الانتخابات أسقطت كل الأقنعة في العراق
8 ربيع الثاني 1431
طلعت رميح

لم يعد هناك من مستور في مشروع احتلال العراق منذ بدايته وحتى الآن. لقد ظهر الوجه الحقيقي لكل الأطراف التي شاركت في العدوان والاحتلال منذ بدايته وحتى الآن وتلك التي تعاونت مع المحتلين .سقطت كل الأقنعة عن الولايات المتحدة وإيران المتشاركين في العدوان والاحتلال ،وعن كل الأطراف التي شاركت في اللعبة السياسية التي شكلها الاحتلال ،إذ انكشفت تماما حكاية الديموقراطية وتداول السلطة عبر الانتخابات وظهر أن الانتخابات في العراق –مثلها مثل أفغانستان-ليست إلا تزييفا لإرادة العراقيين باستخدام كل طرق وأساليب التزوير لفرض الديكتاتورية على الشعب العراقى ،وأنها ليست إلا أحد أشكال ممارسة الخلاف بين الاحتلالين الأمريكي والإيراني عبر عملاء كل طرف على الأرض العراقية،وأنها من الأساس ليست إلا آلية لإبعاد القوى الوطنية والقومية والإسلامية عن أداء دورها في تحرير العراق وإعادة بنائه ،إذ هي موجهة لتحقيق هدف إعطاء الشرعية للمحتلين والمتعاونين كمحاولة للنيل من شرعية المقاومة .كل ذلك لم يعد كلاما مستنتجا من وقائع ما يجرى بل صار اعترافا مؤكدا على ألسنة الذين دخلوا في أضابير تلك الألاعيب .

انفضح الكل ،أو فضح الكل بعضه بعضه ،أو فضح كل طرف الآخر ،أو الكل وصل إلى مأزق ، فقرر هدم المعبد عليه وعلى خصومه ..وقل ما شئت أيضا .

لقد بدأت الانتخابات بألاعيب استقصائية لمرشحي طرف من أطراف اللعبة من قبل طرف مشارك آخر ،باستخدام آليات لجنة غير قانونية بمقاييس الاحتلال نفسه ،وبأوامر مباشرة معلنة من قبل إيران التي أعلن رئيسها بسفور أن لا مكان لمن سماهم البعثيين .

وفي البداية أيضا ،قال رئيس قائمة ائتلاف العراقية اياد علاوي -الفائز بأعلى نسبة أصوات بعد فرز 95% من الأصوات –أنه يقبل بنسبة تزوير في حدود 20% ليس أكثر –أى هو يقبل بإهدار أصوات خمس المصوتين -بما أكد أن التزوير عمل ملازم للعملية الانتخابية وأنه واقع لا محالة وأن الطرف المزور لا سبيل إلى ردعه عن إعمال سلاح التزوير ،وربما قصد علاوي القياس على ما جرى في انتخابات عام 2005 التي شهدت تزويرا يكاد يكون كليا (هي الانتخابات التي أوصلته هو إلى رئاسة الوزراء) .

كانت البداية مليئة باشكاليات الصراع حول من له حق الترشيح نتج عنه ،بما كشف أن مجموعات الحكم ترفض أحكام القضاء وتلغيها كيفما تشاء مصالحها وهو ما يؤكد على أن القضاء خاضع لتوجهات السلطة والاحتلال ويشدد على عدم مشروعية كل ما صدر من أحكام قضائية بعد الاحتلال.

وما إن بدأت عمليات التصويت في الانتخابات وفق ما سمى بالتصويت الخاص الذى شمل العاملين بالجهاز العسكري للدولة والمرضى في المستشفيات وغيرها ،حتى اكتشف الآلاف من غير المؤيدين لحكم المالكي الطائفي ،استبعاد أسمائهم من قوائم الناخبين .كما بدأ التصويت في خارج العراق ،وتكرر الأمر ذاته ،إذ لم يجد الآلاف من المهجرين في الأردن وسوريا ومصر أسماءهم بينما وجد الموجودون في إيران أسماء المتوفين ومن لا جنسية عراقية لهم في كشوف التصويت بما أتاح ملء الصناديق بالأصوات المزورة .

ومن بعد ،بدأت عملية التصويت العام ،فجاءت آلاف الشكاوى من أولئك الذين لم يجدوا أسماءهم في كشوف الناخبين ،ومن المسجلين في مناطق العراق التي لا تصوت لمصلحة الجماعات السياسية الشيعية الطائفية بتأخير فتح مقار التصويت لعدة ساعات لمنعهم من التصويت وعدم مد أجل وقت التصويت رغم وجودهم في المقار الانتخابية بما يتطلب استمرار العمل في المقار حتى انتهاء المصوتين من الإدلاء بأصواتهم .وجرت أعمال قصف مدفعي طائفي لمناطق السنة في بغداد لمنع الناخبين من التوجه للإدلاء بأصواتهم ..الخ .

انتهى يوم التصويت بما جرى فيه لتبدأ أعمال فرز الاصوات بآلاف الشكاوى ،حتى وصل الأمر بالمالكي إلى حد التهديد باستخدام القوة إذا لم تأت النتائج لمصلحته وقائمته ليبقى مجددا رئيسا للوزراء ،بما فتح أبواب العنف الطائفي على مصراعيه ،وكشف أصل لعبة الانتخابات والحرية والديمقراطية المزعومة .

في البداية كان واضحا مما يعلن من نتائج –بالتقسيط-أن ائتلاف دولة القانون برئاسة نورى المالكي –رئيس الوزراء الحالي تحت الاحتلال-يقف في صدارة المشهد الانتخابي ولذلك أظهر المالكي إيمانه بالديمقراطية ،في تصريحاته التي صدرت في هذا التوقيت ،بل هو أكد على نزاهة الانتخابات وأعمال الرصد للاصوات مطالبا الآخرين باحترام نتائج الانتخابات ،وزاد على ذلك أن اعترف بوجود أعمال تزوير-أو تأشير في أوراق التصويت-مؤكدا أنها بسيطة ولا تؤثر على النتائج الحقيقية أو النهائية.

كان راضيا ومزايدا على الآخرين القلقين أو المحبطين أو الرافضين للنتائج المعلنة في تلك اللحظة.

لكن كل ذلك تغير أو انقلب مع تقدم أعمال الفرز وإعلان النتائج بنسب أعلى من التصويت ، أظهرت تقدم قائمة علاوي على قائمة المالكي ،إذ دعا المالكي إلى إعادة فرز الأصوات في نحو 50 ألف مركز انتخابى مشددا على ضرورة اجراء فرز يدوى لا آلي أو اليكتروني ،بما دفع الآخرين للقلق من إجراء كهذا يعطل ظهور الانتخابات لعدة أشهر يظل المالكي فيها حاكما .وإذ تواصل تقدم قائمة علاوي مع ظهور تصريحات له وأقطاب قائمته بضرورة اعتماد نتائج المفوضية العليا، أطلق المالكي تهديدات صريحة بعودة العنف في الشارع وعدم شرعية أية حكومة تأتي عبر نتائج الانتخابات وفق النتائج الحالية ،ومارس بالفعل لعبة تحريك الشارع ضد النتائج المعلنة.

انكشف المالكي ،ومن خلفه انكشفت إيران التي وقفت تدعم هذا الفريق (وغيره من المرتبطين بها أو الممثلين لها في احتلال العراق) ،لكن علاوي هو الآخر قد انكشف ،بما جعل اللعبة السياسية كلها بلا أقنعة .

علاوي كان تحدث عن التزوير الجارى والأمور المقلقة جراء إعلان النتائج بالتقسيط ،لكنه عاد والتزم الصمت وصار يتحدث عن تشكيله للوزارة الجديدة حين أظهرت النتائج المتوالية تقدم قائمته ،مشيرا إلى أن المالكي مشروع ديكتاتور ،بتشديده على خطورة تصريحات كان المالكي أدلى بها من قبل وقال فيها بأن لا أحد يقدر على أخذ السلطة منه ،وفي ذلك صار أتباع المالكي يتحدثون مباشرة عن تدخل أمريكي لصالح علاوي .

انكشفت لعبة التزوير في تلك الانتخابات وظهر أنها لم تكن إلا صراعا بين احتلالين للعراق ،وأن الأمور جرت من أولها الى آخرها لتعميق حالة الاحتلال ..الخ ،بما أعاد للأذهان كل ما جرى في الانتخابات الأفغانية تماما.

أفغانستان والعراق
 يبدو مهما إعادة التذكير بما جرى في انتخابات أفغانستان ،باعتبارها نموذج مكتمل لذات المشهد المتفاعل في العراق وكاشفة له وأطرافه .في الانتخابات الأفغانية كان هناك عديد من المرشحين لمنصب الرئاسة ،اجتمعوا كلهم على الطعن في كرازاى بالفساد واتهم وشقيقه المسئول التنفيذى بجهاز الحكم بالاتجار في المخدرات ،وهو ما جاء ارتكانا لذات الاتهامات التي أطلقت من قبل مسئوليين أمريكيين وأمميين وأوروبيين .

ومن بعد جرى اتهام كرازاى بتزوير الانتخابات بما عطل الإعلان عن نتائجها وعلق اللعبة برمتها .عاشت السلطة مرحلة مريرة خلال فترة الاستعداد للاعادة بين كرازاى ومنافسه عبد الله عبد الله ،الذى هدد باللجوء للعنف بما دفع البلاد للوقوف على حافة الحرب الأهلية والعرقية والقبلية .

وقتها قيل إن الصراع قبلي وجهوي وقيل إن كرازاى يلقى مساندة من بعض دول الاحتلال بينما يلقى عبد الله عبد الله دعما من قوى دولية محتلة أخرى .

لكن الأمور انتهت إلى فوز كرازاى ،بعد تخفيض نسبة فوزه ،وهو ما جاء نتيجة وصول وزيري خارجية أمريكا وفرنسا إلى أفغانستان في وقت واحد ،وإجراء مفاوضات مع الأطراف المختلفة لتحسم نتائج الانتخابات بالمفاوضات لا بأعمال التصويت ،وليصبح كرازاى رئيسا رغم كل الاتهامات التي سيقت ضده ،وفي ذلك كان العامل الحاسم هو رؤية القادة العسكريين الامريكيين والأطلسيين على الأرض ،بأن نكسة الانتخابات أخطر على قوات الاحتلال من الهزيمة العسكرية .

تلك الصورة الكاملة هى نموذج مقابل للانتخابات العراقية ،وهى تعطى نموذجا عمليا لتصرفات المجموعات المرتبطة بالاحتلال ولسلوك المحتلين ،غير أن الجاري في العراق يحمل عمقا للتصرفات والسلوك على نحو أخطر ،إذ المعركة في العراق تجرى لتعديل التوازنات داخل النخب المتعاونة مع إحتلالين لا إحتلال واحد ،وكلاهما يصارع الآخر على تحقيق حصة أوسع من النفوذ داخل السلطة.

ولهذا الفارق ستطول الامور وتتعقد أكثر مما حدث في أفغانستان ،وفي الأغلب ستكون هناك أعمال عنف بين الطرفين ،إذ نحن أمام انتخابات ستتحدد نتائجها على أساس صراع اقليمى واسع وضمن تسويات لملفات عديدة ومتضاربة في الإقليم .

انكشف الكل
لقد كشفت الانتخابات العراقية-وقبلها الافغانية أن حكاية الديمقراطية التي ادعتها الولايات المتحدة سببا لاحتلال العراق ،لم تكن إلا قناعا كاذبا عند بداية الاحتلال ،وأنها ظلت كذلك خلال الاحتلال كوسيلة لإيصال المواليين للاحتلال إلى الحكم وطريقة لتزييف إرادة العراقيين ،وأن وظيفتها تنحصر في تعديل التوازنات بين المجموعات المتعاونة مع الاحتلال، وأنها طريقة وآلية لتنظيم الصراع بين الاحتلالين الأمريكي والإيراني ،وأن الهدف الأعلى منها ولكل الأطراف الداخلة فيها هو وضع أطر داخلية في العراق لاستبعاد الوطنيين والقوميين والإسلاميين في العراق من الوصول للسلطة .

وكشفت الانتخابات كيف أن إيران لم تتعاون مع الولايات المتحدة خلال التحضيرات وإنفاذ أعمال احتلال العراق ،فقط،بل هي وجدت في لعبة الانتخابات آلية لتعميق نفوذها ودورها من خلال دعم وتقوية المتعاونين معها في داخل العراق ،والمعنى أن إيران لم تستهدف فقط إطاحة نظام معادى لها في العراق –نظام الرئيس صدام حسين-بل كانت خطتها وما تزال احتلال العراق وتغيير هويته وضرب قواه الوطنية ..الخ ،وهنا يبرز الوجه الواضح للمأزق الراهن في العراق ،إذ القوى المتعاونة مع إيران تقف بوضوح معلنة عدم تسليمها للسلطة طواعية وأنها ستقاتل من أجل استمرار سيطرتها على العراق .

وإذ كشفت الانتخابات عن طبيعة الولاءات الخارجية للنخب أو المجموعات التي تصارعت في العملية السياسية ،فإنها كشفت عن اتخاذ كل منها لعبة الانتخابات وفكرة الديموقراطية وسيلة للوصول للحكم دون تركه إلا بالقوة ،والمعنى أن لا أحد منهم على قناعة لا بالديموقراطية ولا بالحرية.

وواقع الحال أن مثل تلك الحقيقة لم تكن بحاجة إلى تأكيد من الانتخابات والتصريحات والصراع الجارى حاليا ،إذ من وافق على إطاحة حكم بلاده بالقوة العسكرية للمحتل ،لا يمكن له أن يؤمن لا بالديموقراطية ولا بالوطنية وبأى مبادىء أيا كانت ،وكذا لأن مسيرة تلك الجماعات منذ وصولها للحكم –على ظهور الدبابات الأمريكية والدعم المالي والاستخبارى الإيراني –وحتى الآن هي مسيرة تطهير عرقى وقتل على الهوية وتهجير للسكان من منازلهم والاستيلاء عليها وتشكيل ميليشيات القتل والارهاب.

والأهم في كل ذلك هو أن تلك الانتخابات ،جرت مثلها مثل انتخابات عام 2005 على صعد التزوير والتزييف،بما ثبت أن العملية السياسية التي شكلها الاحتلال ،هي لعبة لتزييف الوعى وإنهاك المجتمع العراقي وفرضا للصراع الطائفي والعرقي وآلية لتفتيت المجتمع العراقى لا لتوحيده ،ووسيلة لتغيير التوازنات بين مجموعات وعصابات جاءت مع الاحتلال –إذ الوجوه هى نفسها-وأنها وسيلة لتعميق التغلغل الخارجي في البلاد على كل الصعد ،وآلية لتشكيل حكم معزول لا يلقى دعمه إلا من قبل المحتل أو المحتلين ،وذلك كله هو ذات النمط الذي جرى في أفغانستان من قبل ،وهو ذاته الذي جرى في كل الدول المحتلة عبر التاريخ الحديث والمعاصر.

لكن السؤال الذي تطرحه تلك الانتخابات ،هو كيف تستفيد المقاومة العراقية من تلك الحالة التي فضح فيها العملاء بعضهم لبعض ،وماذا ستفعل هى الآن بعد أن انكشفت العملية السياسية للاحتلال وكيف تطور إستراتيجيتها السياسية في المرحلة القادمة.