دفع البرنامج النووى الايرانى.. للخلف!
1 ربيع الثاني 1431
طلعت رميح

تكتمل الآن ملامح "المرحلة الراهنة" من الاستراتيجية الايرانية فى الصراع مع الغرب على النفوذ والسيطرة والسطوة على المحيط الجو-سياسي لإيران. الرئيس الإيراني احمدي نجاد دشن الايام الماضية حملة ضغط على الوجود والنفوذ الغربى من المحيط الاقليمى لايران فى كل الاتجاهات والدوائر من افغانستان وباكستان الى الخليج العربى الى اذريبيجان،اذ تكشف تحركاته وتصريحاته عن مؤشرات دالة على حركة إيرانية ضاغطة فى المحيط، لتطوير حركة سياسية وجماهيرية واعلامية ترفع شعارات التعاون الاقليمى وتركز على ان القوى الخارجية سبب القلاقل وعدم الاستقرار فى المنطقة وان البديل هو التعاون مع إيران لا غيرها. وفى بعض من التصريحات جاء الكلام والتحرك واضحا: اطردوا الأمريكيين من المنطقة، أي اخرجوا القوات والنفوذ الامريكى فى دائرة محيط إيران. وفى رؤية كل ما يجرى يمكن القول، بان إيران، تعمل الآن من اجل دفع الصراع حول برنامجها النووي إلى الخلف، بتقديم قضايا أخرى في الصراع والاشتباك لشغل الدوائر المضادة بتلك القضايا، كما نحن أمام حركة مباشرة لقوى موالية لإيران في الإقليم، لإشغال الخصوم كل فى منطقته وبالضغط على مصالح القوى الخارجية على الأرض مباشرة، وكل ذلك وفق رؤية تطرحها ايران بانها هى وحدها القادرة على مواجهة "الإرهابيين" -المعادين للغرب -بكفاءة اعلى من وجود القوات الغربية بتكلفتها السياسية والاقتصادية الكبيرة على الغرب.

 

كانت المؤشرات من تصريحات وحركة إيرانية، قد كرست جهودها خلال المرحلة السابقة، للدفاع عن حق إيران فى امتلاك وتطوير برنامج نووي سلمى، مع تكثيف الضغط الإعلامي على "إسرائيل" وتصويرها فى وضع الرهينة حالة وقوع عدوان غربى على ايران . لكن المرحلة الأخيرة شهدت نشاطا ودورا ايرانيا فى المحيط الايرانى المباشر من باكستان وافغانستان الى الخليج الى سوريا ولبنان والعراق الى اذريبيجان .. الخ، تحت شعارات واضحة بضرورة اخراج الأمريكيين من عموم المنطقة، لكن دون منطق عدائي بل من خلال اطروحة ان الوجود الامريكى العسكرى لم يقدم شيئا من الحلول، بل زاد فعاليات الإرهاب فى المنطقة.

 

فى خطاب نجاد فى مدينة بندر عباس جنوب إيران، دعا القوى الغربية التي وصفها بالفاسدة للتوقف عن زعزعة الاستقرار في منطقة الخليج، مشيرا إلى ضرورة مغادرة القوات الامريكية باعتبارها مصدرا لعدم الاستقرار ومهددا بان يدها ستقطع، وهنا تحدث داعيا الدول العربية فى الخليج بالتعاون مع ايران للامساك بزمام الامن والاستقرار .

 

وفى تصريحاته خلال زيارته الأخيرة لأفغانستان، تهكم على حديث وزير الدفاع الامريكى بشان وجود نجاد فى هذا البلد، وأشار إلى أن الأمور لن تحل بتحشيد الجيوش الغربية، ولكن عبر التعاون مع دول المنطقة وأجهزة مخابراتها، فطرح على أفغانستان دور ايرانى بديل للوجود الغربى من خلال العمل الاستخبارى، وهو ما دفع المراقبين للقول بان ايران تطرح نفسها كبديل للقوة العسكرية الامريكية ضد نفس العدو –المشترك-الذى هو طالبان .

 

وفى لقائه مع رئيس البرلمان الازريبيجانى، طالب نجاد بضرورة النهوض بالتعاون الاقليمى لمواجهة نظام الهيمنة . وهكذا جرى الحال بشان العراق ومن خلال لقاءات مع قادة باكستان،كما المعركة انفتحت فى لبنان ضمن نفس الخط .
لكن اللافت فى كل هذه الدعايات والتحركات الزاعقة، ان الرئيس الايرانى يقدم نفسه وايران كدولة قادرة على مواجهة الإرهاب، لا كدولة معادية أو مضادة للآخرين، بما يطرح افاقا واسعة لتساؤلات متكاثرة .

 

هل تعزز ايران اوراقها التفاوضية مع الولايات المتحدة، وهو ما تكشفه تصريحات سابقة للرئيس الايرانى بان حل المشاكل فى المنطقة لابد ان تجرى عبر ايران . أم أن نجاد اطمأن الى ان الحرب لن تجرى ضد ايران وان فرض العقوبات على ايران صارت بدورها فى وضع متراجع، ولذلك تحرك الى ما هو اوسع وابعد تاثيرا على الوجود الامريكى، فى محاولة لدفع الكل لاعتبار الملف النووى الايرانى امر يقع فى مرتبة متاخرة من الحوار والصراع . أو أن نجاد يقدم الدور الايرانى فى مواجهة "الارهاب" كنمط من المقايضة مع البرنامج النووي، ولإظهار أن لا خوف من دور ايرانى –فى المنطقة-مدجج بالسلاح النووى .

 

حزب الله .. وقضية الاتفاقية
ضمن اطار الحملة على النفوذ الامريكى فى المنطقة توسيعا لمساحة الوجود والدور الايرانى، وفى نمط استثمار واضح لحالة الضعف والتراجع الامريكى، تفجرت فى لبنان قضية الاتفاقية الامنية الموقعة بين السفير الاميركي السابق في بيروت جيفري فيلتمان والمدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء اشرف ريفي . الاتفاقية كانت وقعت فى عامَ الفين وسبعة ولم يجر بشانها اية حالة صراع او خلاف طيلة السنوات الثلاث، لكن ظروف الضعف لأمريكا وحلفائها اتاحت فتح الملف وخوض حملة شاملة لانهاء العمل بالاتفاقية. خبراء القانون والدستور فى لبنان رصدوا مجموعة من المخالفات الدستورية والقانونية على الاتفاقية الأمنية، مؤكدين انها باطلة. اللجان البرلمانية تشكلت والصحف والمحطات الفضائية وضعت متابعة الاتفاقية فى اول اهتماماتها، وصار الهدف هدفين.

 

الهدف الأول، إنهاء تلك الاتفاقية وتثبيت الفكرة او الرؤية التى اطلقها الامين العام لحزب الله بان ما يصل لأمريكا هو واصل "لإسرائيل" بالتأكيد، وهو ما وضع الأساس الاستراتيجى الحالى فى مطاردة النفوذ الامريكى فى لبنان من قبل قوة ترتبط بشكل مباشر بإيران. أما الهدف الثاني، فهو اظهار الحكومة السابقة بمظهر الذى وقع معاهدات من خلف ظهر الآخرين، تقضى بتبادل معلومات مع السفارة الامريكية التى ترسل كل ما يصل لها "لاسرائيل" -التى هى عدو -والمعنى مفهوم طبعا، إذ من يرسل معلومات لكل عدو هو فى صفه.

 

هنا يبدو واضحا ان مثل هذا الامر كان مقررا من وقت تشكيل الحومة اللبنانية الحالية، اذ كانت احد مشكلات الوصول لتوافق بشانها تتعلق بالمناصب التى جرى من خلالها الان الكشف عن تلك الاتفاقية وادارة عملية تقويضها وتقويض مصداقية القوى التى وقعتها فى الحكم السابق وتحويلها الى موقع المتهم بتوصيل المعلومات "لاسرائيل" عبر سفارة الولايات المتحدة .

 

حملة امريكية مضادة
فى مواجهة الحملة الايرانية الضاغطة على النفوذ والوجود الامريكى فى المنطقة وفى المحيط الايرانى بصفة خاصة، بدا نائب الرئيس الامريكى جون بايدن ووزير الدفاع الامريكى روبرت جيتس حملة سياسية واعلامية مضادة خلال زيارات للدول المعنية بالقضية الفلسطينية مباشرة وتلك المعنية بالمواجهة الحدودية مباشرة مع ايران .
جيتس عمل بشكل مباشر على اعطاء اشارات باستهداف محاولة فرض العقوبات على ايران من خلال جولته، وتحدث عن استعداد دول الخليج –التى زارها-لبذل الجهود لدى اقطاب دولية خاصة الصين للموافقة على فرض عقوبات على ايران .

 

وبايدن حاول فى الاتجاه الاخر،اعطاء اشارات على تحرك امريكى جاد لبدء حملة ضغط على اسرائيل لاجراء تفاوض جدى مع السلطة الفلسطينية، بعدما وافق العرب على طلب الولايات المتحدة اعطاء فرصة لتلك المفاوضات لمجة اربعة اشهر.
لكن البادى ان كلا المسئولين وجولاتهما فى الاتجاهين قد فشلت فى تحقيق ما ارادت الولايات المتحدة . اقوال جيتس بشان موافقة دول الخليج التى زارها على بذل جهود لاقناع الصين بفرض عقوبات على ايران، جرى تكذيبها فى السعودية فور مغادرة الرجل، وجهود بايدن فى اسرائيل جاءت بنتائج عكسية تماما، اذ وجه نتنياهو لطمات له بشان الاستيطان صارت تتفاعل على صعيد توتر فى العلاقات الامريكية الاسرائيلية !

 

ايران و"إسرائيل": رؤية واحدة
هنا يبدو اللافت فى التحركات الجارية فى المنطقة، ان كلا من ايران والكيان الصهيونى يعملان وفق ذات الرؤية لحالة ووضع الولايات المتحدة استراتيجيا . ايران تعلن بوضوح ان "الاستكبار العالمى" ممثلا فى الولايات المتحدة، صار يضعف ويضعف، وان سطوته على العالم صارت الى زوال، وان الدول الصاعدة فى العالم تعيد تشكيل خارطة التوازنات الدولية، وتلك هى الرؤية الأساسية التى بنت عليها ايران استراتيجية الضغط على النفوذ الامريكى فى الجوار للحلول محله، وفق المقولة الشائعة القائلة بان المنطقة تعانى من فراغ قوة، وان على ايران ان تتقدم لتملا هذا الفراغ .
غير ان المتابع لطبيعة الحركة "الاسرائيلية" تجاه الولايات المتحدة، يلحظ ان للقيادة "الاسرائيلية" ذات الرؤية لحالة الضعف والتراجع الجارى فى قدرات الولايات المتحدة، وفق منطق الصداقة لا العداء بطبيعة الحال . هذه الرؤية "الاسرائيلية" تجلت فى الضغط على ادارة اوباما حتى تراجعت عن وعودها –وبطريقة اقرب الى الاهانة- للعرب بانها ستضغط على "اسرائيل" لوقف الاستيطان قبل المفاوضات مع السلطة الفلسطينية مجددا، وهو التراجع الذى جرى وفق لغة ديبلوماسية لم يعهدها العالم من الولايات المتحدة . كما تجلت نفس الرؤية فى طريقة تعامل وزير الخارجية الصهيونى ليبرمان من قبل مع المبعوث الامريكى للقضية الفلسطينية حين اظهرت الكاميرات كيف ادار ليبرمان ظهره للمبعوث الامريكى ولم يودعه على باب وزارة الخارجية "الاسرائيلية"، وقد وقف الرجل فى انتظار السلام والوداع ولم يجد بديلا عن الانسحاب مبتلعا الاهانة . كما ظهر الأمر مؤخرا فى اللطمة –يمكن القول اللكمة -المضاعفة التى وجهت لنائب الرئيس الامريكى خلال زيارته الاخيرة لاسرائيل اذ اعلن فى اسرائيل خلال وجوده عن مشروع استيطانى يشمل 1600 وحدة، ثم جرت "ترضيته" بالكلام وتوجيه ضربه اشد له ولما زعم من أقوال، بالإعلان عن بناء 50 الف وحدة استيطانية جديدة !.

 

ايران تخسر
والسؤال المباشر والمهم فى متابعة ما يجرى، هو ايهما يكسب وايهما يخسر فى تلك الحالة من التبارى فى الحصول على مكاسب على حساب مصالح امتنا . الامر متعدد الجوانب وهناك مناطق يكسب فيها هذا الطرف ومناطق يكسب فيها الطرف الاخر، وفى كلا الحالتين نحن الذين نخسر بطبيعة الحال . والبداية من العراق، وما جرى من انفاذ كل طرف استراتيجيته هناك خلال المعركة الانتخابية الاخيرة . وفى حسابات النتائج لتلك الانتخابات، فهناك قياس يركز على عدد الاصوات التى حصل عليها المرشحين والقوائم او الكتل والتحالفات، وفى ذلك يجرى حساب اعضاء البرلمان من هذه الكتلة او الطائفة او القومية او المذهب . هنا يكون الاهتمام بالمكاسب منصبا على القضايا المتعلقة بتشكيل الحكومة والانصبة فيها من الوزراء واشكال الترضية لهذا الفريق او ذاك خلال تشكيل رئاسة مجلس النواب ومن سيعين فى منصب رئيس الجمهورية ومن هم نوابه. . الخ
لكن نتائج الانتخابات لها قياسات أخرى، أهم من تلك النتائج التى تعرض على الشاشات الان فى المفوضية العراقية على طريقة نتائج الثانوية العامة فى مصر او تصفيات مباريات الدورى او الكاس. أول ما تقاس عليه نتائج الانتخابات فى الحالة العراقية، هو تأثير تلك الانتخابات على وضعية استقلال العراق، ووقف التدخلات الخارجية فى شئون هذا البلد. وثانى النتائج، تقاس بما تحققه الانتخابات على صعيد بنية الوحدة الوطنية بين كل المكون العراقى لا بين الكتل والمجموعات السياسية . وثالث تلك النتائج يقاس بمدى قدرة ما اتت به من حكم وتشكيلة سياسية، فى الحفاظ على ثروات العراق وانهاض اقتصاده الوطنى وتقليل الاثار الاجتماعية الخطيرة التى خلفها الاحتلال ومدى القدرة على انهاء ظاهرة الميلشيات ووقف اشكال الفساد المستشرى .

 

ترى، ما الذى تحقق فى الانتخابات العراقية الاخيرة من كل ذلك ؟ . لا شيء . ذلك ان الانتخابات جرت فى الحقيقة كحالة مباراة بين كل من انصار ايران من جهة وانصار الولايات المتحدة من جهة اخرى، فقد لفت النظر ان ايران قد تدخلت بشكل مباشر فى الانتخابات ضمن خطتها بالتصعيد فى محيطها، بينما اعتمدت الولايات المتحدة خطة التدخل غير المباشر او هى حرصت ان لا تبدو متدخلة فيما يجرى . ما الذى حققته ايران بتدخلها المباشر فى الانتخابات العراقية ؟. لقد جاء التدخل الايرانى واضحا فى اتجاهاته، حين تحدث المسئولين الإيرانيين بتاييد جماعات والتحذير من ترشيح وانتخاب جماعات اخرى، او بالدقة حين صدرت تحذيرات ايرانية من ترشيح وانتخاب جماعات بعينها تحت حجة عدم السماح للبعثيين بالعودة الى الحكم .

 

هنا قفزت ايران من حالة التدخل غير المباشر الى التدخل السافر والمعلن -وهو ما جاء امتدادا لعبور قواتها الحدود العراقية والاستيلاء على حقل الفكة العراقى –بما دفع القوى والمجموعات التى وقفت ضدها ايران الى فعل مضاد مباشر وسافر ايضا، فوجدنا من يخوض الانتخابات تحت شعارات الحرب على النفوذ والتدخل الايرانى فى العراق، وقد كانت تلك القوى تحرص من قبل على ان يكون تعرضها لايران على طريقة الكلام هامس، غير المحدد فى لغة اتهام ايران .
خسرت ايران، اذ صار دورها مكشوفا وعلنيا فى داخل العراق، بما ولد حالة سياسية مناهضة لها بشكل علنى مضاد، وهو ما يؤثر على وضعبتها فى ايران والمنطقة .

 

وفى المقابل واذ حرصت الولايات المتحدة على الظهور بمظهر "غير المتدخل مباشرة " فى الانتخابت العراقية -وهو ما ساهم بطريقة او باخرى باظهار ايران بالمظهر العكسى-فقد حققت تحسينا لاوضاعها فى مواجهة النفوذ الايرانى. الولايات المتحدة ركزت دعايتها ونشاطها السياسى فى العراق وبشانه، على انها تتمنى نجاح الانتخابات حتى تتمكن من تنفيذ ما جاء فى الاتفاقية الموقعه مع الحكومة العراقية، بسحب القوات الأمريكية، وهو ما اظهرها بمظهر المتمسك بالانسحاب، وان تبدو حين لا تنسحب وكانها فى وضع المضطر من اجل تحقيق مصلحة العراق !

 

لكن الولايات المتحدة، ظهرت كمن سلم العراق لايران، وهو ما يفقدها المصداقية فى لعبة حشد العرب ضد ايران، كما هى ظهرت بمظهر من لا حول له ولا قوة او بمظهر الخائف من ايران، وهو ما ينعكس سلبا على حالة الخوف العربية السابقة من امريكا ونفوذها وقوتها . . الخ.
واذا انتقلنا الى الحالة اللبنانية، فالبادي ان النتائج على عكس الحالة العراقية، اذ يكسب حزب الله فى الواقعة الخاصة بالاتفاقية الجارى الصراع حولها، استمرار لخط التراجع الحاصل للطرف الاخر فى المواجهة فى لبنان منذ حرب يوليو 2006 .

 

ما الاشكالية
الاشكالية الجوهرية فى كل ما يجرى فى المنطقة، هى ان الطرف الذى يجرى عليه الصراع وبشأنه تقاسم المصالح، هو طرف ما يزال غير قادر على النهوض والوقوف فى المواجهة مع هذا الطرف او ذاك . لو حدث لتغيرت كل قواعد اللعبة.