ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ
15 صفر 1431
خالد بن صالح الغيص

لا يزال رب العزة يظهر لعباده من الآيات ما يثّبت به إيمانهم ويزيدهم يقيناً بأن هذا الدين حق، وأن الله ناصر دينه ولا بد، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فصلت/53، فمن كان يظن أو يخطر بباله أنه سيأتي اليوم على الدولة التركية العلمانية تخشى من عودة الدين إلى تركيا من جديد، وتخشى من كون رئيس الدولة التركية مسلماً ملتزماً بدينه، بعد هذه السنوات الطويلة العجاف التي حُورب فيها الدين الإسلامي وحُورب فيها كل مظهر من مظاهر الدين كالأذان والحجاب الشرعي والحرف العربي وغيرها، فبعد أن أجهز أتاتورك على الدولة العثمانية والتي كانت في يوم من الأيام رمزاً للخلافة الإسلامية، وحارب اللغة العربية وحارب كل مظاهر التدين، بعد كل هذا يعود الإسلام من جديد في تركيا فيُسمع الأذان ويرى الحجاب الشرعي في الشارع التركي وبدأت تركيا تتبنى بعضاً من قضايا المسلمين وذهب كيد هذه السنين الطويلة هباء منثوراً، وهذا مصداق لقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}الأنفال/18، أي مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله وجاعل مكرهم محيقاً بهم (بتصرف من تفسير السعدي).

 

فلولا أن الله تعالى موهن كيد الكافرين ومضعف مكرهم، وناصر دينه وهازم الأحزاب وحده لما قامت للإسلام قائمة، فالناظر لتاريخ الإنسانية قديماً وحديثاً يجد أنه لا يوجد دين نُصب له العداء وحُورب الحرب العشواء كما حدث لدين الإسلام، ولم تُوجد أمة حُوربت في عقر دارها وحاول أعداؤها أن يزيلوها من على وجه البسيطة كما حدث لأمة الإسلام، فلولا حفظ الله تعالى لدينه ولهذه الأمة لزالت منذ زمن بعيد كما زال غيرها من الأمم ما مسها عشر معشار ما مس أمة الإسلام.

 

وقد خاطبنا الله في القرآن وبيّن أن أمة التوحيد قد مسها ويمسها من المكر الشيء العظيم كما قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} نوح/22، وقال تعالى أيضا: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إبراهيم/46، يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: أي كان مكر الكفار- المكذبين للرسل- بالحق وبمن جاء به من عظمه لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها أي مكروا مكراً كبّاراً لا يقدر قدره إلا الله ولكن الله رد كيدهم في نحورهم. انتهى بتصرف، وأمم الكفر ملة واحدة، دائماً في عداء مستمر مع أمة الإسلام والتوحيد في كل عصر ومصر، صيحة عداء أطلقها إبليس منذ بداية الخليقة أقسم برب العزة لينصبنّ العداء لأهل الإيمان ولجنود أهل الإيمان.

 

وهذه بشارة عظيمة يبشر الله تعالى بها عباده المؤمنين في كل مكان وحين- ما دام هذا القرآن يُقرأ بين أيدينا- يبشرهم أنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم وأنهم كل مالهم وجهدهم في تبار ودمار وخسران ولله الحمد والمنة (بتصرف من تفسير ابن كثير) كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الأنفال/36.

 

ومن فضل الله على عباده المؤمنين أنه كما يوهن كيد الكافرين فإنه جل وعلا يبارك في عمل أهل الإيمان ويضاعفه لهم بحيث لا يظن أحدهم أن عمله القليل أو الضعيف يبلغ ما بلغ كما أخبرنا الله تعالى في نفس سورة الأنفال في الآية التي قبل الآية التي نحن بصددها فقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال/17، ثم قال بعد ذلك: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} الأنفال/18. فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من العريش الذي نصب له في غزوة بدر هو أن أخذ قبضة من التراب ثم رماها في وجوه المشركين كما جاء في السيرة فأوصلها الله تعالى إلى وجوههم، فما بقي منهم أحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها، فحينئذ انكسر حدهم وفتر زندهم وبان فيهم الفشل والضعف فانهزموا، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: لست بقوتك حين رميت التراب أوصلته إلى أعينهم وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا وقدرتنا. (ملخصاً من تفسير السعدي). فمن الذي بارك في هذه الحفنة من التراب وأوصلها في عيون المشركين؟ هو الله تعالى، فالله دائماً مع المؤمنين يسدد خطاهم ويؤازرهم ويقاتل عنهم.

 

وهذه آية يجليها الله تعالى لعباده في كل عصر ومصر حين يظن المشركون ومن شايعهم من منافقي هذه الأمة أنه لن تقوم لهذه الأمة قائمة كما قال تعالى عنهم في سورة الفتح: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} الفتح/6، يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: أما المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات فإن الله يعذبهم بذلك ويريهم ما يسوؤهم حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين وظنوا بالله ظن السوء أنه لا ينصر دينه ولا يعلي كلمته وأن أهل الباطل ستكون لهم الدائرة على أهل الحق فأدار الله عليهم ظنهم وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا. انتهى بتصرف، فإذا بالنصر والعز يأت من عند الله وحده، كما كان يقول النبي صلى الله عليهم وسلم عند قفوله من غزواته ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" متفق عليه، فلو كان هؤلاء الكفار والمنافقون المحاربون لدين الله يعقلون لآمنوا بالله رب العالمين لظهور هذه الآية جلية أمام أعينهم، فهذا الكيد العظيم والمكر الجبار بالإسلام وأهله مآله دائماً إلى خسران واضمحلال، فمن كان يظن أن تصحو هذه الأمة وتنتشر الصحوة الإسلامية في بلاد المسلمين قاطبة حتى في بلاد الكفار، بعد هذه السنين العجاف الطويلة من البعد عن دين الله وإقصاء شريعة الله عن الحكم بها ومحاربة لكل مظهر من مظاهر الدين وخلو المساجد تقريباً من المصلين في بعض بلاد المسلمين، ثم بعد ذلك كله فجأة يعود الدين من جديد في قلوب كثير من الناس، ويعود فئة من الشباب إلى دين الله ويترك الدنيا وزخرفها حتى في البلاد التي تحارب الدين والتدين، فما أن تُخفف قيود الظلم والاستبداد على الإسلام وأهله حتى يعود الناس إلى دين الله سريعاً، فهذه آية من آيات الله لو كانوا يعقلون، فيعودوا إلى رشدهم ويصبحوا من جند الرحمن بعد أن كانوا من جند الشيطان ولكنه العناد والاستكبار، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.