عندما يبحث الإعلام عن أدوار زائفة!
2 صفر 1431
علا محمود سامي

لم يكد يمر عام كامل على مشهد تهديد وزيرة الخارجية الصهيونية "تسبي ليفني" لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أثناء زيارتها للقاهرة في ديسمبر 2009، وتنفيذها لتهديدها بتوجيه ضربة عسكرية لقطاع غزة المحاصر، حتى تفاجئنا القاهرة في ذكرى العدوان بأحداث أخرى لا تقل عما اتهمت به من قبل بالتواطؤ مع العدوان، بدعوى حماية الحدود.

 

الاتهام الذي نعت به البعض الدبلوماسية المصرية، جسدته الحكومة المصرية أخيرا بتنفيذها جداراً فولاذياً بين حدودها وقطاع غزة، بدعم وتمويل أمريكي واضح، وباعتراف معلن لا يقل عن مساحة الاتفاق بين الجانبين فيما يتعلق بقصة "ضبط الحدود ومنع إقامة الأنفاق ووقف التهريب".

 

الملاحِظ لهذه المصطلحات، يجدها مفردات تصب في خانة المطالب الإسرائيلية التي تدعو إليها دولة الاحتلال ذاتها، وهي وقف عمليات التهريب من مصر إلى  القطاع المحاصر، علما بأن هذا التهريب ينحصر في مؤن غذائية، واحتياجات أساسية للمواطن الغزاوي، في ظل ما يتعرض له من حصار يعتبر هو الأشرس في العصر الحديث.

 

وفي سياق مشهد ذكرى العدوان الإسرائيلي نفسه على غزة، كانت توجه اتهامات إلى القاهرة من جانب عواصم عربية وإسلامية وشخصيات عامة بسبب بنائها الجدار المزعوم الذي أصبح يطلق عليه الجدار العازل، في الوقت الذي كانت تتحدث فيه الحكومة المصرية على لسان أكثر من مسؤول لها نافية الفكرة من أساسها.

 

وعلى الرغم مما كشفت عنه كارين أبو زيد، مسؤولة "الأونروا"، وهي تودع منصبها، من أن لديها معلومات محققة تؤكد دعم الحكومة الأمريكية لنظيرتها المصرية لبناء الجدار المشار إليه، والذي وصفته في ندوتها بالجامعة الأمريكية في القاهرة بأن صلابته تفوق صلابة خط بارليف الشهير، إبان احتلال إسرائيل لسيناء، كان النفي المصري عبر وسائل الإعلام الرسمية، إلى أن ظهرت الحقيقة، وكشفت الصور - التي حملتها وكالات الأنباء- المستور عن هذا الجدار بأنه جدار فولاذي بالفعل، أشبه بالجدار العازل، يزيد من حصار الغزاويين، ويساهم في خنق الفلسطينيين.

 

الإعلام والسياسة

ومع إبراز الصور للرأي العام العالمي ومنه المصري والعربي والإسلامي، كان الإعلام المصري يبحث عن محاولة للإقناع والتأثير لدى مشاهديه بالتسويق على طريقته لبناء هذا الجدار، إلا  فشل مجددا عندما راح يسوق لفكرة أن الجدار ما هو إلا شكل من أشكال السيادة والحماية للحدود المصرية.

 

هذه الحملة الإعلامية ترافقت مع أخرى دبلوماسية تبنت الخطاب ذاته، ولم تدرك  الحملة أن عدم الاعتراف بإقامة الجدار، ليس من قبيل (الكذب المباح)، عندما كانت تصدر التصريحات الرسمية عن مسؤولين رسميين تنفي وجود مثل هذا الجدار، إلا أنه مع إبراز الحقيقة للمجتمع الدولي وما طيرته وكالات الأنباء من صور للجدار المذكور، كان الاعتراف، ولكن في شكل آخر، وهو الحديث عن السيادة وحماية الحدود.

 

تزامنت كل هذه التطورات مع حادث إطلاق النار على الحدود والمصادمات التي وقت بين الشرطة المصرية وقيادات قافلة "شريان الحياة 3"،  ليتجدد الحديث مرة أخرى عن السيادة وحماية وضبط الحدود.

 

نفس الخطاب كان سائدا إبان العدوان الصهيوني الغاشم على غزة منذ أكثر من عام، عندما كانت توجه عدة اتهامات إلى الدبلوماسية المصرية تندد بصمتها، ومطالبة إياها بفتح الحدود والمعابر، وتبني مواقف دبلوماسية كسحب السفير المصري من "تل أبيب" وطرد نظيره العبري من القاهرة، إلا أن ذلك لم يحدث، وإن كان حدث في حالة أخرى، عندما خسرت مصر مباراة "المونديال" مع الجزائر، فقامت بسحب سفيرها، وشنت حملة إعلامية مضادة ضد دولة عربية شقيقة!

 

هو إذن الإعلام، الذي يستطيع أن يزعم تارة، ويكشف الزيف تارة أخرى، ومن ناحية أخرى يجسد واقعاً كاذباً مرة، ويبحث عن طوق للنجاة من أجواء مشتعلة مرات أخرى، نتيجة انسياقه وراء السياسة، التي تعرف نفسها بأنها "فن الممكن" حتى لو كانت بالحيل والخداع والزيف والبهتان.

 

نفس هذا الإعلام هو الذي راح يهلل للدكتور محمد البرادعي، المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية، يوم توليه رئاسة الوكالة، ويوم منحه جائزة نوبل، فقد هتف هذا الإعلام بحياته وعدد مناقبه، لكننا نجد الإعلام نفسه يُخْرِجُ البرادعي اليوم من دائرة العلم، فهو يصفه بالجهل تارة، وبازدواجية الجنسية تارة أخرى، كل ذلك لأن الرجل بدأ يفكر فقط في الترشح للرئاسة المصرية، على الرغم من أن هذا لم يكن مطلبه، ولكنه عندما سئل عن إمكان الترشح، كانت إجابته باحتمال التفكير في المسألة، ثم وضع شروطه للإصلاح لخدمة بلده بحسب رؤيته.

 

عوامل التأثير الإعلامي

من هنا تبدو شروط  التأثير الإعلامي، وأبرزها أنه لا ينبغي أن يكون إعلام فتنة للأمة، بقدر ما يكون وسيلة للتنوير الحقيقي، وليس التنوير المخادع الذي يخدم أطرا موجهة، أو مصالح آنية، أو آفاقا  سياسية على حساب المصلحة العامة، في الوقت الذي يتناسى فيه القائمون على أمر هذا الإعلام أنه ينبغي أن يكون صادقا ودافعا للتنمية والبناء، وليس للهدم والتزييف، حتى لو لم يحمل الصبغة الإسلامية الخالصة، فالأسس والمعايير المهنية ومواثيق الشرف الصحافية والإعلامية ينبغي أن تكون هي الحاكمة له، على الرغم من أنه ينبغي أن يكون بالأساس إعلاما ذا هوية إسلامية جلية، بخاصة لأنه ينطلق من جغرافيا عربية وإسلامية.

 

ولذلك فان الإعلام الصادق في قضيته، الموضوعي في أطروحاته، المدافع عن صدقية وجدية ما يطرحه حتما سيحقق أهدافه، وأبرزها جذب متلقيه، واجتذابهم وليس طردهم، خاصة وأن البدائل أصبحت اليوم متعددة، ولم يعد هناك مجال للحديث عن الإعلام الأحادي، أو الإعلام الرائد، ولكن المصداقية فقط هي المعيار للحكم على المحتوى والشكل.

 

إن الالتزام بالأمانة المهنية، وجعل المصداقية هي عنوان العمل الإعلامي، والحرص على اكتساب المشاهدين، ومناقشة قضايا جادة وهادفة، ينبغي أن تكون كل هذه المعايير هي عناصر العمل الإعلامي، قبل أن تصدر له مواثيق شرف مكتوبة، أو تهديدات بالمحاسبة عن التقصير، خاصة إذا كان عالمنا العربي والإسلامي حريصاً على أن يكون له إعلام يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق، جاذب وليس طارداً لجمهوره.