تصفية القدس و"استحقاقات" السلام العباسية!
2 صفر 1431
ياسمينة صالح

كشفت صحيفة"هارتس" الصهيونية في عدد الاثنين الماضي أن بلدية القدس تخطط إلى التخلص بشكل كامل من أكثر من خمسين ألف مواطن فلسطيني مقدسي لأنهم لا ينتمون إداريا إلى محيط القدس الذي تعتبره إسرائيل جزء من المنطقة اليهودية، وهو الاعتبار الذي يعني أن عدد المقدسيين الذين سوف يطالهم الترحيل إلى جهات أخرى يوازي أكثر من خمسين ألف، بالخصوص أولئك الذين يعيشون خارج ما تسميه "إسرائيل" بالجدار الفاصل، وبالتالي فهي لا تعتبرهم سكان تابعين لـ"إسرائيل" إداريا

 

وذكرت الصحيفة على لسان المسؤول عن شرقي القدس "ياكير سيغيف" أن الفلسطينيين الذين لا تعتبرهم إسرائيل مرغوب فيهم سيغادرون القدس بشكل كامل دون عودة، لأن هذه المدينة (أي القدس) سوف تظل يهودية لأجل تحقيق ذات الأمن القومي لـ"إسرائيل" وهو الهدف المهم لكل اليهود (انتهى كلامه)! وإن يأتي هذا الكلام أشبه بتحصيل حاصل بالنسبة للصهاينة الذين يخططون منذ الثمانينات (أي قبل اندلاع الانتفاضة الأولى) إلى تهويد القدس ومسح كل الآثار العربية والإسلامية منها، إلا أن الذي يبدو مثيرا للاستغراب أن الحوار الدائر من جانب الفلسطينيين وبالخصوص السلطة الفلسطينية التي ترى نفسها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، قائم على مبدأ " المفاوضات" مع الكيان الصهيوني، وإن تشتغل "إسرائيل" على تصفية العرب والمسلمين من القدس الشرقية (بعد أن صفتهم منذ الأربعينات من القدس الغربية) فإنه من دواعي الخجل أن نتساءل عن المفاوضات التي "يسمم" بها محمود عباس بدننا بها كل مرة وهو يتكلم عن " المكاسب" التي حققتها السلطة الفلسطينية لأنها "لم تخسر كرسي التفاوض" مع "إسرائيل!" دون أن يشرح لنا طبعا مكسبا واحدا من تلك المكاسب التي تحققت بعد أن نشر موقع "كونفدونسيال" على الانترنت دراسة جاء فيها أن النتائج الخطيرة التي تحققت في القدس تكمن في أنها سوف تحدث تغييرا ديموغرافيا جذريا في المنطقة، بحيث أن السنوات القادمة ستشهد خلو القدس من السكان العرب والمسلمين، وهو في الأول ما يتعارض ضمنيا مع المعاهدات التي أبرمتها إسرائيل مع الفلسطينيين قبل معاهدة أوسلو نفسها، وإن كان الفلسطينيون يتشبثون بمعاهدة أوسلو التي اغتالتها إسرائيل في حينها ولم تعد سارية بدليل ما يحدث على أرض الواقع وليس على الورق! فإن تحققت على أرض الواقع نتائج ملموسة فنحن لم نرها إلى الآن (إلا إن كنا لا نرى جيدا)، بالخصوص وأن "مسمار جحا" الذي غرسته السلطة الفلسطينية بينها وبين قطاع غزة، زاده سوءا الجدار الفولاذي العازل الذي تبنيه مصر "لحماية أمنها القومي" من شعب أعزل في مجمله، على اعتبار أن المشكلة الأساسية التي تحولت إلى حجرة صلدة بعثرت الاستحقاقات الفلسطينية رماها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في نهر القضية، بالخصوص وأنه ظل يعتبر حركة حماس غير شرعية متناسيا أنه هو نفسه فقد أسباب تواجده السياسي والإنساني، بعد أن وصلت القضية إلى هذا الوضع المزدري المنهار تماما!

 

وإن أراد أن يتساءل أي أحد عن الاستحقاقات التي حققتها حركة حماس بالمقابل ( نقولها من منطق الدفاع عن الحق) فيكفي أن حركة حماس "شوكة" في حلق الصهاينة، ويكفي أن آلياتها الحربية شبه البدائية كانت قادرة على خلق أجواء جديدة تنتج عنها رؤية مغايرة للقضية، بين محتمل وقائم تحت الاحتلال يجاهد لأجل استعادة حريته وكرامته كاملة غير منقوصة، وإن اعتبرت إسرائيل تلك الصواريخ المصنوعة بشكل بدائي خطرا على أمنها فهذا لأن الصواريخ كانت في الأول والأخير الوسيلة المتبقية لأجل خلق فتحة في التنازل والانبطاح غير المبريين من السلطة الفلسطينية بمعية النظم العربية المتواطئة، والتي أجربت المجتمع المدني على غض الطرف إنسانيا وقانونيا من خلال إعطاء لـ"إسرائيل" حق الدفاع عن نفسها من "الخطر" الفلسطيني المتمثل في قطاع غزة، وإن كان العالم كله رأى بشاعة الوجه الصهيوني من خلال محرقة غزة، فهذا لم يتأتى إلا بالتضحيات الكبيرة لشعب ظل يتلقى الصواريخ على رأسه لأكثر من ثلاثين يوما، أمام دول عربية فشلت في مجرد الدعوة إلى قمة عربية تدين فيها الخراب الذي حل على سكان القطاع، لكن النتيجة أن الرأي العام الدولي من شعوب التفت إلى الصورة التي أرادت إسرائيل أن تخفيها عن الأعين عبر ترويجها لحرب "نظيفة" في القطاع، وإن صدم العالم كله بصور الأطفال المذبوحة، فهذا أيضا نتاج يرتبط آليا بما يمكن اعتباره مكسبا، لأن كل التضحيات الماضية كانت بمنأى من الصورة، ولأن الصورة اليوم فضحت الجناة وجعلت مواطنين غربيين في عواصم أوروبية يدينون إسرائيل كما أدانها 200 ألف متظاهر في مدريد، و100 ألف متظاهر في لندن، و10 آلاف متظاهر في بلجيكا. لقد حرقت اللعبة القذرة أيادي الطغاة الصهاينة، عندما هربت المجرمة " تسيبي ليفني" من بريطانيا بعد رفع دعوى قضائية لاعتقالها بتهمة جرائم الحرب في غزة، وإن حماها القضاء البريطاني الرسمي، إلا أنه لم يقدر على مسح اللعنة التي تطارد هؤلاء الأوغاد، بدليل أن 10 من ضباط "إسرائيليين" من بينهم جنرال ألغوا سفرهم إلى بريطانيا خوفا من المتابعات القضائية بتهمة جرائم الحرب ضد قطاع غزة، كما أن حراك قضائي نشيط كشفت عنه صحيفة "لوسوار" البلجيكية يشير إلى تحديث مطالب قانونية باعتقال ضباط صهاينة شاركوا في محرقة غزة، في الوقت الذي يزور فيه هؤلاء الصهاينة دول عربية تفرش لهم البساط الأحمر احتفاء بزيارتهم!

 

لقد تحركت آليات القضاء في أوروبا لأن التضحيات التي تحققت لم تكن نتاجا عن تنازلات سياسية وقحة كتلك التي يمارسها الرئيس الفلسطيني بمناسبة ومن دون مناسبة، بل تحققت لأن التضحيات كانت في مستوى التمسك بالقضية، وبالثوابت التي لا يمكن التنازل عنها قيد أنملة، ليس لأنها مصيرية فقط، بل ولأنها جزء لا يتجزأ من التضحيات نفسها التي ارتبطت بالفلسطينيين الصابرين والمصابرين، والذين لم يعد أحدهم يؤمن بضرورة نقلة عربية لأجل التحرير، بل بضرورة النقلة الإسلامية لأجل النصر بإذن الله، فالمتغيرات التي حدثت لم تغير في مفهوم من هو عدوي فقط، بل وأعطت لتلك الحقوق شرعية أكبر، من المستحيل أن تتحقق دون التفافة إسلامية حقيقية، فعهد القومية العربية انتهى وصار لزاما الدفاع عن تلك العروة الوثقى التي تتمثل في جملة من المعاني السامية، منها أخوة في الدين وولاء لله وحده، والجهاد في سبيله، وإن كان مصطلح الجهاد يخيف الغرب لأنهم أرادوا ربطه بالإرهاب بدعم من النظم الشمولية العربية الفاسدة، إلا أنه سيظل قائما في ثقافتنا اليومية، يرضعه الأطفال مع حليب أمهاتهم جيلا بعد جيل، لأن عودة الحقوق إلى أصحابها لن تتأتى بالرقص والتطبيل، ولا بتقبيل الأيادي والتنازلات عن مفهوم المطالب وتفريغ القضية من محتواها، ولا بتمني طول العمر لحكام موتهم أحسن من حياتهم، بل يتأتى بالعزيمة والإصرار، وبقوة الإيمان، والدفاع عن الحق والعدل، فالله لا ينصر إلا الصادقين الصالحين، ولن ينصر المجرمين والخونة والمرتزقة الذين باعوا ذممهم لأجل المناصب ولأجل البقاء في السلطة وتوريث أبنائهم عليها، وإن استطاع رئيس وزراء تركيا السيد الطيب رجب أردوغان إجبار "إسرائيل" على الاعتذار ( لم نقدر على إجبارها على نصف ذلك منذ سبعين سنة) لأن سفير تركيا أهين في "إسرائيل"، فسوف نحتاج حتما إلى قراءة متأنية للفكر التركي منذ مجيء حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل إلى سدة الحكم، بحيث أن الحراك التركي الذي يصب باتجاه العالم الإسلامي، كان نتيجة حتمية للصد الذي ووجهت به تركيا من قبل الغرب (فرنسا) بحرمانها من الدخول إلى الاتحاد الأوروبي الذي كان يتوق إليه قادة الجيش التركي من العلمانيين، ولأن فشل الدخول إلى بوابة الغرب أحبطت هؤلاء العلمانيين، فكان حتميا أن يتجه فكر رئيس الوزراء التركي نحو العالم الإسلامي، ليس لأنه مطلب فقط، بل ولأنه خيار أفضل بالنسبة للأتراك الذين ـ رغم أنهم يملكون علاقة دبلوماسية وعسكرية كاملة مع إسرائيل ـ إلا أن الطريقة الجديدة التي أصبح أردوغان يتعامل بها مع الصهاينة هي التي صنعت هذه الحالة الجديدة في المنظور السياسي التي يتوجب أن يكون، فتركيا ذات الأغلبية الإسلامية ليست نكرة، بل هي دولة حقيقية من منظور مؤسساتي، وعسكرية قوية، وبالتالي، فهي التي يتوجب أن نستوعب إمكانياتها وما يمكن أن تصنعه لأجل خلق توازن آخر في المنطقة دعما للقضية الفلسطينية ( التي يساندها تماما أغلب الأتراك)، بدل أن نغرق رؤوسنا في الرمل كما تفعل أنظمة المنطقة التي تمثل أكبر وصمة عار على جبين شعوبها من المحيط إلى الخليج، فلو كان للعرب طيب رجب أردوغان واحد لتغيرت الكثير من الممارسات على أرض الواقع، على الأقل لأجل عدم خنق سكان غزة وحرمانهم من الماء والدواء، ونزع الغبن عنهم ودعمهم في العلن والسر، ((إن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) صدق الله العظيم