حرية الإعلام في ظل الهيمنة الغربية.. البوسنة نموذجاً
22 ربيع الأول 1431
عبد الباقي خليفة

تزداد التدخلات الغربية في فضائنا الإسلامي، بما فيه العربي، على المستويين السياسي والإعلامي، لصنع أشخاص وحكومات ومنظمات تعمل لصالحه. وقد ازداد اهتمام الغرب بالجانب الإعلامي، إدراكاً منه للدور الكبير الذي يؤديه الإلحاح الإعلامي في تشكيل الرأي العام، وفي صياغة الأحداث بالطريقة التي تخدم أهداف من يقف وراءه.

 

وقد أقام الغرب في السنوات الأخيرة العديد من المشاريع الإعلامية من فضائيات ومحطات تلفزيونية وإذاعية، ومجلات وجرائد، ومواقع على الانترنت. ولأن المشاريع الإعلامية الغربية الصريحة لا تحقق الغرض المطلوب، فقد استخدم الغرب وسائل إعلام التابعين السياسيين، أو العملاء الصغار لتحقيق أهدافه. كما يستغل الأوضاع السياسية، وهيمنته على الكثير من الأقطار، للتدخل في عمل وسائل الإعلام الأخرى، لتطويعها عن طريق التمويل، أو الوكيل السياسي، أو التدريب والتسهيلات، وغيرها من المغريات لتكون رهن إشارته، وفي خدمة أجندته العامة في ذلك البلد.

 

وتعد البوسنة نموذجا بارزا في هذا الصدد، حيث تمول الجهات الغربية، العديد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وتفرض على تلك الوسائل شروطا من بينها عدم مهاجمة مشاريع الهيمنة الغربية، أو تناولها بالنقد. ويتعدى الأمر السياسة الغربية في هذا البلد أو ذاك، سواء أكانت أمريكية، أم بريطانية، أم فرنسية، أم ألمانية، أم ايطالية..... فلا يمكن لوسائل الإعلام التي تمولها هذه الدول، مهاجمة سياساتها في الدول الإسلامية، مثل العراق وأفغانستان، فضلا عن مهاجمة السياسة الصهيونية في فلسطين، بل تبرر تلك السياسات أحيانا تحت سيف التمويل والترهيب والتهديد بالإغلاق. وبالتالي تخشى وسائل الإعلام الواقعة تحت مظلة الهيمنة الغربية في العالم ولا سيما خارج الحيز الجغرافي لأوربا الغربية، وربما الولايات المتحدة الأمريكية، من تعرضها للعرقلة وحتى الإقفال، كما حدث مع الكثير من وسائل الإعلام التي لم تعد قائمة اليوم في البوسنة، مثل صحيفة، يوتارني ليست، أو مجلة، ليليان، أو التلفزيون البوشناقي الذي أغلق بقرار من المبعوث الدولي إلى البوسنة. ورغم أن وسائل الإعلام المذكورة لم تكن (راديكالية) حتى بالمفهوم "الغربي الفاشي" للراديكالية، فإنها لم تمول كما هو الحال مع وسائل إعلام أخرى، مثل مجلتي "داني" و"سلوبدنا بوسنة" اللتين تحاربان الإسلام والقيادات البوشناقية الوطنية.

 

وكانت جهات غربية قد عمدت بطرق ملتوية لتغيير إدارات العديد من وسائل الإعلام في البوسنة، ومنها التلفزيون الفيدرالي، المتخصص في النيل من المشيخة الإسلامية ورجالاتها، وهو لا يعطي المناسبات الإسلامية كدخول شهر رمضان والأعياد حقها من التغطية كما يفعل مع المناسبات النصرانية، إذ يغطي نشاطات الفاتيكان، والكنيسة الكرواتية بصورة فجة ومبالغٍ فيها،كما أنه لا يحترم أدنى توازن في سائر برامجه التي تتناول الشأن الديني بين نشاطات المشيخة والكنيسة.

 

لقد حدث الانقلاب في التلفزيون الفيدرالي سنة 2000 م عندما صنع الغرب نصراً مزيفاً للحزب الاشتراكي الديمقراطي، ومكن القوميين الكروات من تحقيق تقدم، وكذلك الأمر بالنسبة للصرب الذين يسيطرون على وسائل الإعلام في مناطقهم. ويقول إلفير شفراكيتش، مدير محطة "هيات" الذي يتعرض بدوره للابتزاز وفرض برامج على محطته بسيف التمويل " للأسف فإن الأسوأ في البوسنة على المستوى الإعلامي يتمثل في أن التلفزيون الفيدرالي مسيس، ونشاطه محتكر لصالح حزب أوحد، هو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ولو كنت عضوا من هذا الحزب لعبرت عن نفس الانطباع. فهو كما ينعته الجميع تلفزيون الحزب الاشتراكي الديمقراطي، اس دي بي، وتلفزيون كرواتي. وهذه أكبر خسارة للبوسنة والهرسك.

 

وتلفزيون صرب البوسنة، هو بين قوسين تلفزيون حزب، الاشتراكيين المستقلين، الذي يقوده ميلوراد دوديك. فهو يدعم الحكومة، بينما يدعم التلفزيون الفيدرالي جانباً من المعارضة الممثلة في، الحزب الاشتراكي الديمقراطي. والانحياز لطرف سياسي ليس عملاً احترافياً، بل دعاية مدفوعة الثمن". ويمضي قائلا "ربما يعتبر تلفزيون البوسنة القناة الأولى، هي القناة الأكثر مهنية. وبالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى، فالكثير منها تتلقى دعما ماليا كبيرا من الجهات الأوربية والأميركية، وأي وسيلة إعلام تتلقى دعما من جهة ما لن تتحدث بما يغضب تلك الجهة. ولذلك هناك سؤال عن مدى المهنية والالتزام بمعايير الإعلام الحر". وإذا علمنا أنه يوجد في البوسنة التي تبلغ مساحتها 56 ألف كيلومتر مربع، ولا يزيد عدد سكانها عن 4،5 مليون نسمة، 47 محطة تلفزيونية ونحو 100 محطة إذاعية ومئات المواقع الإلكترونية، وعشرات الصحف والمجلات، يتبن لنا حجم الهجمة على الأمة الإسلامية، من خلال هذه العينة. وفي المقابل لا توجد دولة إسلامية تمول مجلة أو جريدة أو محطة تلفزيونية. ما عدا إيران التي تركز على المناهج التعليمية، وتعمل على تسميمها بالمواد التشييعية، كما لها اتصالات مع وسائل الإعلام التي تبث برامج مدفوعة الثمن من طهران.

 

وعما إذا كان هناك تغيير على صحيفة دنيفني أفاز وهي أكبر صحيفة في البوسنة، ولديها استقلالية نوعا ما، وتنشر أخبار المشيخة الإسلامية، رغم أنها متأثرة بالهيمنة الغربية في البلاد، يرى، شفراكيتش، بأنها لن تتغير كثيرا بعد أصبح مالكها فخرالدين رادونجيتش رئيسا لحزب سياسي "أفاز لن تكون صحيفة حزبية غير منتظر أن تكون ألفا أو أفاز ضد أحزاب أخرى.. لم يحدث تغيير كبير على الأداء الإعلامي".

 

ولا يتوقف الأمر على التدخل الغربي المباشر في العمل الإعلامي في البوسنة فحسب، بل هناك هجمة إقليمية، فالصرب والكروات عملوا على إيصال أبواقهم الإعلامية إلى البوسنة، مثل تلفزيون، بينك، الصربي، وأوبي إن الكرواتي.

 

والذي يُحمد لتلفزيون، هيات، هو البرامج الإسلامية في رمضان والذي يستمر طوال الشهر الفضيل، وإن كان مدير المحطة يعيب على بعض الجهات الإسلامية عدم التعاون معه، لضمان استمرار البرامج الإسلامية في محطته "ويقول مديره: في رمضان وفي العيد كان لنا برامج مع الناس والمشيخة الإسلامية، ومنها برنامج أسبوعي في يوم الجمعة، لم يكن هناك ضغوط. لدينا تعاون مع المشيخة الاسلامية، لا أستطيع أن أنجز برنامجاً دينياً بدون المشيخة الإسلامية. ورئيس العلماء كلف مفتي سراييفو بمتابعة الموضوع. من الجمعة إلى الجمعة، عملنا مع الحافظ سلمان بوقاري. البعض اتهمنا بأننا تلفزيون ديني، وجاءنا البعض وقال بأننا لا نحتاج لمثل هذه البرامج. في رمضان لدينا برامج قبل الإفطار وأخرى بعد الإفطار، فرمضان لديه روحانية كبيرة. الآن جددنا الاتصال مع رئيس العلماء، فهو إنسان حيوي وناشط، وإن شاء الله نستأنف البرامج الإسلامية قريبا". وحول الوضع في البوسنة قال " المجتمع الدولي، لم يعمل كما يجب لحل المشاكل في البوسنة، ويتركون بعض السياسيين يفعلون ما يريدون. وباسم المصالح القومية يعرقلون الإصلاحات اللازمة للدفع بالبوسنة للأمام واستيفاء شروط الشراكة الأوروأطلسية. ويزعم الصرب أنهم مهددون، ولذلك يرون في رفضهم للإصلاحات دفاعا عن مكاسبهم. وقد بدا واضحا للكثيرين أن رئيس حكومة الكيان الصربي في البوسنة، ميلوراد دوديك، لا يختلف في رأيي عن زعيم صرب البوسنة سابقا، رادوفان كراجيتش، والرئيس الصربي الأسبق، سلوبودان ميلوشيفيتش، وأعتقد أن ميلوراد دوديك مستعد لقيادة الصرب مجددا للحرب، بدون ضمان نتائج لصالحه، فقط يريد الاحتفاظ بالسلطة بالضرب على وتر المصالح الطائفية. وفي الجهة الأخرى الكروات ينتظرون ما ستؤدي إليه الأوضاع السياسية، في حين تتباين وجهات نظر الزعماء البوشناق للأسف فهم غير موحدين، وليس لدينا زعيم واحد، وإنما لدينا على الأقل 3 زعماء، لوجومجيا، وحارث سيلاجيتش، وسليمان تيهيتش، وأضيف إليهم، فخر الدين رادونجيتش، الذي كوّن حزبا جديدا". ويتابع "في ظل هذا الوضع نرى انقساما يؤدي بدوره لتشتت الصوت البوشناقي في البوسنة والهرسك. وهناك آراء مثلا داخل الحزب المركزي للمسلمين والأكثر شعبية في البوسنة، حزب العمل الديمقراطي، فالبعض يرى التحالف مع حزب، من أجل البوسنة، الذي يتزعمه حارث سيلاجيتش، وفريق آخر يرغب في التحالف مع، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهناك من يريد التحالف مع رادونجيتش. وبدون تأثير المجتمع الدولي، لن نخرج من دوامة الخلافات الطائفية. وتقوم تركيا بدور إيجابي جدا لتحسين الأوضاع، وهناك من يعتقد بأن الحديث مع دوديك لا فائدة منه، ويجب التخاطب مباشرة مع بلغراد، لأن صربيا من الدول الضامنة لاتفاقية دايتون. والأفضل عقد تحالف بين الأحزاب البوشناقية في الانتخابات التي ستجرى في أكتوبر القادم".

 

وحول الاستفتاء على الاستقلال الذي يهدد به دوديك قال "أنا على ثقة مما قاله أستاذ القانون الدولي الدكتور قاسم ترنكه، وهو أن الاستفتاء الذي يهدد به رئيس وزراء صرب البوسنة لا يقف على أرض صلبة، وليس له سند قانوني، ولا يستند لأي قاعدة دستورية، بل هو مخالف بشكل صريح لاتفاقية دايتون التي تحظر إقامة استفتاءات بشكل فردي داخل أي من الكيانين، صربسكا، والفيدرالية، داخل البوسنة والهرسك. بل لا يستطيع دوديك إجراء أي نوع من الاستفتاءات حتى لو كان على أمور بسيطة جداً،أوبديهية كحقوق الإنسان مثلا. وأعتقد أن رئيس وزراء صرب البوسنة ميلوراد دوديك يقوم بعملية جس نبض للشركاء في الوطن، والمجتمع الدولي، وذلك على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، أي تكتيك كسب الانتخابات عن طريق دغدغة الأحلام والتمنيات الشوفينية، واستراتيجية التحقيق الفعلي للمشروع الفاشي المتمثل في الانفصال عن البوسنة وإقامة صربيا الكبرى".