تفكك القوي التقليدية في السودان
21 جمادى الأول 1431
د. محمد مورو

كشفت الانتخابات في السودان حقيقة يجب أخذها في الاعتبار منذ الآن، وهي أن النتائج في الشمال جاءت تمامًا لصالح البشير وحزبه "المؤتمر الوطني" والنتائج في الجنوب جاءت لصالح سيلفاكير وحركة تحرير السودان، أي أن هناك قوتين أساسيتين هما البشير وحزبه في الشمال، وسيلفاكير وحزبه في الجنوب، وهذا معناه أن القوى التقليدية في الشمال قد ضعفت جدًّا؛ فكل من الحزب الاتحادي وحزب الترابي "المؤتمر الشعبي" قد خرجا بنتيجة ضعيفة في الانتخابات، وكانا قد شاركا في تلك الانتخابات، وحزب الأمة والأحزاب المقاطعة للانتخابات ترددت كثيرًا قبل أن تقاطع، بمعنى أنها أدركت من جس نبض الجماهير أن الموقف ليس في صالحها، وأنها باتت ضعيفة جدًّا في الواقع على الأرض، فقررت أن تقاطع الانتخابات حفظًا لماء الوجه، ومن ثم فإن المحصلة أن القوى التقليدية في السودان قد باتت ضعيفة جدًّا "الأمة والاتحادي"، وأن شمال السودان أصبح يسيطر عليه بالفعل رسميًّا وشعبيًّا البشير وحزبه، وهو أمر لا نغضب منه أو نرضى به، المهم أن ذلك يحقق استقرار السودان، ولكن المشكلة أن هذا الأمر مرتبط بشخص البشير، ومن ثم فإذا سقط البشير لسبب أو آخر، أو ضعف حزب المؤتمر الوطني المعتمد على إقناع الجماهير، وليس على علاقة تقليدية مستمرة مهما كان الأمر، لكان معنى ذلك سقوط السودان في الفراغ، وهو أمر خطر على مصر وخطر على أمريكا أيضًا.
.

 

موضوع السودان بالطبع لا يخصُّ السودان وحده، فهو يؤثر بالضرورة على مصر -وهي مركز الثقل في العالم العربي، وهو أيضًا بوابة العرب إلى إفريقيا، وهو كذلك أمر يخص الأمن في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وهذه مسألة تهم الأمريكان ولها صلة بالنفوذ الدولي الاقتصادي والسياسي، ومن ثم فهو موضع اهتمام الصين التي تتطلع إلى نفوذ اقتصادي -ومن ثَم سياسي- في إفريقيا.
أضف إلى ذلك عاملًا آخر متغيرًا، وإن كان شديد الأهمية في تلك اللحظة من عمر الدنيا، وسوف يكون له تأثير شديد على مستقبل العالم والمنطقة، هذا العامل المتغير هو أن الصومال متفكك، ويمكن أن يظلَّ متفككًا إلى مدى غير قصير، أو يسقط في قبضة قوى تراها أمريكا والعالم متطرفة وذات صلة بالإرهاب الدولي، مثل الحزب الإسلامي وحركة شباب المجاهدين، بل إن أحد زعماء الحزب الإسلامي مثلًا دعا أسامة بن لادن إلى القدوم إلى الصومال!! ومن المعروف أن الحزب الإسلامي هذا الذي يدعو بن لادن إلى القدوم إلى الصومال أقل تشددًا في هذا الصدد من حركة شباب المجاهدين الصوماليين.

 

أيًّا كان الأمر فإن الوضع في الصومال واستمرار القرصنة وأمن التجارة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب والمحيط الهندي موضع قلق القوى الكبرى، فإذا أضفنا إلى ذلك احتمالات تفكك قوية في اليمن، فإن مستقبل السودان يصبح مسألة تهم القوى الكبرى؛ لأنه لو حدث تفكك في السودان مثلًا بالإضافة إلى الصومال واليمن، لأصبحنا أمام مربع هائل من عدم الاستقرار في الأرض والبحر يضم الصومال والسودان واليمن، ومن المحتمل جدًّا أن يصل عدم الاستقرار إلى كينيا وأوغندا، وهذا يعني أن قاعدة هائلة من الأرض والمياه ستكون مرتعًا للإرهاب الدولي، ليس فقط يشكِّل خطرًا على المصالح الأمريكية والغربية والعالمية في تلك المنطقة، ولكنه نقطة انطلاق وملاذ آمن للإرهاب، سوف يسبب صداعًا نظيفًا في كل أنحاء العالم، وهكذا يمكن أن نفهم لماذا حرصت أمريكا على دعم البشير في السودان، رغم كونه عدوًّا تقليديًّا للسياسة الأمريكية؛ لأنه لم يكن هناك بديل آخر إلا الفوضى، يمكننا أن نفهم الآن لماذا أعلن المبعوث الأمريكي رضاه عن المفوضية القومية للانتخابات في السودان، وانحاز إلى رأي الحكومة بعدم تأجيل الانتخابات وإجرائها في الموعد المحدد الذي اعترضت عليه أحزاب المعارضة، وخاصة حزب الأمة، وكذلك ضغط تلك المفوضية على الأحزاب السودانية لدخول الانتخابات وعدم مقاطعتها، ثم إعلان المراقبين الدوليين -بمن فيهم كارتر- أن الانتخابات لا ترقى إلى المستوى العالمي ولكنها غير مزيفة إجمالًا، وأن الأخطاء كانت من النوع الفني الذي لا يمكن تلافيه.

 

وفي الحقيقة فإن الانتخابات السودانية لم تكن مزورة من وجهة نظري، وأن الأخطاء الفنية من خلط بعض أسماء المرشحين أو سقوط أسماء بعض الناخبين أو الاضطراب في الرموز أو عدم وصول البطاقات في موعدها، وغيرها من الأمور، إنها أمور تحدث في كل الانتخابات في العالم، وخاصة العالم الضعيف أو المتوسط تقنيًّا، وأنه لم يتم الحديث عن تسوية بطاقات الانتخابات لصالح شخص أو حزب معين، أو التلاعب في النتائج على عكس الواقع، مع ملاحظة أن الأخطاء التقنية تم تلافيها بإعادة إجراء الانتخابات في بعض الدوائر، ومد زمن الانتخابات يومين آخرين، أو تصحيح الأخطاء فورًا وهكذا، ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن الحكومة تستخدم أموالها وإعلامها ومصالحها في صالح البشير وحكومته وحزبه، ولعل هذه هي النقطة الأهم في مسألة عدم وصول الانتخابات إلى المستوى الدولي.
على أننا قد عرفنا من قبل أن نزاهة الانتخابات لم تكن لترضي أمريكا لولا أن لها مصلحة في استمرار نظام البشير، وكذلك عدم نزاهة الانتخابات لم تكن لتقلق أمريكا؛ فالانتخابات الرئاسية في أفغانستان قد اعترف الجميع بأنها كانت مزورة –بمن فيهم الرئيس كرزاي نفسه- ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية مررت تلك الانتخابات ولم تعترض اعتراضًا جديًّا، وهي صاحبة القوة والنفوذ، بل والقرار في أفغانستان بسبب وجود 100 ألف جندي أطلسي هناك، منهم 65 ألف جندي أمريكي!!

 

الفرصة السانحة
وهكذا فيجب على مصر أن تسعى لعرض وتنفيذ الوحدة مع السودان؛ لأن ذلك ضمان لاستقرار السودان ومصلحة لأمن مصر القومي، وهو أمر طبيعي تاريخي وجغرافي وثقافي، ولن تعترض عليه أمريكا الآن؛ حفاظًا على مصالحها، وخوفًا من اندلاع الفوضى في السودان واليمن والصومال وغيرهم، فتصبح مرتعًا للإرهاب.
إذا لم تستغل كل من مصر والسودان هذه الفرصة السانحة، فإن البدائل مرعبة للجميع، فكروا في الأمر مليًّا أيها السادة، ولا تكونوا عاجزين عن الخيال المبدع والخطوات التاريخية