( ماردين السلام ) و الدين المبدّل و المؤول
3 جمادى الأول 1431
د. عبدالعزيز العبداللطيف

قرأتُ " إعلان ماردين السلام " و نتائج هذا المؤتمر، و الذي أقيم بمدينة ماردين بتركيا في اليوم الحادي عشر و الثاني عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1431 هـ، و استبان أن المؤتمر قد تكالب على عقيدة الولاء و البراء بالشغب و التشكيك، و الخنق و التضييق .

فقد استهل الإعلان بترسيخ ما أسموه بــ " الأخوة الإنسانية "، فهذه الأخوة المزعومة من الأوجه الخداعة في تهوين عقيدة الولاء و البراء، و إضعاف الأخوة الإيمانية.

ورحم الله العلاّمة بكر أبا زيد، إذ حذّر من سراب " الإنسانية " فقال عنها : " إنها ضد الدين، فهي دعوة إلى أن نواجه المعاني السامية في الحياة بالإنسانية لا بالدين.

إنها في المعنى شقيقة قول المنافقين : { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } البقرة 14.

و الخلاصة إنها محاربة المسلمين باسم الإنسانية، لتبقى اليهودية، ويمحى رسم الإسلام، قاتلهم الله وخذلهم " 1.

 

عمد المؤتمر إلى التشكيك و الطعن في تقسيم الديار إلى دار إسلام، و دار كفر و حرب ، فزعموا أن هذا التقسيم مجرد آراء اجتهادية أمْلتها أوضاع سابقة، لقد شرِق الكثير بهذا التقسيم، ممن يؤثر استملاح الكفرة و ملاينتهم , والتودد للأنظمة العلمانية، و الركون إلى العاجلة، فلما صعبت تبعات الاحتساب والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و دبّ داء الوهن في تلك النفوس، و تنصّلت عن مراغمة أعداء الله – تعالى - بالجدال والجلاد، عندئذ استطابت الهيام بـ " دار السلام ! " و صار هجيّراهم الثرثرة باحترام الإنسان، و إشاعة روح التسامح و التعايش، و بذل قصارى الجهد في خنق شعيرة الجهاد في سبيل الله – تعالى -، فغابت المواقف العملية الشجاعة، و انمحت الفتاوى الشرعية الحاسمة، و اندرست ألفاظ الشريعة، و طغت الألفاظ العائمة و المحدثة.

إن التطاول على هذا التقسيم هو امتداد للتطاول على عقيدة الولاء للمؤمنين و البراءة من الكافرين، و توهين لتحكيم الشريعة، وإضعاف لناموسها. فالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ثابتة باقية إلى قيام الساعة، قال الله – تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } النساء 97.

و نقل القرطبي مقالة ابن العربي بأن هذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة 2.

 

و قال ابن رشد : " و جب بالكتاب و السنة و إجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر، و يلحق بدار المسلمين و لا يثوي بين المشركين، و يقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم " 3

و قال ابن كثير : " هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، و هو قادر على الهجرة، و ليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع " 4.

و كتب الونشريسي ( ت 914 هـ ) رسالة بعنوان " أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى و لم يهاجر، و ما يترتب عليه من العقوبات و الزواجر " و أورد النصوص الشرعية في تحريم الموالاة الكفرية، و وجوب الهجرة إلى دار الإسلام، فكان مما قاله : " فلا تجد في تحريم هذه الإقامة، و هذا الموالاة الكفرانية مخالفًا لأهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز، فهو تحريم مقطوع به من الدين.. و من جوّز هذه الإقامة و استخف أمرها، و استسهل حكمها فهو مارق من الدين، مفارق لجماعة المسلمين، و مسبوق بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته. . " 5.

و قد حكم العلامة عبد الرحمن السعدي ( ت 1376 هـ ) بأن البحرين و العراق دارا للكفر لما كانتا تحت الاستعمار الإنجليزي ؛ لأن النفوذ و الحكم للإنجليز.. كما حرر أن دار الكفر قد تكون دار حرب، أو دار هدنة " 6.

و المقصود أن هذا التقسيم للدور مبني على أدلة شرعية – كما هو مبسوط في موضعه – فيتعين العمل به حسب الوسع و الاستطاعة، و أما التزهيد في هذه التقاسيم ومحاولة طمسها فهو توثب على العقيدة و الشريعة، وتوهين لما عظّمه الله – تعالى - من عداوة للكافرين و مفارقتهم، و النهي عن التشبه بهم.

 

زهّد هؤلاء في تحريرات الفقهاء و تحقيقات علماء السلف في تقسيم الدور، ثم تراهم قد فتنوا و أشربوا تعظيم المعاهدات الدولية، و الإجلال لها !

فزعموا أن هذه المعاهدات " يتحقق بها الأمن و السلام لجميع البشرية، و تأمن فيها على أموالها و أعراضها و أوطانها... "

حقًا إنها ثمرة نكدة أن يحتج بالمعاهدات الدولية، و أن تكون محل تسليم و احترام بلا قيد و لا تفصيل، لا سيما وأن هذه المعاهدات لا تعظّم شرع الخالق – سبحانه -، و لا تحقق عدلاً للمخلوق.. بل التعويل على هذه المعاهدات ضرب من الأحلام و الأماني التي لا تجاوز الأذهان، كما هو مشاهد في الواقع و الأعيان.

ما أجمل ما سطره الأستاذ الكبير / د. محمد محمد حسين – رحمه الله – وقبل أكثر من ثلاثين سنة بشأن هذه الخدائع " الدولية " فكان مما قاله : " و لو تتبعنا الدعوة المبتدعة المعاصرة إلى العالمية لوجدنا أنها دعوة هدامة من وجوه :

منها : أنها تناقض الناموس، و تخالف سنة ثابتة من سنن الله في الأرض، و هي دفع الناس بعضهم ببعض، و ضرب الحق بالباطل.. و أكثر الناس تأثّرًا بدعوة العالمية هم الخاملون من الضعفاء، الذين تقصر هممهم عن الطموح إلى و سائل النهوض، و الأخذ بأسباب القوة و الجهاد في سبيلها، فيركنون إلى أحلام العالمية التي تمنيهم بسلام يعطف فيه القوي على الضعيف، و ليس أضر بالأمة الضعيفة من هذه الأحلام، لأنها تزيدها ضعفًا على ضعفها، و تقضي على البقية الباقية من معالم شخصيتها، و قد جربنا الكلام عن الإنسانية و التسامح و السلام، و حقوق الإنسان في عصرنا، فوجدناه كلامًا يصنعه الأقوياء في وزارات الدعاية و الإعلام ليَنْفَق و يروج عند الضعفاء، فهو بضاعة معدة للتصدير الخارجي، و ليست معدة للاستهلاك الداخلي، لا يستفيد منها دائمًا إلا القوي.. ثم إن الأحلام العالمية لن تغيّر سنة الله في خلقه، و لن يكون من نتائجها إلا أن تذوب بعض جماعات ضعيفة متهافتة كُتب عليها الفناء، لأنها لا تستحق البقاء... " 7.

 

ربما اختار البعض " الإسلام المريح " فاستملح الذوبان و الانصهار مع الأعداء، و استروح مسلك أرباب " العقول المعيشية "، و آثر النكوص عن ميادين مدافعة الظلم و الاستبداد...، و انهمك في " شرعنة " الجبن و الهروب من تكاليف المدافعة والاحتساب.

إلا أن أفرادًا تجاوزا ذلك إلى خنق شعيرة الجهاد، و محاصرته و تحجيمه، و إضفاء شروط و آصار دون تحقيق أو تحرير.. فمع أن في القوم من استحوذ عليه الإفراط في التيسير و تتبع الرخص، إلا أن الجهاد قد حاصروه بآصار و أغلال، فلا جهاد إلا بإمام و إذنه !. و الجهاد مجرد دفع فحسب ، و ليس الجهاد لأجل الكفر كما في قوله – تعالى - : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة 29 .

و من المفارقات عن مؤتمر ماردين أن يهول من شأن إذن السلطة في الجهاد، مع أن إذن الإمام الشرعي في الجهاد محل خلاف فقهي ، و مسألة يسع فيها الاجتهاد 8، و في نفس الوقت يهون من قضايا إجماعية ظاهرة كما تقدّم في مسألة تقسيم الدور ! ثم هل يريد القوم أن الجهاد منوط بالأنظمة العلمانية ( الصارخة ) كنظام الإمام القذافي و زين العابدين ونحوهم !؟

و هل يتصور عاقل أن شعيرة الجهاد منوطة بإذن كرزاي الأفغان، أو عباس السلطة ؟! و هل حكام اليوم راغبون في الجهاد في سبيل الله – تعالى - ؟ و هل لديهم أهلية الاجتهاد في الإذن من عدمه ؟!

إن الناظر إلى شروط القوم في الجهاد ليشعر إنها محاولة بائسة لإضعاف الجهاد القائم و إجهاضه كما في فلسطين و الأفغان مثلاً.

 

قال ابن القيم " فجهاد الدفع يقصده كل أحد , و لا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً , و جهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين" 9

ختم المؤتمر نتائجه بخاتمة غير حسنة فقرر أن " مفهوم الولاء و البراء لا يكون مخرجًا من الملة ما لم يكن مرتبطًا بعقيدة كفرية " وهذا مسخ لعقيدة الولاء و البراء، و إسقاط لأوثق عرى الإيمان، فماذا يقولون عمن أطاع الكفار في التشريع، و أظهر الموافقة لهم ؟ قال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } آل عمران 100 .

قال القاضي عياض : " و كذلك نكفّر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، و إن كان صاحبه مصرحًا بالإسلام مع فعله ذلك كالسعي إلى الكنائس و البيع مع أهلها بزيهم ، من شد الزنانير، و فحص ( حلق ) الرؤوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لا يوجد إلا من كافر " 10.

و حرر ابن تيمية أن مشاركة الكفار في أعيادهم قد تفضي إلى الكفر الصراح، فقال : " و إذا كانت المشابهة في القليل ذريعة و وسيلة إلى بعض القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله، من التبرك بالصليب و التعميد في المعمودية.. و أصل ذلك المشابهة و المشاركة " 11.

و جاء في فتوى اللجنة الدائمة بالسعودية في حكم لبس الصليب : " إذا بيّن له حكم لبس الصليب، و أنه شعار النصارى، و دليل على أن لابسه راض بانتسابه إليهم و الرضا بما هم عليه، و أصرّ على ذلك، حكم بكفره لقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } المائدة 51 .
و الظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر، و فيه إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى - عليه السلام -، و الله – سبحانه - قد نفى ذلك في كتابه فقال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ } النساء 157 " 12.

 

و المقصود أن مولاة الكفار شعب متعددة، منها ما يخرج من الملة، و منها ما ليس كذلك، فمظاهرة الكفار على المسلمين ردة في حد ذاتها، و كذا لبس الصليب، أو التشبه المطلق بهم، و ما يلحق به كما هو مبين في مظانه.

كما يلحظ في هذه التوصية النَفَس الإرجائي الغالي – و الإرجاء دين الملوك كما قاله النضر بن شميل -، حيث قالوا : " ما لم يكن مرتبطًا بعقيدة كفرية " و مفهوم ذلك أنه لا يكفر بالأقوال الكفرية و الأفعال الكفرية، و هذا خلاف ما عليه السلف الصالح، فإن الكفر و الردة قد يكون بالأقوال و الأفعال .

و أخيرًا كان على المؤتمر أن يتخلى عن أسلوب التدثر بابن تيمية، و إضفاء المديح في مستهل الإعلان لفتواه بشأن ماردين أنها فتوى " حضارية رمزية " !! على حد تعبير المؤتمر.

 

ثم محاولة الالتفاف على الفتوى و تحريفها عن مقصودها أو التعريض بها، و بأسلوب عائم متلون.

أسأل الله تعالى أن يهدينا و سائر إخواننا للحق و الصواب، و أن نتجرّد في نصرة دين الله – تعالى -، و أن نراقبه - عز و جل - في السرّ و العلن، دون الانجراف مع ضغوط الوقائع و المتغيرات، و على أصحاب المسلك السلفي المحض إن أرادوا المشاركة في مثل هذا المؤتمر و أشباهه، أن تكون مشاركة راسخة جادة، قائمة على العلم و العدل، و إحقاق الحق ، بعيدًا عن تأويلات مستكرهة أو تنازلات.

و الله حسبنا ونعم الوكيل .

ــــــــــــــــــــــ

[1] معجم المناهي اللفظية 163
[2] ينظر تفسير القرطبي 5 / 350
[3] مقدمات ابن رشد 2 / 612
[4] تفسير ابن كثير 1 / 514
[5] المعيار المعرب 2 / 123 = باختصار.
[6] ينظر الفتاوى السعدية، 92 – 93
[7] الإسلام والحضارة الغربية 191 – 192 = بتصرف يسير .
[8] ينظر : كتاب الفتاوى الفقهية في أهم القضايا لحسن اليوبي.
[9] الفروسية 29
[10] الشفا 2 / 1072
[11] اقتضاء الصراط المستقيم 1 / 481
[12] فتاوى اللجنة الدائمة 2 / 78