تربية الأبناء وغلبة التفكير المادي

بعد أن طغت المادة على تفكير كثير من الدول والحكومات وكثير من الأُسر أصبح دور المرأة في الأسرة هو إنجاب الأولاد وترك تربيتهم للآخرين سواء الخادمة أو المدرسة أو غيرهما، وانشغلت عنهم بمشاركة الرجل في العمل خارج البيت، وأصبح تصور بعض الأسر في التربية والرعاية المطلوبة لأولادهم هو توفير الأكل والشرب والملبس ومتابعة دروسهم المدرسية فقط لا غير وحتى هذه الحاجيات تركت لدى بعض الأسر للآخرين، وأصبحت بعض الأسر لقاءاتها واجتماعاتها تكون عابرة وسريعة خصوصا بعد كبر الأولاد، كل ذلك حدث لدى البعض بعد أن فقدت الأسرة دور الأم الحنون والراعي الأول داخل البيت كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: « والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها » رواه البخاري.

 

فالمرأة دورها عظيم داخل الأسرة لا يعوضه دور الآخرين حتى دور الأب، فالأولاد يتطلعون دائما للأم حتى مع وجود الأب المثالي، فالأم فيها العطف والحنان والسكن والرعاية الأولية والتربية على الأخلاق والمبادئ كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) سورة الروم، وحتى العرب عندما تكلموا وأرادوا معنى الأمومة كان لفظ " أم " هو المعبر عن المعنى لما لهذه الكلمة من ميزة ودلالة على ذلك فهي تتكون من حرفين: همزة مضمومة وميم، يقول ابن القيم رحمه الله: الميم تدل على الجَمْع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى كما هو مذهب أساطين العربية، ثم قال: والعرب في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، فالميم حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه فوضعته العرب علماً على الجمع فقالوا للواحد أنت فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا أنتم، ثم قال: ومنه الأم وأم الشيء أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له وبه سميت مكة أم القرى والفاتحة أم القرآن واللوح المحفوظ أم الكتاب، ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ورقة طبع ولا تتأتى مع غلظ القلوب والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها وتدبرها والنظر إلى حكمة الواضع ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. انتهى بتصرف من كتاب جلاء الأفهام، وقال ابن دريد: قال أبو عثمان الأشْنانْداني: سمعت الأخفش يقول: كل شيء انضمت إليه أشياءُ فهو أمّ، وأمُ الرأس: الجِلدة التي تجمع الدماغ، وبذلك سُمَي رئيس القوم أمُّا لهم. انتهى بتصرف من كتاب جمهرة اللغة، فلذلك نطقت العرب بلفظ "أم " للدلالة على معنى الأمومة، فأُم: بالضم التى هي أقوى الحركات وبالميم الدالة على الجمع حتى عند النطق بها فهي بضم الشفتين لأن الأم تجمع وتضم أبنائها بحنانها وعطفها، ولكن بعض القرارات الجائرة لبعض الدول صيرت المرأة دجاجة مكينة، فقط لإنتاج الأولاد وتركهم إما للدولة لرعايتهم كالحال في شركات البيض، أو للخادمة وغيرها كالحال في آلات التفقيس.

 

وللأسف بعض الدول والحكومات الإسلامية بدأت تنحنى منحنى الدول الرأسمالية التي غلب على تفكيرها التفكير المادي (وكيف تحقق النمو الاقتصادي؟) ونست أو تناست أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات، فعبادة الله وحده لا شريك له هي الأصل في الخلق والدنيا وسيلة لتحقيق ذلك وهي تبع للآخرة كما قال تعالى: وَابْتَغ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (77) سورة القصص. وكذلك نست أو تناست النمو الأخلاقي للأمم – وأن الأمم ترقى بأخلاقها – قال الشاعر: وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا، فإذا ببعض هذه الدول جعلت الأصل في الحياة النمو الاقتصادي، وعبادة الله وطاعته - والتي هي الأصل من الخلق- حرية شخصية لا يُسأل عنها الإنسان، فالله تعالى جعل الحياة الحقيقية للأنسان المتبع لنوره وعكسه هو الميت كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) سورة الانعام، ووزن الإنسان عند الله على قدر ما يحققه من عبادة الله وطاعته، فالكافر لا وزن له عند الله كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) سورة الكهف، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّهُ لَيَأْتِى الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) » رواه البخاري، وقال عن المؤمن الذي يعبد الله أنه ثقيل الميزان يوم القيامة، فعن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِى سِوَاكاً مِنَ الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مِمَّ تَضْحَكُونَ »؟ قَالُوا يَا نَبِىَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِى الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ » رواه الأمام أحمد، أما الدول المادية الرأسمالية جعلت وزن الإنسان على قدر ما يحققه من مادة ومال، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أصبح الناس اليوم على انكبابٍ بالغ على الدنيا حتى الذين عندهم شيء من التمسك بالدين تجدهم مالوا جداً إلى الدنيا ولقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:« فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ » رواه البخاري، هذا هو الذي يخشى منه اليوم ولهذا تجد الناس أكثر عملهم على الرفاهية وهذا فيه ترفيه وهذا فيه نمو الاقتصاد وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا قل من يقول هذا فيه نمو الدين هذا فيه كثرة العلم الشرعي هذا فيه كثرة العبادة قل من يقول هذا فهذا هو الذي يخشى منه » انتهى. من فتاوى نور على الدرب، من موقع الشيخ.

 

فلنتدارك الأمر قبل فوات الأوان فبوادر الأزمة بدأت تطفو على السطح، فبدأنا نرى جيلاً من الشباب والفتيات لا هم لهم في الحياة إلا الأكل والشرب والرفاهية واللهو، أما عبادة الله وحده والأخلاق والمبادئ الإنسانية فهم لا يفكرون بها إلا من عصمه الله، كل ذلك لضعف الرعاية والتربية، فإن كان هناك من سبب رئيس فهو انشغال الأم عن تربية أبنائها واهتمامها فيما لم يخلقها الله من أجله، فلذلك نجد أن الله تعالى شرع للمرأة ما تحقق به دورها في الحياة (وهو الرعاية والتربية) فأمر المرأة بالقرار في البيوت كما قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.... (33) سورة الأحزاب، وجعلها مكفولة من قبل الرجل سواء كان الرجل أباً أو زوجاً أو غيرهما كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ....(34) سورة النساء، والرجل مسئول أمام الله عن ذلك وعن غيره كما قال – صلى الله عليه وسلم -: « والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته» رواه البخاري، وغيرها من تشريعات.

 

فلا نظلم المرأة ولا تظلم هي نفسها بتكلفها مالا طاقة لها به فهي تعمل خارج البيت ومطالبة كذلك بالعمل داخل البيت فأي إنسان يستطيع ذلك، فهذا الرجل بقوته وشدته التي وهبه الله إياها لا يستطيع ذلك فهو إذا عمل خارج البيت جاء إلى البيت ليستريح، أما المرأة فهي تعمل خارج البيت وإذا جاءت لتستريح في بيتها وجدت عمل البيت بانتظارها، فالبعض من النساء تظن أنها إذا عملت خارج البيت ستضمن مستقبلها المعيشي – كما تدعي بعض النساء - أو ستجد السعادة والحرية والرخاء فإذا بها تقع في الضنك والشقاء، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (124) سورة طه، فكان الضمان لدى البعض منهن ضياعاً، وكانت الحرية والسعادة والرخاء التي وعدوها بها سراباً لا تدركه كما توقعت، وحتى الكسب المادي الذي حصلت عليه بسبب عملها خارج البيت لو تفحصناه وسبرناه لوجدنا أن فئة كبيرة من النساء خسرت أعظم مما ربحت، وذلك لأن خروجها للعمل خارج البيت يتطلب مصاريف أخرى:- مصروف للخدم بعدد أكبر مما لو جلست في بيتها ترعى أبناءها - ومصروف للنقل - ومصروف فواتير الهاتف الجوال لإدارة شئون البيت من الخارج - ومصروف مدرسين خصوصيين لأنها لا تستطيع متابعة دروس أبنائها لانشغالها عنهم - ومصروف ملابس ومستلزمات مخصصة للعمل الخارجي لأنها لا تذهب للعمل بنفس ملابس البيت أو ملابس زيارة الأهل، وغيرها من مصاريف فلا يبقى لها من صافي المرتب إلا القليل لا يضاهي التكلفة التي تكلفتها أو الخسارة التي خسرتها وتكلفها وخسرها كذلك زوجها وأبناؤها ومجتمعها من خروجها للعمل خارج البيت، ولا ننسَ كذلك الألم والضغط النفسي الذي يصيب غالبية النساء بسبب عملهن خارج البيت، والتحرش الجنسي بأشكاله المتنوعة(*) حتى لو كان مجرد ميول وملاطفة للجنس الآخر، فهناك مبالغ حقيقية غير منظورة تتكلفها الدول والحكومات بسبب خروج المرأة للعمل خارج بيتها:- من رعاية نفسية لبعض النساء العاملات، وحماية البعض منهن من التحرش الجنسي - ولا يخفى على أحد التكلفة الباهظة التي تدفعها الدول الأوروبية لاستقبال شكوى النساء العاملات وحمايتهن - ورعاية الأبناء وإصلاح النشأ وحمايتهم من الجريمة والفساد وتحقيق الوئام داخل الأسرة، كل ذلك يتكلف مبالغ كبيرة، فلا يكن همنا الأكبر – نحن المسلمين - هو التحصيل المادي، فما عند الله تعالى خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، فليس الشأن كثرة المال ولكن الشأن نزول البركة من رب العالمين، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) سورة الأعراف.

وقال أيضا جل وعلا في سورة الانعام:
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)، فلمّا أمر بالايمان والتقوى وعد تعالى بالبركة، ولمّا عصى الخلق ربهم فتح عليهم أبواب كل شيء من غير بركة استدراجاً منه تعالى للقوم الظالمين، فلا يكن همنا الأول والأخير هو التحصيل المادى بل نزول بركة ربنا جل وعلا، ولنحذر من تزيين الشيطان، قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا... (8) سورة فاطر، وقال ايضاً جل وعلا: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) سورة الزخرف.
 فالأم أعدها الله تعالى لدور عظيم، فهي مدرسة كما قال الشاعر: الأم مـــدرســـة إذا أعــددتــهــا ***أعـددت شـعباً طـيب الأعـراق، فلنعين الأم على هذا الدورالعظيم، ولنعمل على إصدار القرارات والتوصيات التي تعيد الأم إلى مملكتها الاولى من جديد ولنضع الحوافز المشجعة على ذلك، وان كان هناك حاجة إلى خروج المرأة للعمل فيما يخص شئون المرأة خاصة كالتعليم والطب مثلا – كما ذكرت في مقال سابق(**) - فيجب أن يكون ذلك تحت رأي ومشورة وقرار لجنة للفتوى الشرعية عملاً بقوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) سورة النحل. حتى تكون كل قراراتنا تحت مظلة شرعية فنبرأ الى الله تعالى فهو سائل كل راع عما استرعاه.

والله من وراء القصد،،،

 

____________________

(*) التحرش الجنسي له أشكال وصور متنوعة بحسب بيئة وطبيعة كل دولة وعاداتها الاجتماعية فقد تكون صورة ما تحرشاً في بلد وهي في أخرى ليست كذلك.

(**) راجع ان شئت مقال: مشكلة البطالة ونظرة في كتاب الله على الرابط التالي في موقع المسلم: 122296http://www.almoslim.net/node/