مكانة الأهل في القرآن
19 محرم 1431
عمر النشيواتي

يتلقى جمعٌ من الشباب اليوم في المحاضن التربوية تربية صالحة , ويُوجَّهون توجيهًا صحيحًا , يرضعون من خالص لبنها تربية الإسلام الحقة , فينشأ الواحد منهم محبًا لأمته , وحاملًا لهمّ دينه , ويتمرس على سلوكيات الاسلام الخالصة حتى ينبت لحمه وعصبه عليها , وتُصقل روحه صقلاً صافيًا , وربما عاش باقي عمره يقطف من ثمار تلك التربية وينعم بمبادئ وسلوكيات تعوّد عليْها ,, وجُبِل على الأخذ بها,,,

 

 ثم إذا رسخ واشتدَّ عُوده .. يُوجه توجيهًا خاصًا ليكون مشعل نور وهداية لمن حوله ,فتُغرس فيه مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وحبّ الخير للآخرين ,
وتوجيههم وارشادهم وايصال النور الذي رُبَّي عليه لهم , حتى يسري هم الاصلاح والتغيير في دمه وروحه ويتملك عقله ووجدانه , وذلك خيرٌ كبير , وفضل عظيم .. ثم تدور عجلة الزمان .. وتمر الأيام فيكبر الصغير وينتقل كل شاب إلى محضنه الخاص ,
ليعيش مع زوجه وأولاده وتكبر أسرته شيئًا فشيئًا فيزداد انشغالًا بهم يومًا بعد يوم ... ويبقى اللَّبيْبُ الناصح لنفسه متمسكًا بآثار تلك التربية الصافية والأيام الخالية , متعاهدًا أخوة صادقين ,وشباباً ناصحين عاش معهم زهرةعُمره , وأجمل أيام
شبابه .. ولست هنا بصدد الحديث عن أهمية العضِّ بالنواجذ على تلك الصحبة الصالحة والتواصل واستدامة الخير والثبات عليه فإن هذا مما عُلم ضرورته , وبان ضرر فقدانه وضياعه , ولا يُفرِّط فيه إلا من غُبن ,

 

وغرته دنياه , وأضاع حظَّ آخرته .. كيف لا يكون كذلك ! والله تعالى يوصي رسوله صلى الله عليه وسلم , وهو مَن هو في الثبات والتثبيت .. فيقول له : ( واصبر نفسك مع االذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ..)
,لكنني هنا بصدد الحديث عن أمر آخر لا يقل أهمية عن سابقه .. بل هو أهم وأوجب ,, لفت نظري إليه , ونبهني عليه عدة آيات في مواطن مختلفة من القرآن , ماكنت أَظُنّ أنه يبلغ هذه المنزلة , ويرقى إلى هذه المكانة , حتى جعلت أقول إنما كنا نتنفل .. والآن جدّ الجد , وحان وقت الفريضة ...

 

قال الله تعالى ( ياأيها الذين آمنو قوا أنفسكم وأهليكم نار) إنه أمر الله تعالى لنا بالنجاة بالنفس والأهل من النار ...  عن عليّ، عن ابن عباس، قال:( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا )
يقول: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر ينْجيكم الله من النار. وقيل :علموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به , أنفسهم من النار, وقيل: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم, وقيل : أظْهِرُوا من أنفسكم العبادات ليتعلَّموا منكم ، ويعتادوا كعادتكم .
وقيل : مُرُوهم بقبول النصيحة , وقال في «الكشاف» : { قُواْ أَنفُسَكُمْ } بترك المعاصي وفعل الطاعات ، { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تؤاخذوهم بما تؤاخذون به أنفسكم ,, ورُوي أن عمر-رضي الله عنه- قال حين نزلت : يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟
فقال عليه الصلاة والسلام : " تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار " .
والمراد بالأهل على ما قيل : ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة .

 

واستدل العلماء بالآية على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء ، وفي الحديث " رحم الله رجلاً قال : يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة " وقيل : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله , وعن سعيد بن العاص رضي الله عنه رفعه : « ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن »  ودلَّت الآيةُ : على وجوبِ الأمرِ بالمعروف في الدِّين للأقرب فالأقرب .
وهنا أقول : إن ما قضيناه من وقت وما بذلناه من جهد في النصح والتعليم والارشاد والتوجيه , والتواصي لأجل إيصال الخير والهداية لعموم المسلمين إنما هو نافلة وفضل حينما يقارن بالجهد الذي يجب بذله والحظ الذي يُفرض علينا إعطاؤه للنجاة بأنفسنا وأهلينا وذرياتنا .

 

بل تأمل كيف جعل الله صلاح الذرية من صلاح النفس وذلك لعظيم أثر الذرية على الإنسان في دنياه وآخرته فقال: ( وأصلح لي في ذريتي ) فكأن صلاح الذرية صلاحٌ للإنسان نفسه .
ثم تأمل كيف ربط الله نجاة المرء يوم القيامة في كتابه الكريم , حين جعل خسارة الإنسان لنفسه مرهونة بخسارة أهله , فكأنه وإن نجى بمفرده وخسر أهله فإنه خاسر ,
والناجي حقًا من نجا بنفسه وأهله  (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ...) , إنه إذن مشروع يحسُن بنا مراجعته , وإعادة النظر فيه , ويستوجب علينا أن نستحث الهمة فيه ونشمرعن ساعد الجد فيه للنجاة بأنفسنا وأهلينا من النار ..

 

وتأمل في سورة التحريم , والتي تتحدث عن حدث زوجي خاص جدًا , حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته , والتي يُستتاب فيها بعض زوجاته ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) ثم يعرج بذكر الطلاق زيادة في استتابتهم (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله ..) ثم يذكِّر بالأمر الأعظم , والمشروع الأكبر ويدعو المؤمنين جميعًا للنجاة بأهليهم وأنفسهم من النار ( قوا أنفسكم وأهليكم نارًا ) ثم يذكر عبور المؤمنين على الصراط ليتصور المؤمن نفسه وكأنه على الصراط يسير عليه ..عندها هل سيكون ممن يثبت عليه ويُنوَّر له فيه , وإن نجى! فأين سيكون أهله وزوجه وولده ,, وهنا تحت تأثير ذلك المشهد الرهيب تختلج في نفس المؤمن الصادق مشاعر الخوف ألا ينجو هو وأهله فيجدَّ في العمل ويصحّح المسار ويعود إلى رشده ( ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا انك على كل شيء قدير ).  وفي مقطع آخر يحذر القرآن كل زوج من زوجه ,

 

يحذر الرجل من زوجته وأولاده ويحذر المرأة من زوجها وأولادها وهو تحذير مثير للدهشة حقًا إذ كيف يجعل الزوج الذي هو الصاحب الحقيقي ( وصاحبته وبنيه ) وهو السكن الآمن ( خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها ) يجعله القرآن حين لا يكون عونًا على الطاعة , ودليلًا إلى الخير .. عدوًا لدودًا يجب الحذر منه ( يأيها الذين آمنو إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم ..) في الحديث :" يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته " وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال : «صدق الله ( إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ) رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما " ثم أخذ في خطبته .
قال مقاتل بن سليمان : نبئت أن عيسى عليه السلام قال : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً . وفي قوله { فاحذروهم } وجهان : أحدهما : فاحذروهم على دينكم؛ قاله ابن زيد والثاني : على أنفسكم  "قال ابن القيم : ليس المراد من هذه العداوة مايفهمه كثير من الناس :أنها عداوة البغضاء والمحادة , بل إنما هي عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد والتعلم والصدقة وغير ذلك من أمور البر وأعمال الخير ",
وهكذا تكتمل المعادلة فالأصل أن ينجو المرء بأهله ويصبر ويجاهد للنجاة مع أهله .... وعندما يصل الأمر إلى طرق مسدودة فليحذر المؤمن أن يهلك مع الهالكين ولينج بنفسه ...

 

 

ولك أن تتأمل في حديث أهل الجنة كيف يجعلون سر فوزهم ونجاتهم مبدؤه ومنتهاه من خاصة أهلهم , ونتيجة لحالهم مع أهلهم  حيث يقولون ( إنا كنا قَبْلُ في أهلنا مشفقين ) وفي المقابل من ذلك يعيَّر أهل النار الذين يؤتون كتبهم وراء ظهورهم بحالهم مع أهلهم ( إنه كان في أهله مسرورًا ) , (فلا صدق ولا صلى , ولكن كذب وتولى , ثم ذهب إلى أهله يتمطَّى )

 

 

 وتأمل في بعض الآيات التي تصف الجنة والنار لترى الإرتباط الوثيق بين المرء وبين أهله في النجاة والخسران وكأن السعادة والشقاء, والنعيم والعذاب لا يكتمل إلا باقترانه بأهل المرء وذريته : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ...) الصافات . ( ادخلوا الجنة أنتم و أزواجكم ... ) الزخرف . ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ... ) ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) من هنا جعل القرآن للأهل أهمية كبرى وحث على النجاة بهم , وهو المشروع الأعظم الذي يجب أن تُصرف فيه الأعمار والأموال والجهود والطاقات ومن قَويت قاعدته في خاصة بيته فإنه يُرتجى منه الخير لغيره ولعموم المسلمين وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه .. فلنعد إلى أنفسنا وأهلينا ثم لننطلق إلى مجتمعنا وأمتنا لننجو جميعًا في الدنيا و الآخرة ...