حماس وعام من المتغيرات السياسية
14 محرم 1431
بلال الشوبكي

"إذا أردت أن تتحدث معي، فعليك تحديد مصطلحاتك"، هذه الكلمات لفولتير، أستحضرها من قاموس الفلسفة بادئاً بها هذا التحليل استدراكاً لما قد تثيره متاهة المصطلحات من أخطاءٍ قد تعكس تقييماً مغلوطاً للحالة قيد الدراسة. حين نؤطر الحرب على غزة بأشكال العدوان العسكري الإسرائيلي، ففي أي خانة من خانات أشكال العلاقات الإنسانية سنضع منع الوقود والغذاء والدواء والحركة والدراسة وغيرها من قائمة الممنوعات الحلال؟ الحرب أم السلام؟ الود أم الحقد؟ العدل أم الظلم؟..

 

دون انتظار الإجابة المعروفة سلفاً، نؤكد هنا أن الحرب لم تبدأ حين انتهى العام 2008 ولم تنته حين بدأ العام 2009؛ فطبول الحرب قد قرعت حين خان الجزء الواسع من القوى الدولية ديمقراطية الفلسطينيين، ولم تنته حتى اللحظة، فآخر المجنّدين ضد أهالي غزة بحرٌ ضُخّت مياهه لتكمل حلقة الحصار. الدافع لهذا التقديم هو المعالجات المتعددة لوضع غزة في ذكرى الحرب بأدواتها العسكرية، طارحين أفكارهم بشكل يعزز أن الحرب على غزة اقتصرت فقط على تلك الفترة البسيطة من عمر الحرب الحقيقية. ولذا فإن سطورنا الهادفة لإلقاء نظرة على أداء حماس في العام الآيل إلى أفول تأتي باعتبار الحرب العسكرية في نهاية العام المنصرم نقطة تحول، لا نقطة اختزال.

 

صيغت في بداية العام 2009 تساؤلات عدة حول إنجازات حماس من مقاومتها للهجوم العسكري الإسرائيلي، وهنا لا بد من الإيضاح أن السؤال عن الإنجازات يجب أن يوجه صوب إسرائيل فهي المبادر، أما المقاوم فبقاؤه في هذه الخانة هو إنجاز يقدّر. المقاومة تحمل في طيّاتها معنى الدفاع عن النفس، فهي ليست هجومية، بمعنى أنها رد فعل؛ فلا مقاومة دون اعتداء، وبذلك حين تسمي حركة ما نفسها بحركة مقاومة، فإن الانجاز المطلوب منها هو صد العدوان ومنع المعتدي من تحقيق أهدافه، أو المساهمة في عدم تحقيق تلك الأهداف قدر الإمكان. وفقاً لذلك؛ فإن عدم تحقيق إسرائيل لأهدافها من عدوانها الإرهابي هو إنجاز للمقاومة.

 

في تحليلات سابقة دأبنا على تقييم حماس وحكمها وفق منهج يستحضر محددات التقييم الاستثنائية، فقلنا إن تقييم حكم حماس يجب أن يأخذ في الحسبان حصار غزة ومن قبله قطع المعونات المالية، والانقسام الداخلي والتصعيد الإسرائيلي والموقف العربي السلبي من حماس. اليوم لم يعد الحصار والانقسام والمقاطعة الدولية استثناءً ضمن الفترة الزمنية المحددة لولاية المجلس التشريعي والحكومة. حين نقول أربع سنوات من عمر القضية فهي استثناء، لكن حين نقول 4 سنوات من عمر الحكومة، فلم يعد هناك استثنائي وعادي، وواقعية وأكاديمية التقييم تقتضي الآن أن يوضع التعامل مع هذه الملفات ضمن مسؤولية حماس، لا أن تكون مبرراً لعدم قدرة حماس على تحقيق إنجازات في المفات التقليدية وخاصة تلك المتعلقة بتحسين ظروف المواطنين.
الهدوء النسبي في درجة الاحتكاك العسكري مع الجانب الإسرائيلي خلال الأشهر الماضية، أعاد النّفس للفرضيات التقليدية حول قدرة حماس على أن تكون مقاومة خلال حكمها، بل تجاوزت الفرضيات هذا الحد لتتبنى أطروحات شبيهة بالمتداولة في الخارجية الإسرائيلية، بأن الرصاص الذي سكب على غزة هو الذي حقق هذا الهدوء في البلدات الإسرائيلية المجاوة. هذا الطرح ما زال مجرد فرضيات تقبل النقاش.

 

نقاش تلك الفرضيات سيتجاوز في هذه المرة التحليل المفاهيمي الذي يمكن تلخيصه بأن مفهوم المقاومة لا يعني فقط حمل السلاح، وأنه فعل يردّ به على اعتداء. فقد أشرنا إلى الجانب المفاهيمي في قراءات منفصلة، كما أن هذا الموضوع تم نقاشه ضمن رؤى متكاملة للدكتور عبد الستار قاسم وعزمي بشارة لمن يريد الاستزادة. ولذلك سيكون النقاش هنا من منظور حسي مرتبط بما يجري على الأرض، انطلاقاً من الإيمان بصدقية الطرح المفاهيمي حول مرونة مفهوم المقاومة وتأصيله.

 

مقاومة تجّار الديمقراطية
لم يعد من منكر القول وزوره الإشارة إلى أن الاعتداء على غزة ليس إسرائيلياً محضاً، فقد باتت غزة تعاني اعتداءً متعدد المصادر وإن كان كله يهدف لخدمة إسرائيل. إصرار العديد من دول العالم المتاجرة بالديمقراطية والحريات على عدم الحديث إلى حماس إلا حين اعترافها بإسرائيل، هو عدوان دولي على الفلسطينيين، وعدم استجابة حماس لمثل هذه الجملة الشرطية هي مقاومة. ومقاومة حماس هنا تظهر في مخاطرتها برضى الجمهور عنها، فالكل يعلم أن الحياة في غزة بلغ مستواها الضنك، وأن رضى أوروبا وأمريكا قد يغير من الأمر شيئا، والنموذج هنا كوريا الجنوبية، أقصد الضفة الغربية، فكوريا الجنوبية تصنع خلايا إلكترونية رغم رضى الغرب عنها. إذاً فالتضحية بالرصيد الأهم لدى أي حزب أو حركة، وهو رضى الجماهير من أجل عدم التنازل عن مبدأ هو إنجاز يؤكد صدقية ادعاء الحركة بالحفاظ على أهدافها، ويعزز الافتراض القائل بالقدرة على الجمع  بين وظيفتين. يتوجب الإشارة هنا أن هذا التقييم مبني على أساس نظرية التقييم وفقاً للهدف الإستراتيجي، بمعنى التقييم وفق معايير المقيَّم لا المقيِِّم.

 

حماس إذ تقاوم الأشقاء!
الصمود وعدم إقرار الشروط الثلاثة لم يتمثل فقط في مقاومة الضغط الغربي، فهناك ضغط من بعض الأطراف العربية والإسلامية الظاهر منها هي مصر من خلال إغلاق الحدود وبناء الجدار. وفي جزئية العلاقة مع مصر تحديداً، تعاملت حماس مع الموقف بصفتها حكومة أكثر من كونها حركة، ولجأت إلى دبلوماسية التعامل والخطاب، فرغم اقتناعها أن النظام الحاكم في مصر يقف قلباً وقالباً مع خصوم حماس السياسيين، إلا أنها لم تقطع معها العلاقات وبقيت على تواصل حتى في ظل الحديث عن بناء الجدار الفولاذي وضخ المياه. فمصر بوابة غزة، ومصر منسقة الحوار الداخلي، ومصر وسيط صفقة الأسرى، والتواصل معها في ظل عدم التجاوب مع الضغوط أيضا مقاومة، إذ أن عدم السير وفق نهج مصر السياسي رغم كل ما تمتلكه من أوراق ضغط على غزة، مع الإبقاء على شعرة معاوية بينهما يشير إلى أن حماس ما زالت قادرة على الصمود بوجه الضغوط، وليس بالضرورة كل سكان قطاع غزة.

 

بؤر التوتير الداخلية
ما زال طرحنا متعلق بالمقاومة، وفي هذه الجزئية مقاومة بؤر التوتير الداخلية في قطاع غزة. علامات استفهام كبيرة يجب أن توضع خلف تلك المجموعات التي باتت تمثل ضغطاً على المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة تحت مسميات تنتحل الصفة الإسلامية، فلماذا لم نر تلك المجموعات إلا في هذه الظروف وفي قطاع غزة تحديدا؟.. بغض النظر عن مرجعية تلك المجموعات ومن يقف خلفها كي يوجهها نحو مقاهي الإنترنت وصالات الأفراح، فإن تعامل حكومة حماس معها بشكل حاسم يشير إلى أن مقاومتها لإسرائيل ولضغط الخارج لم يمنعها من معالجة بؤر التوتر الداخلية. لكن ما يؤخذ على حماس في هذه الجزئية هو آلية المعالجة الإعلامية لمثل هذه المواقف، وآلية المعالجة الميدانية التي أدخلت كتائب القسام لعلاج الإشكاليات الداخلية، فالمفروض أن أجهزة الشرطة والأمن هي من تتولى البت في هذه القضايا.

 

صفقة التبادل
مضافاً إلى ذلك، فإن ملف الأسير جلعاد شاليط ما زال حاضراً خلال العام الماضي، وتم تفعيله في الآونة الأخيرة. بخصوص صفقة التبادل، فإن حالة التفعيل والتجميد المتكررة قد تؤدي إلى نوع من اللامبالاة الجماهيرية تجاه هذا الملف، ومن قد يخسر من هذه اللامبالاة هي حماس، فهي بأمس الحاجة إلى إنجاز تقدمه للشعب الفلسطيني، ومع ذلك، ورغم إدراكها لخطورة المماطلة، فإن إصرارها على شروط الصفقة نقطة أخرى في ميزان تقديم العام على الخاص. إسرائيل تعي ذلك جيداً، فما يقيد يديها لتنفيذ هذه الصفقة هو تخوفها مما يمكن أن تحققه حماس من رفع نسبة مؤيديها رغم كل هذه المماطلة والتسويف، هذا التخوف ظهر جلياً في التصريحات الإسرائيلية وأكثرها تحديداً ما صرح به يوفال ديسكن رئيس جهاز الأمن العام خلال اجتماع مع دبلوماسيين إسرائيليين هذا الأسبوع حين قال إن الصفقة في حال تمت ستكون إنجازاً لحماس على صعيد موازين القوى الداخلية الفلسطينية.

 

ديمقراطية حماس
بالانتقال إلى ملف آخر وهو ديمقراطية حكم حماس، فإن حماس حين فازت في الانتخابات التشريعية أظهرت مؤشرات عديدة على أنها حركة تتبنى النهج الديمقراطي، لكن إدخال الخلاف السياسي كعامل محدد لسياسات حماس أثار تساؤلات عدة حول مدى ديمقراطيتها، وهو ما سمح لكثير من المراقبين وبعض الفصائل الفلسطينية أن تنتقد هذه السياسات.
البعض يرى أن الحديث عن ديمقراطية ومؤسساتية في ظل حصار غزة ووضعها هو نوع من البذخ في التحليل والمراقبة، لكن المنطق يقول: إن حماس لا تعمل كحركة فقط، وإنما كمؤسسة حاكمة ولذلك يتوجب مساءلتها عن حكمها المؤسساتي. أبرز أخطاء حماس في هذا الجانب هو منعها لأعضاء حركة فتح من المشاركة في مؤتمرهم السادس في بيت لحم.

 

 

فتح وحماس.. التناسب العكسي
في محور آخر هو الملف السياسي الذي يشمل العلاقة مع الاحتلال وماهية الإنجازات المحققة، فإن تحليل هذه الجزئية خلال العام 2009، مختلف عن السابق، إذ إن هذه الجزئية لا يمكن نقاشها في إطار مجتزء، وإنما ضمن صورة موسعة توضح ملامح القضية الفلسطينية مجتمعة. وبما أن الحديث في هذه المقالة يتركز على قطاع غزة، فإن مناقشة الإنجاز السياسي وصيغة العلاقة مع الاحتلال ستكون في إطار مقارن مع النظير المفاوض.
من يحكم في غزة يرفض المفاوضات والاعتراف بإسرائيل، يتغنى بأنه دحر الاحتلال عام 2005 بالمقاومة لا بالمفاوضات، سيحرر مجموعة كبيرة من الأسرى الذين فقدوا الأمل في السجون الإسرائيلية، بصفقة تبادل لا بمبادرات حسن نية، وما زال متماسكاً رغم كل الضغوط. من يحكم في الضفة يؤمن بالمفاوضات لتحرير الأراضي المحتلة عام 1967، يعاني من نكوص أمريكي عن دعم موقفه، يبادر بإطلاق تصريحات ضد نهج المفاوضات تتناقض مع سياساته، ينادي بضرورة تفعيل عملية السلام، وتقابله إسرائيل باغتيال 3 من أبناء فتح، ممن كانت السلطة قد نسقت لهم كي ينالوا عفو إسرائيل، متوازياً مع تكريس الاستيطان وتهويد القدس واستمرار الاعتقالات.
في مثل هذه الحالة، فإن أخطر ما قد يواجه حركة فتح، هو عدم تحقيق إنجاز يذكر للمواطن الفلسطيني، وبما أن مقاييس الربح والخسارة حزبياً أصبحت في صيغة تناسب عكسي بين فتح وحماس، فإن استمرار المشهدين بهذه الوتيرة يعني أن الحياة لم تكن يوماً مفاوضات، وهو ما يضمن استفادة الطرف الآخر المنادي بنهج آخر حتى لو كان عليه مآخذ كثيرة.

 

المقاصد الكلية والجزئية
محور آخر نوقش مراراً ليس في إطار العام 2009 وإنما منذ تشكيل حماس للحكومة العاشرة، وحينها وجّهت التساؤلات حول قدرة حماس على تأمين الاحتياجات اليومية للمواطن الفلسطيني في ظل موقفها السياسي.. التساؤلات بدت أكثر جدية خلال العام 2009 مع اشتداد قسوة الحياة في قطاع غزة، وهنا لا يوجد شك أن حماس لم تنجح حتى اللحظة في إيجاد بديل يتسق مع كونها حكومة.
أدرك جيداً أن حماس تسعى بطرق غير تقليدية لتأمين احتياجات المواطنين عبر الأنفاق أو الأحزمة المالية أو غيرها مما لا نعلم، لكن هذه السبل غير كافية لتأمين احتياجات شعب. أدرك أيضاً أن لأي حركة تحررية أو مقاومة، مقاصد كلية ومقاصد جزئية، أو إستراتيجية ومرحلية، وحين يصبح تحقيق المقاصد الجزئية عاملاً معوّقاً لتحقيق الكلية منها، لا بد من التخلي عن الجزئي أو تعديله. في حالة حركة حماس فإن مقاصدها الكلية المنطلقة من ميثاقها تعارض تحقيقها مع المقاصد الجزئية في برنامج كتلتها، وهنا فإن حماس لا تجد ضيراً في التغاضي عن جزئيات مقاصدها إن كان الكلي في خطر.
لكن ما يدفع لنقد حماس، هو تعارض المقاصد الكلية للحركة مع المقاصد الكلية للحكومة، فما هو كلي للحكومة جزئي للحركة، بمعنى أن الحكومة أصبحت خارج نطاق الأدوات التي تخدم المقاصد الكلية للحركة، كما هو الحال مع السلطة الفلسطينية ككل التي أصبحت مقاصدها الكلية تتطلب معونة ممن يشكل دورهم تعارضاً مع المقاصد الكلية لمشروع التحرر، بشكل دفع الكثيرين للمطالبة بحل السلطة ككل.
وحتى لا يفهم هذا الطرح تناقضاً مع ما أسلفناه من إمكانية الجمع بين الحكم والمقاومة، لا بد من الاشارة هنا أن المشكلة ليست في وجود مؤسسة تتمثل في السلطة وإنما في طبيعة المؤسسة من حيث عملها وارتباطاتها، وأما بخصوص قرار الإبقاء على السلطة أو حلها، فلا يتطلب جدلاً حول فوائدها، وإنما يتطلب تحديد الخط الذي يريده الفلسطيني، فإن كان يريد دولته، فطريقها ليس معبداً باليورو!