إزاحة الستار عن التاريخ الأسود للقوات الحربية الخاصة التركية
19 محرم 1431
طه عودة

لا شك أننا نقف اليوم أمام منعطف تاريخي فيما يتعلق بمستقبل الصراع بين حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامية التي يتزعمها إردوغان والأوساط الانقلابية العلمانية في الجيش التركي بعد أن دخل هذا الصراع  مرحلة جديدة يتوقع أن تكون حاسمة هذه المرة بعد دخول رجال الأمن والمحققين إلى أحد ثكنات الجيش المهمة حيث أرشيف القوات الخاصة وغرفة العلميات الخاصة بحال الطوارئ وهما أكثر أقسام الجيش التركي سرية وحماية ولم يسبق لأي مسئول مدني أن دخلهما سابقا.

 

وكما هو معروف أن الجيش التركي يتمتع بمكانة خاصة جدا لا منافس لها في قلب الدولة بما أنه هو من أسس جمهورية تركيا الحديثة..وهذه "المكانة الخاصة" "مميزة" لدرجة أنها كانت دوما تتفوق وتتغلب على كل القواعد والقوانين ونظم البرلمان وحتى الأنظمة المتعددة الأحزاب في البلاد..

 

فالجيش، كان يحظى داخل الدولة "بحصانة مطلقة، مغلقة تماما على الجدل وغير قابلة للنقاش".. وبحكم "مكانته الخاصة"، كان يتمتع بكل أنواع الحقوق..لدرجة أن تصريحات رؤساء هيئة الأركان فيما يتعلق بالشأن السياسي، كانت تؤخذ بعين الاعتبار أكثر، وتعتبر أهم بكثير من تصريحات رؤساء الدولة وحكومات هذا البلد.. وما كان من رؤساء الحكومات السابقين إلا أن يتقبلوا هذا الوضع لأن كل ما كان يهمهم فقط هو أن يظهروا في "صورة السلطة"..

 

بداية القصة،،،
أسرار مقرات قيادة القوات الخاصة العسكرية والمعروف بـ"غرفة الأسرار العليا" التي يخفي فيه العسكريون أسرار الدولة العسكرية والمدنية حتى عن الحكومة والبرلمان سقطت على خلفية التحقيق الجاري في محاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج الشهر الماضي حيث بدأت العملية بعد توقيف ضابطين في الجيش وهما يرصدان منزل أرينج وبعد عملية تفتيش لمنزليهما ومكتبيهما في الجيش أدت إلى توقيف ثمانية ضباط آخرين على ذمة التحقيق لكن المحقق في القضية طلب التعمق أكثر لكشف ملابسات العملية وبناء على نقاش بين إردوغان وباشبوغ تم الاتفاق على ضرورة نقل التحقيقات إلى مرحلة لم يسمح من قبل بالوصول إليها من خلال تمكين المحقق من البحث داخل قسم العمليات الخاصة وأرشيفه وفي قسم "سفربرلك" المعني بوضع خطط لإدارة تركيا في حال تعرضت للاحتلال أو الحرب وذلك بعد الاشتباه في أن يكون أحد هذين القسمين مسئولا أو مشاركا في الخطط الانقلابية السابقة أو يرسم خططا جديدة.وبدأ التفتيش إثر إطلاع المحكمة على تسجيل صوتي لمكالمة هاتفية أجراها أحد المتهمين الاثنين الرئيسيين في قضية اغتيال نائب رئيس الوزراء التركي مع والده والتي قال فيها إنه أحرق عددا من الوثائق في مقر قيادة القوات الخاصة حتى لا تصبح دليل إدانة ضده.ولاقت عملية التفتيش ترحيبا في أوساط الشارع التركي ووسائل الإعلام المقربة من حكومة إردوغان فيما انتقدتها وسائل الإعلام العلمانية واصفة إياها بالتدخل غير المقبول بأمور المؤسسة العسكرية حامية البلاد.

 

الدور الأمريكي في هذه القضية،،،
كشف الكاتب الصحفي ناظم البمان في مقالة نشر على موقع "انترنت خبر" قبل أيام النقاب عن العديد من المسائل الغامضة في تركيا قال فيه: "الآن، أود أن أخذكم في رحلة قصيرة عبر التاريخ لأحدثكم فيها عن نشاطات "غرفة العلميات الخاصة" حيث جرى اقتحامها وهي القلب السري للجيش وقدس الأقداس فيه والعقل المسئول عن جميع الخطط التي يتم تنفيذها في حالات الطوارئ أو الظروف الخاصة. أول مرة فطنت تركيا بوجود مثل هذه الغرفة داخل الدولة كانت في عهد رئاسة وزراء بولنت أجاويد.. آنذاك، لم يكن أحدا منا بل حتى بولنت أجاويد نفسه لم يكن على علم بها.. وإذا اعتبرنا أن جهل الشعب بهذه الغرفة السرية كان أمرا مفهوما يسهل شرحه، إلا أن جهل رئيس وزراء هذا البلد بمثل هذه الغرفة الموجودة داخل بنية الدولة، هو أمر لا يمكن لنا أن نفهمه ولا نستوعبه!!!في عام 1974، وبالتحديد عند قطعت حليفتنا الكبرى "الولايات المتحدة الأمريكية" عنا كل أنواع المساعدات والهبات والقروض والأسلحة والمعدات العسكرية بسبب حربنا على قبرص، جاء رئيس هيئة أركان الجيش التركي آنذاك سميح صانجار ليطلب من بولنت أجاويد تأمين مساعدات مالية لهذه الغرفة الخاصة من الميزانية السرية للدولة..فما كان من أجاويد إلا أن سأله باستغراب شديد:"ماذا تقصد بغرفة العمليات الخاصة.. فعلى حد علمي لا يوجد أي مؤسسة في الدولة تحت هذا الاسم"!!.    عندها صانجار اضطر مكرها إلى التوضيح:"القوات الخاصة هي عبارة عن حركة مقاومة تشمل مدنيين وعسكريين من محبي هذا الوطن.. وفي حال تعرض الدولة للحرب أو للاحتلال، فإنها ستتحرك من تحت الأرض لتشكل وحدات خاصة لمقاومة العدو".. فسأله أجاويد:"حسنا، وأين هو مقر نشاط هذه الحركة"؟.. فكانت المفاجأة الكبرى عندما أجابه صانجار:"داخل مبنى منظمة المساعدات الأمريكية في أنقرة"!!!. تصوروا، حركة مقاومة وطنية!! تعمل داخل مبنى أمريكي وبأموال أمريكية!!!الولايات المتحدة تعرف كل صغيرة وكبيرة من نشاطاتها، بينما رؤساء حكومات هذه الجمهورية هم أخر من يعلمون بها!!!. وبعد أن عرف أجاويد ما كان يجب ألا يعرفه، بدأ يلسن علنا ويتحدث في البرلمان عن وجود "دولة العمق".. فكان بذلك، قد أخل بسرية هذه الحركة وارتكب ما هو محظور.. وطبعا؛؛ كان عليه أن يدفع الثمن!!.. حيث تعرض في عام 1977، إلى محاولة اغتيال في مدينة "أزمير" بينما كان على متن "الباص" يلوح للشعب قبل أيام من بدء الانتخابات العامة.. تم استهدافه بصاروخ صغير لكنه نجا منه بينما أصيب مساعده محمد عصيان في فخذه الأيسر..  القاتل لم يكن محترفا، عدا عن أن السلاح الذي استخدمه كان حديثا جدا لم يتم تدريبه عليه بشكل كافي.. وتم اعتقال مرتكب محاولة الاغتيال، فتبين أنه شرطي..أما المفاجأة الكبرى فكانت عندما جرى البحث عن مصدر هذا السلاح الحديث الذي يستخدم لأول مرة ضد إنسان،،، فتبين أنه مسجل باسم غرفة العمليات الخاصة والتي تملك في عهدتها منه ثلاثة.. هذه المعلومات تم تدوينها في ملف المحكمة بينما حكم على مرتكب محاولة الاغتيال بالسجن ثلاث سنوات ونصف ليخرج بعدها حرا طليقا.. أغلق الملف!!، بعد أن فشلت كل الجهود في معرفة كيف وصل هذا السلاح الحديث الذي هو بعهدة القوات الخاصة إلى يد شرطي عادي.. حتى بولنت أجاويد نفسه لم يتمكن من الوصول إلى أي معلومات.. لماذا؟ لأن هذه الغرفة كان لها "حصانة خاصة".. وهكذا كان حال جميع من رأسوا الوزراء من بعده..

 

سيناريو الصراع المدني العسكري القادم،،،

 

تشهد الساحة السياسية التركية حاليا تطورات نوعية  في مجرى الصراع بين الحكومة التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية التركية العلمانية فعلى الرغم من تساهل رئيس الأركان التركي مع هذه القضية إلا هذا لا يعنى بحسب العديد من المراقبين السياسيين أن نهاية حقبة الجيش في النظام التركي بهذه السهولة،بل يرون بأن أولى حلقات الحرب الأساسية بين الطرفين بين الإسلاميين والعلمانيين قد بدأت.. ولعل ما يفسر هذا برغم فشل الجيش التركي وجنرالاته في القضاء نهائيا على حزب العمال الكردستاني ووقف عملياته العسكرية داخل تركيا والتي سقط على أثرها أكثر من أربعين ألف قتيل من المدنيين والعسكريين الأتراك طيلة العقود الثلاثة الماضية إذ ما زال الجيش وحتى أشهر قليلة مضت وحتى فضيحة "أرغينكون" في مقدمة المؤسسات التي يثق بها الشعب التركي وبينما يميل غالبية الشعب التركي إلى التأكيد على أن تدخل الجيش التركي في السياسة قد مضى إلى غير رجعة يرى البعض بأن ما اتخذته حكومة العدالة والتنمية من خطوات وثابة على هذا الدرب لا يمكن أن يدفع إلى القول بأن عهد تدخل الجيش في السياسة قد ولى إلى الأبد وما يمكن الجزم به فقط هو أن عهد الانقلابات العسكرية في تركيا قد بات في ذمة التاريخ أما حق تدخل الجيش في الحياة السياسية فلا يزال مكفولا في الدستور الحالي بذريعة حماية مبادئ الجمهورية التركية الحديثة أو على الأقل من خلال التفسيرات الملتوية والمغرضة من قبل المؤسسة العسكرية وأنصارها لبعض مواد هذا الدستور..

 

وأخيرا.. يمكن القول إن ظلال عسكر تركيا في العملية السياسية ستبقى ما لم تنجح جهود حكومة إردوغان في وضع دستور مدني جديد لا يضع المؤسسة العسكرية في مكانها الدستوري الصحيح والإ الصراع بين الطرفين سيبقى مستمرا.