أهم عملية في تاريخ المبحوح
23 ربيع الثاني 1431
أمير سعيد

[email protected]

من ذا يظن أن تاريخ المرء ينتهي بالشهادة، أو أن عطاءه يتوقف عندها؟! فلربما كانت تلك إحدى أهم لحظات "حياة الشهيد" التي ينبعث عندها أثره الأكبر، وتمضي بها نحو درجات لم يكن ليبلغها وهو بين الناس يأكل ويسعى.
ليس بوسعنا ونحن في هذه الدار أن نحكم على بعض أفعال البشر من حيث صوابها وخطئها، لكن بمقدورنا أن نتلمس معاني تلقى في خواطرنا، ولا نستطيع كتمانها.

 

 

صحيح أنهم قتلوه، وحاولوا اغتيال تاريخه بالشائعات، وببعض التلميحات، وحاولوا النيل من رفقائه ومن سمعتهم، وصحيح تالياً أنهم انتشوا إذ قتلوه، وارتاحوا من عار حملوه لعقدين من الزمان، وذاقوا لذة الانتقام، لكن وجوههم سرعان ما كساها الندم والخذلان، حين انقلب الفرح نكبة، واستحالت النشوة غصة ووبالاً.

 

 

واللافت أن العالم يشهد الآن أهم عملية في "تاريخ" المبحوح، ويقرأ قصة لم تجف أحبارها، ويعاين فضيحة للموساد الصهيوني لم يشهدها تاريخه كله، ولوعة يستشعرها كل من يطالع الصحف العبرية، ويقرأ تصريحاً أو تلميحاً تطفح منها عبارات المذلة التي ضربت على أجهزة كيانها.

 

 

وهي ليست كغيرها من عديد العمليات العسكرية التي اشترك فيها المبحوح أو غيره من المناضلين في التاريخ الفلسطيني التي يخفت أثرها في الإعلام كلما مرت الأيام والأسابيع على وقوعها، بل إن عملية المبحوح الأخيرة والأهم لم تزل تتوهج حتى اللحظة بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على اغتياله؛ ولم تزل توصف عملية اغتياله بأنها "لعنة لم تزل تلاحق إسرائيل"، بحسب عدد من المحللين اتفقوا على نعتها بذلك.

 

 

عاد اسم المبحوح مجدداً في 26 مارس الماضي إلى الواجهة بعد إهداء كتائب عز الدين القسام عملية خان يونس التي أسفرت عن مقتل نائب قائد كتيبة في قوات النخبة غولاني، برتبة رائد، وآخر جندي في القوات نفسها، إضافة إلى سقوط جرحى كثيرين في حصيلة أعلنها الجيش الصهيوني وقد لا تكون دقيقة بطبيعة الحال، إلى روح الشهيد، الذي تدفق المئات من سكان شمالي القطاع نحو منزل عائلته لـ"الاحتفال بالإنجاز العسكري الكبير"، على حد وصف هآرتس العبرية 28 مارس الماضي.

 

 

لقد بدا الانتقام عفوياً، ودفاعياً، لكنه كان الأقوى، والأكثر دلالة على أن الرجل لم يغادر الدنيا من دون أن يحفر اسمه ليس لدى أنصاره ومحبيه، وإنما في سجلات أهم جهاز استخبارات يثير الرعب لدى أشباهه، أو يحملون له "احتراماً" مهنياً على أقل تقدير، حيث سيقترن اسم المبحوح دوماً في هذه السجلات بأسوأ عملية ناجحة/خاسرة في تاريخ الموساد!! وسيحاول قادته وكوادره نسيان فصولها وتفاصيلها المشينة، التي كشفت عن انهيار في البنية التكتيكية للجهاز "العريق".

 

 

الجنديان الصهيونيان إيلان سعدون وآفي سبورتس، اللذان أسرا، وقتلا، قبل عشرين عاماً، وكان المبحوح هو المسؤول الأول عن تلك العملية، استدعى مقتلهما استنفاراً صهيونياً، لم يهدأ إلا بغياب المغدور في دبي، لكن عملية خان يونس التي قام بها تلاميذ المبحوح، أحد أبرز مؤسسي كتائب القسام، ابتلع الصهاينة جرحهم إثرها، ولم يقووا على الرد عليها، لأن الفاتورة أضحت أبهظ كثيراً منها قبل عقدين من الزمان، عندها كان الغزاوي يقتل فيها بدم بارد وكان بوسع الصهيوني أن يصول في غزة دونما رادع.. الآن، تغير الوضع، وأسهم المبحوح ورفاقه في التغيير.. إنها إحدى إنجازات المبحوح وزملاء دربه وتلاميذه، التي تفوقت كثيراً على عمليته الأولى قبل عشرين عاماً.

 

 

انكشاف كل هذا العدد الهائل من العملاء المباشرين، وحديث رئيس جهاز الشرطة بدبي الفريق ضاحي خلفان عن انكشاف "موساديين خليجيين مؤجرين لتنفيذ أهداف إسرائيلية" في مطلع إبريل الجاري، وتلطخ سمعة جهاز الاستخبارات الصهيوني المهيب لدى كثيرين، واضطرار دول أوروبية ـ رغم تواطئها الظاهر وصمتها الأولي وردات أفعالها الهشة والمتواضعة ـ إلى استدعاء سفراء، وطرد دبلوماسيين، حتى وإن كان شكلياً، إلا أنه جسد تلك الذلة التي ضربت على الصهاينة اليهود أينما ثقفوا، ولو كانوا يملكون معظم ورقات اللعبة السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا، هذا جميعه، يحسب للمبحوح وإن كان في النهاية هو الضحية، ويكتب في سجل شرفه، ولو بعد موته، ويمثل امتداداً حياتياً لا يمكن إهماله أو التقليل منه، رغم هذه التقارير التي تحدثت عن مصداقية أو برغبة في التقليل من فداحة الخسارة والتهوين من عملية دبي الأمنية المضادة، وكما تقدم؛ فإن كل هذا لا يمكن إلا أن يعلي أكثر من قيمة المغدور الذي كشف للرأي العام في العالم همجية واستكبار وغطرسة "إسرائيل" وانتهاكها لسيادة دولهم، وعبثهم بوثائق ترمز للسيادة الأمنية والوطنية لبلدانها مهما قفزت أنظمتها على تلك الحقائق، أو توارت خلف الصداقة مع تل أبيب، أو تدثرت بالرغبة في تمويت القضية ونسيانها.

 

 

واليوم تُكتب هذه السطور، بعد ثلاثة أشهر من العملية، لا لكون الخبر قد وصل متأخراً!! وإنما لأن المبحوح لم يزل يكتب الملحمة حياً بعد مرور تلك الشهور، ولم يزل الإعلام يراغم أنف "إسرائيل" بالجديد عن سقطاتها في تلك العملية، ويذكرها بتلك المذلة التي ضربت عليها بسبب عمليتها الأرعن، وحسبي أن أشارك في تذكيرها بتلك المذلة وهذا السقطات الفادحات، التي لن تغطيها أي تقارير تتناول انكشاف الحادثة بشيء من "المؤامرة" التي تومئ إلى أن هذا الكيان لا ينهزم أبداً حتى لو بدت كل الشواهد على سقوطه وتكشفه؛ فمحال أن تتآمر "إسرائيل" لتفضح "إسرائيل" بهذه الكارثة المدوية.

 

 

لقد حمل بيريز يوماً مشروعه الأخرق، عن الشرق الأوسط الجديد، وكان الكيان الصهيوني هو "عاصمة" الإقليم، و"درته"، لأنها الأكثر قدرة تقنية في المحيط، والآن سقط الكيان بضربة "التقنية" القاضية، وليطامن إلى عبثيته ونزقه المريع.
انهزم الكيان الغاصب عسكرياً في غزة في رائعة صمودها أمام "الرصاص المصبوب" قبل خمسة عشر شهراً، وانكسر دبلوماسياً أمام براعة إردوغان خلال أزمة السفير التركي قبل ثلاثة أشهر، وانهزم أمام "روح المبحوح" ولم يزل منذ ثلاثة أشهر، وفي الكل، سقط أمام العالم أخلاقياً، وأساء لعلاقاته الدولية؛ فهنيئاً للمبحوح بعمليته الأخيرة..