اغتيال المبحوح: "إسرائيل" تطلب رد حماس
19 صفر 1431
أمير سعيد

العملية الإرهابية التي نفذها الموساد الصهيوني وأسفرت عن استشهاد القيادي محمود عبد الرؤوف المبحوح في إحدى غرف فندق البستان روتانا بمدينة دبي فاجأت جميع الدوائر السياسية والإعلامية في المحيط الفلسطيني وحوله في الإقليم؛ فلم يكن أوسع المراقبين أفقاً يتوقع أن تأتي الضربة الصهيونية لحماس على بعد كيلو مترات من إيران، وفي إحدى أكثر المدن العربية انفتاحاً على العالم، وأبعدها عن أن تكون ميداناً للصراع بين القوى المقاومة و"إسرائيل".

في تلك المدينة المزدحمة، التي تعج بنشاط هائل في مجالات الأعمال والمال، بدا التطفل السياسي والأمني ينسخ خيوطه العنكبوتية عليها؛ فلم تعد دبي تلك المدينة الاقتصادية الوادعة، وبدأت تخطو ببطء نحو الاشتباك السياسي، والتحول إلى ميدان لتصفية الحسابات.

ربما الوقت مبكر للاندفاع نحو هذا الانطباع، لكن الشواهد بدأت تتقاطر مع حصول أكثر من حادثة اغتيال في فترة ليست طويلة في دبي، منها اغتيال القائد الميداني الشيشاني سليم ياماداييف في نهاية مارس الماضي، وأخيراً القيادي القسامي المبحوح، مروراً ببعض الحوادث ذات المدلولات السياسية ولو بدت كقضايا اجتماعية لأول وهلة.

دبي استقبلت وزيراً صهيونياً، ثم حادثة هي الأكبر من نوعها التي تطال قيادي في حماس خارج فلسطين، وبينهما رابط قوي في نظر بعض المحللين؛ حيث قيل إن الوزير قد اصطحب معه فريق الكوماندوز الذي اقتحم غرفة المبحوح بطريقة خلت من وسيلة تفضي إلى معرفة الجناة، الذين ما تركوا أي بصمة تدل عليهم أو هكذا تردد؛ فالفريق الموسادي اقتحم من النافذة ـ مثلما تسرب لوسائل الإعلام بشكل متعمد ـ ثم باشر تحقيقاً بلا صخب مع المغدور قبل اغتياله.

لقد برهنت العملية على عزيمة صهيونية على ملاحقة كل خصومها فيما وراء "الحدود"، وأفهمت الحركة بوضوح أن يد الصهاينة التي طالت خليل الوزير في تونس عام 1988، ود.فتحي الشقاقي في مالطة عام 1995، وحاولت أن تطال خالد مشعل عام 1997، والعديد من نشطاء الحركة الوطنية الفلسطينية في أوربا، بوسعها أن توسع الدائرة، وتمد يدها إلى بلدان جديدة تشهد إرهاصات التطبيع وتشرع في دفع أولى فواتيره الباهظة.

البرهنة تحققت، وهي ليست جديدة، بل إن سياسة الاغتيال ذاتها ذاقها العرب وغيرهم من يهود على مر العصور، وإرادة ارتداء لامات الحرب وشاراته والزهو بقدرة جهاز استخبارات عليل، ورفع الروح المعنوية للمهزومين قبل عام في غزة، كلها أهداف معروفة، لكن ما يثير شهية المحللين ليس ما سبق بقدر التدقيق في الغرض الأساسي لهذه الجريمة في هذا التوقيت.

وزير العدوان الصهيوني "طمأن" رئيس دولة عربية بأن حرباً جديدة لن تشن على لبنان، لكنه أحجم على "الوعد" بالشيء ذاته فيما يخص قطاع غزة المحاصر.

ما الذي فعلته حماس مؤخراً كذريعة لشن حرب على معقلها الغزاوي؟ لا شيء!! وفي ظل الدعاية الناجحة التي قامت بها وسائل إعلام عربية بعضها قريب من الحركة، ازداد الوجه الصهيوني كلاحة في العالم، وبعد ملاحقة وزيرة خارجية الكيان الغاصب السابقة تسيبي ليفني قضائياً، وفرارها من لندن، مشفوعة بالاتهامات المذلة عن مسؤوليتها عن ارتكاب جرائم حرب في محرقة غزة العام الماضي، والنشاط الناجح للجنة الأوربية التي تشكلت لرفع الحصار عن غزة، وفي أعقاب الصخب المصاحب لمنع قافلة شريان الحياة قبل فترة وجيزة، أصبحت الحاجة ملحة لاستفزاز حركة حماس، ودفعها إلى الإقدام على ما يمكن اعتباره مبرراً منطقياً لاتهامها بالإرهاب إن ردت القسام خارج حدود فلسطين على غير ما التزمت به طوال تاريخها النضالي، أو اتهامها بخرق الهدنة، والتذرع بذلك لشن عدوانها المتوقع على غزة.

أو في أقل تقدير، نسج رواية مختلقة حول نشاط المبحوح بغية توريط جهات غير حماس في قضايا تسليح وتمويل، أو دق أسافين بين الحركة ودول عربية لا تضع ذاتها في خانة العداء لها، لاسيما الإمارات وربما الكويت وقطر لاحقاً، عبر الإيحاء بأن الحركة تستخدم "أراض صديقة" في عمليات تهريب أسلحة.

قبل عام، حشرت فصائل بعضها له ارتباط وثيق بـ"إسرائيل"، الحركة في زاوية منع تلك الفصائل والقوى من رد الاعتداءات الصهيونية المتلاحقة بعد انتهاء مدة الهدنة التي كانت الفصائل قد توافقت عليها بالإجماع، ورفضت تلك الفصائل تجديد الهدنة وبدأ إطلاق الصواريخ مجدداً فكانت ذريعة العدوان جاهزة لـ"إسرائيل"؛ فلم تتأخر في تلبية رغبات المحفزين والمتواطئين.

وبعد اغتيال المبحوح صارت الحركة أمام استحقاق آخر يحملها على تسخين أجواء ليست في معظمها في صالحها الآن، لاسيما مع مواجهة أكبر عقبات الاستمرار في إدارة قطاع غزة، وهو الجدار الفولاذي العتيد، وهو أمر ليست الحركة في وارد التغاضي عنه مهما علت أصوات الحنجوريين من غوغاء السلطة وأدوات "إسرائيل" في الفضائيات والمواقع والصحف والمجلات العربية.

ستعي الحركة بالتأكيد كونها ليست في مناخ يمكنها من ممارسة سياسة الثأر ولو لأغلى قياداتها وكوادرها مكانة لديها، وهي لم تفعل في أعقاب اغتيال الشهيدين الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، لأن الظرف لم يكن مواتياً للاسترسال في سياسة قد تجلب مفاسد وتدرأ مصالح، ويتوقع ألا تستجيب لضغوط قواعدها أو انتقادات غيرها، لكنها مع ذلك قد لا تأمن إلصاق أي عملية استخبارية في المنطقة بها لاستفاذ طاقة الصامدين في قطاع غزة في معركة لا محل لها من الإعراب اليوم. وربما ستواصل الحركة رحلات بعض قادتها المكوكية بين العواصم العربية لإيجاد حل لمشكلة الحصار وتوابعها، من غير أن تقدم تنازلات جوهرية، لكنها مع كل هذا عليها وأهل غزة الاستعداد للقادم، لأن الحالة الراهنة في غزة جامدة وفق الرؤية الصهيوأمريكية، ولابد من تسييلها بما يفضي إلى كسر تلك الحلقة العصية، وإعادة الأمور لا إلى ما قبل انتخابات 2006 وإنما لما قبل 1987 حيث لم تكن الحركة قد أعلنت بعد، ولم يكن ناشطوها يمارسون نشاطاً سياسياً.

ستظل إذن حماس عقبة كأداء لا مناص من تدجينها و"معالجة" مشاعرها العدائية لـ"إسرائيل"، ولا مجال للتعايش معها إلا حالما يعبر هذا المختصر "ح م إس" عن مصطلح آخر غير "حركة المقاومة الإسلامية".