبلد الديموقراطية الأول في العالم، باع "الرجال الأحرار" أنفسهم لـ"العبيد"، ومضوا في الطريق إلى نفق الدين المظلم وثقلة الربا الماحقة، سابقين آخرين في بلاد الأندلس البائدة بشقيها الإسباني والبرتغالي، وغيرهم.

 

ويتداعى "الأصدقاء"، ليس لإنقاذ اليونان، وإنما لكيلا لا تعطب تفاحتها الفاسدة كل رفيقاتها في الصندوق، تقاريرهم تؤكد ذلك، وتحذر بشدة من امتداد رقعة الأزمة اليونانية لتشمل أوروبا كلها، ومن مغبة التأثيرات الاجتماعية الواسعة التي قد تضرب أجزاء أخرى من أوروبا إذا لم يتم تدارك الأزمة اليونانية، ومن مظاهرات قد تندلع في أكثر من بلد يكاد يقترب من الحافة التي وصلت إليها اليونان فجأة، يتفقون في خطورة الأزمة، ويختلفون في تفاصيلها، ومن بين أهم ما يثير الجدل هو تهاوي هذا الاقتصاد الذي ظُن متعافياً بعد تسعة أعوام فقط من الانضمام لمنطقة اليورو العملاقة، وحينها ظن اليونان أن "الحظ قد ابتسم لهم" وصاروا أقراناً لدول مثل ألمانيا وبريطانيا، على الأقل في عضوية الاتحاد الأوروبي، بما تمنحه تلك من امتيازات اقتصادية كان مفترضاً أن تقود إلى متانة اقتصادات الدول المنضمة حديثة في المدى القريب، فكان العكس!

 

لا أحد تقريباً التفت إلى حقيقة مؤلمة وقاسية، وهي رغم ألمها صادقة؛ فالخبراء قد شرقوا وغربوا في أسباب الأزمة وتعسفوا في اختلاق أسباب وجيهة لهذا الانهيار؛ فلم يجدوا إلا الفساد وكثرة "فوائد" الديون، وتجاهلوا سبباً جوهرياً يجعل عدداً من دول أوروبا لا تشاطر نظيراتها الثراء والرفاه.

 

إنه عجز اليونان عن امتصاص اقتصاداتنا العربية ورؤوس أموالنا الغبية، مع أننا بكل جدارة تداعينا لأزمتها بالاضطراب المالي في أسواقنا وبورصاتنا رغم عدم ارتباطنا المباشر باقتصادها الواهن.

 

تلك مسألة أخرى عرضية، لكن لا بأس من ذكرها، وهي تلك المتعلقة باعتلال اقتصاداتنا العربية كلما أصاب الاقتصاد العالمي خيراً أو شر!! وكلما ارتفع سعر النفط أو هبط!! وكلما انتعشت البورصات العالمية أو تهاوت؛ فنحن الصدر الحنون لهذا الاقتصاد العالمي، ونحن ضحية صعوده وهبوطه معاً، ولا أحد بوسعه الآن الإجابة عن سؤال جوهري نتجاهله عمداً، وهو عن المستفيد من "حلب" تريليوناتنا في الأزمة المالية العالمية، ولمن ذهبت الأموال التي خسرها العرب، أكبر متضرر حقيقي في الأزمة المالية العالمية التي ظهرت فجأة واختفت أيضاً فجأة، تماماً مثل قضية إنفلونزا الخنازير وأمصالها التي اشتريناها بملياراتنا السائبة، وأحجم العقلاء عن ذلك في العالم كله!!

 

اليونان مأزومة الآن لأنها ما أنشأت جيشاً يحتل بلادنا، ولم تمنحنا "معاملة متميزة" في اتفاقاتنا الأمنية، وهي لم تفعل ما تفعله أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا، حتى ولا ألمانيا التي انهزمنا دونها نفسياً لا عسكرياً ونجحنا ـ غير مشكورين ـ في إنقاذ اقتصادها قبل عام من الاضطراب والتأثر جراء الأزمة العالمية، وانتثرت تقارير إبان انتخاباتها الماضية تلمح إلى دول عربية بعينها تدخلت لإنقاذ هذا الاقتصاد "العربي" من التراجع، بضخها أموالاً سائلة في وقت الأزمة، مع أن الألمان بعد ذلك امتعضوا من مشاركة بعض أصحاب رؤوس أموالنا في صفقات شراء شركات السيارات الألمانية الموشكة على الإفلاس كفولكس فاجن وبورش وأودي وأخيراً مرسيدس، وتمنوا ألا يعقدوا صفقات مع عرب إلا حالما شعروا بصعوبة الموقف، وحينها قال السفير الألماني السابق المعتمد في أكثر من بلد عربي بلغة عربية فصيحة "الصديق وقت الضيق"؛ فأنعم بنا من أصدقاء!!

 

واليونان تعالج أزمتها بصعوبة بالغة لأنها لم تعقد معنا شراكات اقتصادية ولم تستقبل رؤوس أموالنا السائبة في بلدها ولم تفلح في إقناعنا بالمساهمة بنسب لا تتجاوز 30% في شركاتها الكبيرة لكي نمارس دور قنطرة العبور إلى التعافي من الأزمة، والشريك القادر على ضخ السيولة عند جفاف الأموال.

 

قد كان بإمكان اليونان إغراءنا بالسياحة في بلادها ولدينا ما يكفي من المال لضخه في خزائن أموالها السياحية، وقد كانت تستطيع دبلجة بعض مسلسلاتنا وجرنا لرؤية أماكن تصوير "أبطالها"، أو كان بوسعها أن تشاركنا في تطوير مؤسساتنا التعليمية وإرشادنا للطريقة الصحيحة التي ينبغي علينا أن نربي بها أبناءنا.

 

وإذا كان "الصديق وقت الضيق" ـ كما يقول السفير الألماني المخضرم ـ فكيف لم يفكر ساسة اليونان في عرض تقديم مساعدة إلينا في مجالات الصناعات الحيوية للعبور إلى الألفية الجديدة بإنشاء مصانع العلكة والبسكويت؟!

 

ولماذا لم تغرنا بتعلم اللغة اليونانية وحزم حقائبنا بعشرات الآلاف للتعلم في جامعاتها ومعاهدها حتى نستنير بنور علم اليونان وأفكار أفلاطون، ولا مانع من تحديث الفلسفة القديمة لفتح شهيتنا أكثر لتعلم علوم الإدارة الحديثة وتنمية الذات؟!

 

أبواب الخير لدينا كثيرة ومشرعة على مصراعيها ولا أحد كان يمنعها سوى "المستعمرين" الأصليين، وقلة ولهنا وإعجابنا وتتيمنا بالأمريكي والبريطاني، وبوسع ساسة أثينا ـ وهم لذلك أهل، وهم أهل الحكمة والمنطق ـ أن يقنعوا هؤلاء بقطع صغيرة من كعكتنا مثلما نجح الصغار في إفساح بعض المجال لهم والتقاط بعض اللقيمات المشبعة من اتفاقات نفط العراق المؤسسة على قانون النفط العراقي الذي خطه التحرريون المستقلون الجدد في بغداد..

 

مخطئة أنت يا بلاد الإغريق، وتستحقين بغبائك كل ما يحدث لك الآن!!
[email protected]