تجديد الخطاب الدعوي

بعض الدعاة والخطباء يتقمصون شخصية أحد العلماء القدامى , فإذا تكلم أحدهم في موضوع ما فلابد أن يأتي بكل الروايات التي تتعلق بهذا الموضوع، سواء كانت صحيحة أم ضعيفة، وربما تكون موضوعة، إما تقليدًا محضًا أو إظهارًا لغزارة العلم وسعته وأنه يحفظ كل هذه الروايات!! وليس المهم بعد ذلك الوقت، سواء وقت السامعين أو المشاهدين أو وقته هو، والملل الذي يجلبه للسامعين.

 

 

بعض علمائنا القدامى- وعن صفاء نية وخروجًا من المسئولية سجل كل ما سمع من روايات، أو وجدها في كتاب، ثم يقول لك: بما إني أتيت بالسند فقد أديت الأمانة وما عليك أيها القارئ إلا أن تحقق وتعرف المزيف من الصحيح، وهنا تقع المشكلة، فهل كل قارئ عنده القدرة على التحقيق والتفتيش، هذا عدا عن أن هناك مغرضين يستغلون هذه الروايات ويقولون لك: هذا في الطبري وهذا في ابن كثير.

 

 

هذا الشغف بالروايات هو الذي أدى بالطبري إلى أن يذكر أن الذبيح هو (إسحاق) عليه السلام وليس إسماعيل، الروايات الكثيرة تأتي بالمبالغات في الأرقام، فعندما روى الذهبي عن أبي بكر محمد بن عباس (الوركاني) جار الإمام أحمد، قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس، علق الذهبي على هذه الرواية: (هي حكاية منكرة، والعقل يحيل أن يقع مثل هذا الحدث في بغداد، فو الله لو أسلم يوم موته عشرة أنفس لكان عظيمًا) ( 1).

 

 

هل نروي ما يقوله أحد رواة التفسير القدماء أن (ق) هو جبل يحيط بالأرض، أو انشغال بعض المفسرين باسم كلب أهل الكهف، وفي أي مدينة كان هذا الحدث، أم نروي هذا التبسيط عند بعض القدامى في رؤية الأشياء والحكم عليها، فيقولون مثلاً: أسس الحكم للفرس، والحكمة لليونان والفنون للصين .... لماذا لم ينظروا إلى طريقة الحكم عند اليونان وهي أفضل من طريقة الفرس، ولهذا قلدوا الوزارات في الخلافة العباسية للفرس، والأصل أن يتكلموا عن الطريقة الشورية الإسلامية، ويستخرجوا منها أصولاً لنظرية الحكم.

 

 

كانت الرواية والإسناد اختراعًا إسلاميًا، وكان له الفائدة العظمى في تنقية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الضعيف والموضوع، ولكنه تحول في العلوم الأخرى إلى مرض (التكديس) فالمؤرخ أو المفسر يجب أن يأتي بكل الروايات التي سمعها.
نحن مرهقون بحمل ثقيل في هذه الروايات الضعيفة، والشيخ والواعظ عندما يبدأ بالسرد: ويقال: كذا، ويقال: كذا، ويسرد عشرة أوجه أو أكثر للمسألة الواحدة، كان الأجدر به أن يختار ما هو الأرجح والأقوى ويبلغه للناس، ولا يرهقهم بكل ما يحفظ.

 

 

إن بعض المشكلات التي كان يعاني منها العالم الفلاني أو الفلاني لا نعانيها نحن في هذه الأيام، وإننا نعاني غيرها وأشد منها ، وإذا كانت الأمور ملتبسة على الناس، فما المانع في إيضاح الحق وإصابة المحز كالذي كتبه العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله وهو يعالج مسألة الصوفية الخرافية، يقول: (ثم ما هذا التصوف الذي لا عهد للإسلام الفطري به، إننا لا نقره مظهرًا من مظاهر الدين، أو مرتبة عليا من مراتبه، ولا نعترف من أسماء هذه المراتب إلا بما في القاموس الديني، النبوة، الصديقية، الصحبة، الاتباع، ثم التقوى التي يتفاضل بها المؤمنون، ثم الولاية التي هي أثر التقوى، وهل ضاقت بنا الألفاظ الدينية ذات المفهوم الواضح حتى نستعير هذه اللفظة المبهمة الغامضة، التي يتسع معناها لكل خير ولكل شر، ويقينًا لو كان للمسلمين يوم اتسعت الفتوحات ديوان تفتيش (على الحدود) لكانت هذه الكلمة في المواد المحرمة الدخول...) (2 ).

 

 

إن التراث(3 ). بمجمله هو الرافعة والركيزة التي يبنى عليها النهوض، والذين يهاجمون التراث، هم في الحقيقة لم يطلعوا عليه إطلاعًا واسعًا وبحياد وتجرد، وبعضهم مغرض يهاجمه لمعرفته بأهميته وعظمته وقوته للمسلمين.
لماذا لا نكون كالبستاني الذي يسقي الجذور، ويشذب الأغصان، ويهتم بالأرض ليزرع فيها ما يرقي المجتمعات في الحاضر والمستقبل.

 

 

==========================================================

(1) «سير أعلام النبلاء»: «11/343».

([2]) «سجل مؤتمر العلماء»: «38».

([3]) «بالمعني الإيجابي الذي نريده، لا كما يستعمله المغرضون وكأنه تحفة جميلة من الماضي».