قواعد أساسية للتربية الايمانية
20 ذو الحجه 1430
د. خالد رُوشه
 

[email protected]
إن لشخصية القائد المربي المعلم الأثر الكبير في صياغة التكوين الفكري والسلوكي والنفسي لمتعلميه ومتربيه والعاملين معه؛ ولسلوكه وطريقته في الأداء والتعليم والتوجيه والتربية أكبر الأثر في التقدم بنجاح نحو الأهداف الفردية لكل فرد من المحيطين به وكذلك في الإنجازات العامة.
ومسألة التربية الإيمانية والتزكية النفسية, تحتاج - بوجه خاص - إلى موجه عليم يأخذ بيد الأفراد, ويقوّم سلوكهم, ويعينهم في علاج أمراضهم, ويعلمهم العلم, ويتدرج معهم من مستوى إلى آخر ومن إنجاز إلى آخر وفق منهج علمي تربوي مدروس.

ولقد سارت العملية الإيمانية العلمية دومًا بمساعدة القادة المؤمنين والعلماء الربانيين والدعاة المخلصين, وما علمنا أحدًا نجح في الوصول إلى المستويات العالية السامقة وليس له قدوة أو معلم أو موجه, حتى الذين حالت ظروفهم دون التعليم المباشر من معلمين لطالما حاولوا الاقتداء بالصالحين والعلماء عن طريق سيرهم وخطواتهم وكتبهم وتوجيههم, وكانوا يشعرون بغاية الألم والحزن من نقص المعلمين والمربين من حولهم الذين يبينون لهم الطريق وييسرون لهم العلوم ويدفعونهم إلى العلا دفعًا...
ونؤكد هنا حول عدة محاور مهمة في دور المربي :

- من السلبية إلى الإيجابية :

يبدأ المرء حياته الإيمانية محملاً بتصورات شتى عن الكون والحياة والإسلام, وتكون معظمها تصورات سلبية لم يوجهه فيها أحد أو يعلمه أحد, وإنما تكون معظمها مستقاة من واقع المجتمع الذي ظل عمره يعيش بداخله, فتأثر بأدوات الإعلام فيه وبالقيم والمبادئ السارية فيه.
وكان دومًا ما يرى مبادئ الإسلام الحقة مستغربة عنه لم يجد هناك من يوجهه إليها ولا من يربيه عليها, ولكن اكتفى ذلك المجتمع منه بحاله , ولم يكن ذلك المجتمع أن يقوى إيمان هذا المسلم أو يدفعه إلى الطاعات والعبادات, ولكن كان دومًا ما يبث فيه التصورات السلبية تجاه ما يحيط به من حياة.
وللمعلم هنا دور بالغ الأهمية في تعديل تلك التصورات السلبية واستبدالها بتصورات إيجابية إيمانية تجاه الناس والحياة والعبادات وغيرها من تصورات الإسلام وقيمه.
وهو دور صعب في واقع الأمر ويصعب أن يقوم به معلم وحده, ولكن ينبغي أن تكون هناك مؤثرات أخرى تؤثر على ذلك الإنسان ليستبدل تصوراته تلك السلبية بأخرى إيجابية إيمانية.
ونحن في هذا المقام نوجه النظر إلى مجموعة تصورات ينبغي التأكيد على تغييرها فاتحين المقام لكل معلم أن يوجه سلوك متعلميه إلى الأحسن والأفضل دومًا.

- وجوب رحمة الدعاة وشفقتهم بالناس وحبهم لهم :

على الداعية إلى الله أن يكون رحيما شفيقا على الناس , يريد لهم الخير والنصح, فيدعوهم إلى شرائع الدين, ويحب لهم ما يحبه لنفسه من الإيمان والهدى, فالداعي الرحيم لا يكف عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة وهو يعلم أن إعراضهم بسبب جهلهم, فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم.
وهو حليم بهم رحيم محب لهم, شفيق عليهم وله في ذلك قدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
*وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) رواه مسلم.
*وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بمن يحرم على النار - أو بمن تحرم عليه النار؟ - تحرم على كل قريب هين لين سهل) أخرجه الترمذي
وهكذا كان الأنبياء جميعًا رحماء بمن أرسلوا إليهم مشفقين عليهم من العذاب
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه من الناس أبدًا, فعن أنس رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية, فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة, فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته, ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء"متفق عليه
* وعـن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ضربه قوم فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) متفق عليه
والرحمة تهون على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر إليهم من مستوى عال رفيع أوصله إليه إيمانه بربه وصلته به, ولذا فهو ينظر إليهم كصغار يعبثون, والشأن في الصغار العبث والجهل وعدم الإدراك لما ينفعهم؛ ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه لهم بالإعراض والصدود والأذى, ولكنه يعيد الكرة عليهم ومعهم ويتحمل أذاهم ويدعو لهم بالهداية.. أصول الدعوة

- على الداعي إلى الله سبحانه أن يعفو وأن يغفر وأن يسامح :

وأن يتصف بالحكمة في المعاملة مع الناس ومع المجتمع الذي هو فيه, وأن يقيس المصلحة والمفسدة في كل عمل يعمله حتى وإن كان عمل خير أو أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر.
ذكر ابن الجوزي عن ميمون بن مهران أنه قال: سمعت ابن عباس يقول: "ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره, وإن كان نظيري تفضلت عليه, وإن كان دوني لم أحفل به, هذه سيرتي في نفسي, فمن رغب عنها فأرض الله واسعة"صفة الصفوة
وعن حميد الطويل عن أبي قلابة قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك, فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه
وعن ابن المديني قال: سمعت سفيان يقول: كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه, فلقيه عمر فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأبق للصلح موضعًا, فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه
وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي, ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي, ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟!
وقال ابن السماك - لما قال له صديق له: الميعاد بيني وبينك غدًا لنتعاتب - قال له: بل بيني وبينك غدًا لنتغافر.
وفي الحقيقة جواب ابن السماك يأخذ بمجامع القلوب, ملؤه فقه وواقعية يشير إلى وجود قلب وراء هذا اللسان يلدغه واقع المسلمين وتؤلمه أسباب تفرقهم, فلماذا التعاتب المكفهر بين الإخوة؟ كل منهم يطلب من صاحبه أن يكون معصومًا؟ أليس التغافر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟ أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: رب اغفر لي ولأخي هذا, ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟ أوليس عبوس التعاتب تعكيرًا تصطاد الفتن فيه كيف تشاء؟ بلى والله..العوائق

- الحكمة في معاملة الناس والمجتمع:

فالدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة, وتظهر الحكمة في معرفة المناسب لكل مجتمع من أساليب الدعوة مما يتلاءم مع عاداته وصفاته وأحواله, وكذلك المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس, والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل من يعرف, وهو يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته ولا يحملها فوق طاقتها.
وقـد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: (اللهم علمه الحكمة) رواه البخاري , وقد فهم ابن عباس - رضي الله عنهما - قول الله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فقال: "كونوا حكماء فقهاء", وقال الحافظ: والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره
والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة, قال الحافظ: والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله وبكباره ما دق منها.
قال البخاري رحمه الله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه, ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لولا أن قومك حديثٌ عهدهم لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون), قال ابن الزبير: (حديث عهدهم) يعني بكفر, قال ابن حجر: "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة" فتح
فالحكمة إذن تكون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا, وللأسف فإن كثيرًا من الدعاة إلى الله يفتقرون الحكمة في التعامل مع مجتمعاتهم ودعوتها.
وعلى المعلمين والمربين بيان معاني الحكمة لطلبتهم وللمدعوين, وعليهم أن يعلموهم اجتناب خوارم الحكمة وموانعها وهي كالتالي - باختصار -:
1ـ الهوى وعدم التجرد:
قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
2ـ الجهل:
قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43].
3- الاستدلال بالأدلة في غير موضعها أو الأخذ بظاهر النص دون فهمه ,
4ـ الاعتداد بالنفس وعدم مشاورة الأكثر خبرة وتجربة وعلمًا(فالحكمة إذن تستدعي استشارة أهل العلم والأثبات الناصحين والانطلاق من فتواهم المقبولة المعتبرة، وكم رأينا من بلية سببها التعالم أو إهمال رأي العلماء!!. )
5- العجلة وعدم ضبط النفس والحماس الزائد غير الموجه ولا المتعقل.
6ـ عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد:
"وهذا يؤدي إلى تقديم جلب المصلحة على دفع المفسدة ويؤدي إلى دفع المفسدة الصغرى بالكبرى, وجلب المصلحة الدنيا وترك العليا, وليس الحكيم هو من يعرف الخير من الشر ولكن الحكيم من يعرف خير الخيرين وشر الشرين .." الحكمة

- يسر الإسلام والبعد عن المشقة :

فكثير من الناس ينظرون إلى واجبات الإسلام كتكليف ومشقة يلزمهم أن يقوموا بها, وقليل منهم من ينظر إليها من جهة حاجتهم إليها وفقرهم تجاه ربهم سبحانه وتعالى وحبهم للعبادة .
ويترتب على شعورهم تجاه العبادة أنها مشقة وتكليف أنهم لا يشعرون بحلاوة التوحيد والإيمان والعبادة وكذلك فإنهم قد يتركون الالتزام بالعبادة في بعض الأحيان لشعورهم بمشقتها عليهم, أما إن صار لديهم شعور وفهم وتصور صحيح تجاه التوحيد والعبادة, وأنها لا غنى للمرء عنها, وأن حاجته للعبادة أشد من حاجته إلى الطعام والشراب, وأنه لا تقوم حياة مسلم بغيرهما, إذا فهموا هذا المعنى أحبوا العبادة, وصار إيمانهم بربهم بحب للإيمان به, وحب لله ولرسوله ولكل ما يقرب إلى حبه سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان, أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ضرورة التوحيد للعباد:
"هذه قاعدة جليلة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له, عبادة واستعانة, قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5], وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
ثم قال - رحمه الله -: وذلك أن العبد, بل كل حي, بل وكل مخلوق سوى الله فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره, والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة, والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر محبوب مطلوب الوجود.
الثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد ولا يقوم صلاحه إلا بها, إذا تبين لك ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
- أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب, وهو المعين على المطلوب, وما سواه هو المكروه, وهو المعين على دفع المكروه, فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة (التي لا تقوم حياة العبد إلا بها) دون ما سواه.
وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}, فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه, والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب.
- أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة له ومحبته والإخلاص له, وحاجتهم إليه في عبادته إياه كحاجتهم في خلقه لهم, فإن ذلك هو الغاية المقصودة, ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء, ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات, وكان التوحيد بقول لا إله إلا الله رأس الأمر".
- أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال, بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه, فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره, وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه, وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله...
- أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه؛ إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله, فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وكذلك من النكاح واللباس.
واعلم أن كل من أحب شيئًا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببًا لعذابه, وهـذا معنى مـا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة, ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه) رواه الترمذي وغيره.
- أن الله سبحانه غني حميد كريم واجد رحيم, فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه, فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول إنما يقصد منفعته بك, والرب سبحانه يريدك لك ولمنفعتك بك لا لينتفع بك, وذلك منفعة عليك بلا مضرة, فتدبر هذا.
- أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر الله, ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك, فلا تعلق بهم رجاءك) مجموع الفتاوى

- التوجيه نحو الطاعة وعدم الاستهانة بالذنب :

فإنه قد ساد في مجتمعات المسلمين مفهوم خاطئ تجاه الذنب والمعصية, وهو أنه لا بأس للإنسان من أن يرتكب الذنب تلو الذنب والمعصية بعد المعصية, وإذا أنكر عليه أحد أو نصحه أو عاتبه رد عليه بأن الله غفور رحيم, وأنه سبحانه سيغفر الذنوب في أي وقت ولا بأس بأن يظل الإنسان يعبث بدينه ويجاهر ربه بالآثام لأنه في أي وقت سوف يتوب ويتوب الله عليه.
ونتج من هذا المفهوم - الذي فيه حق وباطل - أن استهان الناس بالمعاصي وجاهروا بها ورفضوا كل منكر لها, بل حتى لقد عاتبوا من ينصح فيها وجعلوه متشددًا وناسيًا لرحمة الله تعالى, كذلك فقد نتج عن هذا المفهوم الادعاء بأن النية قد تكون في القلب صالحة تقية عالية رغم أن صاحبها لا يفعل الطاعات أبدًا, فتهاون الناس في كثير من الطاعات محتجين بعفو الله ورحمته ومضيعين أمره ونهيه.
وفي مقولتهم حق وباطل, وقد اتخذوا الحق الذي فيها سُلَّمًا للباطل.
فأما الحق الذي في مقولتهم فهو أن الله غفور رحيم عفو يغفر الذنب ويستر العيب, ولو جاءه العبد بملء الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئًا لجاءه بملئها مغفرة.
وأما الباطل الذي فيها فهو اتخاذهم عفو الله ورحمته حجة لعصيانه ومخالفته ونسيانهم الخوف منه سبحانه وخشيته وتقواه وعذابه وتضييع أوامر الشرع ونواهيه.
وقد بين الإمام ابن قيم الجوزية هذا المعنى بوضوح وجلاء في كتابه الجواب الكافي إذ يقول:
[وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه, فضيعوا أمره ونهيه ونسوا أنه شديد العقاب, وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين, ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند, قال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيع من الخذلان والحمق, وقال بعض العلماء: من قطع عضوًا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم, لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة نحو هذا, وقيل للحسن: أراك طويل البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني ولا يبالي. وكان يقول: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة, يقول أحدهم: لأني أحسن الظن بربي, لو أحسن الظن لأحسن العمل, وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد, كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا, خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار, فتندلق أقتاب بطنه, فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه, فيطوف به أهل النار فيقولون: يا فلان, ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم عن المنكر وآتيه) أخرجه البخاري , وفي صحيح مسلم عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار, فيصبغ في النار صبغة, ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب, ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة, فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فقول: لا والله يا رب, ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط) ]الجواب الكافي

- الحب والرحمة للأفراد والمجتمعات بدلا من العداوة والبغضاء :

قد يسيطر على الشاب في بداية طريق التزامه وتعلمه العلم , شعور بالمفارقة بينه وبين مجتمعه, وبالغربة في الحياة لأنه يستمسك بآداب الشرع وأحكامه, والناس أكثرهم لا يفعلون ذلك – وهو فهم خاطىء -
وإذا به يقرأ من الأحاديث الصحاح عن غربة الإسلام في آخر الزمان ما يفهم منه المبتدئ – خطأ - تقوية هذا الوازع في مفارقة المجتمع. وهذا الشعور بمفارقة المجتمع والاغتراب عنه - رغم ما يمكن أن ينشأ منه من سلوك التزامي واستمساك بالسنة - قد ينتج عنه من الأخطاء الكبيرة ما ينبغي على المربين وأهل العلم أن يقوموه ويعدلوه.
ذلك أن ذلك قد يتطور في بعض الأحيان لرؤية المجتمعات رؤية غير صائبة, فيصف الشاب المجتمع بالكفر وربما يتهم آحاده كذلك, أو إنه ليحكم على الناس بالضلال والشرك, وهذه الزلة زلة خطيرة, وهي كفيلة بإفساد دعوته ووقوعه في المحظور الشرعي والمحظور الدعوى, فأما المحظور الشرعي فلخطأ ذلك شرعًا مما سنبينه بعد قليل, وأما المحظور الدعوى فلأنه إذا نظر إلى الناس بهذه العين مقتهم واحتقرهم ولم يبذل نفسه في دعوتهم وساء خلقه معهم, إلى غير ذلك مما هو معلوم معروف.
وإنما يكبر هذا الشعور لدى الشاب في بداية طريقه لكثرة ما يجده من حوله من تضييع لأوامر الله تعالى والمجاهرة بالمعاصي والذنوب والآثام فيجب الانتباه لهذه الزلة وعلاجها ببيان المنهج الإسلامي الصحيح عقيدة وعلمًا وعملاً ودعوة.
ونحن هنا نبين بعضا من المفاهيم الشرعية الهامة :

1ـ الإيمان قول وعمل:
قال شيخ الإسلام في الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل, قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح" العقيدة الواسطية
فقول القلب: اعتقاده وتصديقه وإقراره.
وقول اللسان: إقراره العمل؛ أي النطق بالشهادتين والعمل بمقتضياتها.
وعمل القلب: نيته وتسليمه وإخلاصه وإذعانه وحبه وإرادته للأعمال الصالحة.
وعمل اللسان والجوارح: فعل المأمورات وترك المنهيات.
فبهذا يتبين أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعًا, وشمول الإيمان لهذه الأشياء لا يعني أنه لا يتم إلا بها, بل قد يكون الإنسان مؤمنًا مع تخلف بعض الأعمال, لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله.
2ـ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية:
يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وأسباب زيادة الإيمان أربعة:
أ - معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
ب - النظر في آيات الله الكونية والشرعية.
جـ - كثرة الطاعات وإحسانها.
د - ترك المعصية تقربًا إلى الله عز وجل.
وأسباب نقص الإيمان أربعة:
أ - الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
ب - الإعراض عن النظر في الآيات الكونية والشرعية.
جـ - قلة العمل الصالح.
د - فعل المعاصي.
قال الشافعي رحمه الله: "الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص, يزيد بالطاعة, وينقص بالمعصية, ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا}"
وقال ابن عبد البر في "التمهيد": "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل, ولا عمل إلا بنية, والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, والطاعات كلها عندهم إيمان"
وقال الإمام أحمد: "الإيمان يزيد وينقص؛ فزيادته بالعمل, ونقصانه بترك العمل".

3ـ أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بالمعاصي والكبائر:
فإن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بكل ذنب, إلا ذنبًا يزول به أصل الإيمان.
قال شيخ الإسلام: "وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج, بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي .. ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار...".
ثم قال: "ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته".
فالإيمان عند أهل السنة والجماعة لا يزول إلا بزوال أصله, وأما زوال فرعه بارتكاب المحذورات وترك الواجبات فيُنْقص الإيمان ويضعفه ولكنه لا يزيله ولا يذهبه بالكلية.
فأهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم بالمعاصي والكبائر, بل الأخوة بين المؤمنين ثابتة ولو مع المعصية , وعلى هذا فلو مررت بصاحب كبيرة فإني أسلم عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من حقوق المسلم على المسلم: (إذا لقيته فسلم عليه) مسلم, وهذا الرجل ما زال مسلمًا فأسلم عليه .. شرح الواسطية

4ـ أهل السنة والجماعة لا يخرجون أحدًا من الإسلام فَعلَ فعلاً مكفرًا, إذا كان جاهلاً أو متأولاً أو مكرهًا - إن كان قلبه مطمئنًا بالإيمان - إلا بعد إقامة الحجة عليه التي يكفر تاركها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمتأول الجاهل والمعذور, ليس حكمه حكم المعاند والفاجر, بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا..."
وقال-رحمه الله-: "وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يبين لهم بها أنهم مخالفون للرسول, وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر, وهكذا الكلام في جميع تكفير المعينين" اهـ.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتهام الناس بالكفر أو اتهام المجتمعات بالكفر تحذيرات شديدة جدًا:
فقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر, فقد باء بهما أحدهما؛ إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: (من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله, وليس كذلك إلا حار عليه) متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) أخرجه البخاري

وأهل السنة كذلك لا يكفرون المعين, وإنما يفرقون بين الحكم على القول بأنه كفر والحكم على صاحب القول بأنه كافر؛لأنه يمكن أن يكون متأولاً أو جاهلاً أو مكرها- كما سبق -, فتكفير المعين من الجهال وأمثالهم لا يجوز إلا بعد إقامة الحجة عليه من أهل العلم الأثبات والقضاة الشرعيين , والحجة ينبغي أن تكون على مستوى فهمهم, ويعطي لعقولهم فرصتها حتى يستوعبوا الحجة والأدلة, وإنما يقوم بذلك أهل العلم من القضاة الشرعيين أو العلماء المرضيين.

5- أهل السنة يرون وجوب طاعة ولاة أمور المسلمين ما لم يأمروا بمعصية, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
*وقال صلى الله عليه وسلم : (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله, ومن يطع الأمير فقد أطاعني, ومن يعص الأمير فقد عصاني) متفق عليه
*وقال صلى الله عليه وسلم: (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرِب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)رواه مسلم
*وقال صلى الله عليه وسلم: (من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه, فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية) رواه مسلم
فطاعة أولي الأمر في المعروف من أصول أهل السنة والجماعة, وهي أمر أساسي لوجود الانضباط في دولة الإسلام والوقاية من الفتن.
وأهل السنة يرون الصلاة خلفهم والدعاء لهم بالصلاح والاستقامة ومناصحتهم, ويحرمون الخروج عليهم بالسيف إذا ارتكبوا مخالفة دون الكفر.

قال النووي رحمه الله: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق, وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف, وإعلامهم بما غفلوا عنه" شرح مسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا"
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تمامًا, فيرون إقامة الحج مع الأمير وإن كان من أفسق عباد الله..." ثم قال: "فهم يرون إقامة الحج مع الأمراء وإن كانوا فساقًا, حتى وإن كانوا يشربون الخمر في الحج, لا يقولون: هذا إمام فاجر لا نقبل إمامته؛ لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة وإن كان فاسقًا".
ثم قال - رحمه الله -: "والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم, لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه مما لا يسوغ فيه الاجتهاد, وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام؛ لنبين لهم الحق لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس, وأما منابذتهم وعدم طاعتهم فليس من طريق أهل السنة والجماعة" شرح الواسطية

ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه, قال الحافظ ابن حجر: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه"الفتح
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"منهاج السنة النبوية
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "بشرط أن لا يخرجه فسقه إلى الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان "شرح الواسطية.

خاتمة : وإنما يصلح في ختام ذلك الحديث أن نؤكد على أهمية دور المربي الناصح العالم الخبير في توجيه الناس نحو الإصلاح والتقدم والتنمية العامة لأمة الإسلام أجمعها والدعوة إلى الاعتدال والوسطية في كل مأخذ , والدعوة إلى اتباع العلماء الكبار الراسخين والاقتداء بهم والصدور عن فتواهم وتوقيرهم وتقديرهم وعدم الاعتداد بالآراء الشخصية الشاذة المنفردة , والدعوة إلى وحدة أمتنا الحبيبة ..التي لايزال الخير فيها نابضا والأمل فيها كبيرا ..