حداثة القطيع.. فكرٌ عقيم وفشل مؤكد
12 جمادى الأول 1431
عبد الباقي خليفة

تتعرض الحداثة في مجال العلوم الإنسانية في العالم الغربي إلى أزمة موجعة، بعد أن تسببت في دمار اجتماعي موثق بالإحصاءات، وليس القلق والتوتر، ونسبة الانتحار المرتفعة، وتفكك الأسرة، وطغيان الفردية سوى أحد أعراضه، إلى جانب ارتفاع نسبة التلوث، والكارثة البيئية، وارتفاع حرارة الأرض وثقب الأوزون، ونهب واستغلال الأمم الأخرى. وأما الحداثوية في البلاد الإسلامية فلا تزال تمارس الإرهاب على المستوى الفكري والسياسي والإعلامي من خلال الاستبداد بالسلطة. وتحاول أن تفرض نمطاً حداثوياً له سياقاته الغربية التي لا تتقاطع بالضرورة مع مسارنا التاريخي. وهو نوع من الإطلاقات الفكرية الحداثوية التي لا تختلف عن إطلاقات الإنسان البدائي لإيجاد تفسير للظواهر الكونية، وفق بعض القراءات التاريخية والتي لا نتفق مع بعضها بالضرورة. وهي حداثوية تسعى لتدمير محركات السلوك الاجتماعي في بنيتنا الثقافية، لإحلال أنماط أخرى مأخوذة من بيئة مختلفة عنا ثقافياً واجتماعياً ودينياً وتاريخياً. ويحاول بعض الحداثويين إيجاد مشتركات بين الأنماط التي أفرزت الحداثة في الغرب، وبعض الانحرافات السلوكية داخل الأسرة والمجتمع في بلادنا، لتبرير إسقاطاته الحداثوية. ولو أن هذا البعض بحث في الإسلام لوجد الحل الموضوعي للمشاكل القائمة في مجتمعنا.

 

ولا شك فإن الحداثوية التي يبشرون بها في عالمنا الإسلامي، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمراكز الهيمنة الغربية سياسياً وثقافياً وإعلامياً واقتصادياً تعمل على إحلال المفاهيم الغربية محل قيم الإسلام ولكن عبر مراحل مختلفة، أولها فصل الإسلام عن السياسة، وثانياً جعل الإسلام قضية فردية أي علاقة العبد بربه، وثالثا: تدمير ثقافة الحلال والحرام لدى ذلك الفرد، ورابعا التماهي في الغرب أو بالأحرى الذيلية الرخيصة للغرب في كل شيء. إن الغرب يدرك ما تفعله الحداثوية في بلادنا من تدمير ممنهج، وهو في ظل التبعية التي تفرضها الحداثوية العمياء هذه، يستطيع التحكم في آفاق هذه الحداثوية بحيث تبقى في المستوى الاجتماعي والاستهلاكي والمفاهيمي، ولا ترقى إلى المساهمة في المنجزات التقنية والعلمية المعتبرة، بما يعود بالنفع العميم على مجتمعنا بتنوعه الحاضر.

 

إن الحداثويين بعيدون كل البعد عن الإدراك الواعي بأهمية الخصوصية الثقافية والحضارية. وإذا كانت الحضارة الإنسانية واحدة فالثقافات متنوعة، وتنوعها يفرض نمطاً معيناً للتحديث داخل كل واحدة منها، يتناسب وآليات التفاعل الاجتماعي داخل بنيتها الكلية. وغياب هذا الإدراك يقف وراء التخبط الذي يجري في الضفتين شرقاً وغرباً. فليس كل جديد واجب السيادة، وليس كل قديم يتحتم تغييره، فالأرض والشمس والقمر من القديم، وسيكون من الجنون العمل على تغييرها بأشكال حداثوية بديلة عنها.

 

وفي المجال الاقتصادي والصناعي السلعي، هنا قوانين دولية تمنع التقليد وتعاقب عليه، ولكننا لا نجد هذا على الصعيد الثقافي وهو الأخطر، فعملية زرع ثقافات غريبة في أرضية ثقافية مغايرة أشد جرماً من تقليد السلع، وأشد تدميراً، وإن كان بصورة عكسية، حيث يدمر التقليد السلعي المنتَج المادي وحده، بينما تدمر الثقافة المستوردة المجتمع الذي يراد إحلالها فيه. وبذلك يمكن اعتبار من يعملون على ذلك من الحداثويين بأنهم يرتكبون جريمة الخيانة العظمى ضد مجتمعاتهم، وهم كذلك يفعلون.

 

إن ما يجري في ظل غياب إلمام كاف بالتراث، وفهم أعمق لمتطلبات التحديث في مجتمعنا، يجعل من التقليد البضاعة السائدة، والذي يقلد ولا ينتج يظل أسير من يقلده أو المتغلب عليه بتعبير ابن خلدون. ولذلك نحن في حاجة لمعرفة أفضل للحداثة في الغرب وللحداثوية ورموزها عندنا ولا سيما في الجانب السلوكي، فكل إنسان يعيش بحسب نموذجه حتى لو كان قوله نقيض سلوكه، وهذا أمر مهم للغاية.

فالحداثوية التي تكرس التبعية للآخر المنتِج على كافة المستويات، لا يمكنها أن تكون شريكاً محترماً في عالم متكافئ ولو بعد ألف سنة. ولا حتى زبونا له كيانه، وإنما تبقى ظلاًّ للآخر، وإناء يصنعه الآخر لينضح بما يضعه فيه.

 

إن علاقتنا مع التراث ومع الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب، يجب أن تكون حصيلة دراسات نقدية، تهدف للاستفادة دون نكوص أو ذوبان أو تماهٍ. ومن خلال مراجعة التراث، ونقد الحداثة.
وبالنقد فقط يمكننا أن نضيف شيئاً ليس لنا فحسب بل للعالم، مساهمة في التحديث الحقيقي، ويجب أن تكون علاقتنا بكل من الماضي والحداثة الغربية علاقة إبداع لا تكرار وتقليد، وإذا ما حصل ذلك فيجب أن نبرهن ونقنع أيضا بجدارة خياراتنا، دون أن نفقد كينونتنا، أو نتخلى عن منظومتنا.
مع التأكيد على أن الاختلاف في وجهات النظر، مهم جدا للوصول إلى الحلول الصحيحة، وتطوير أنفسنا دون أن نخرج من جلدنا كما يقال.