طبائع النفس البشرية وإدارة الأعمال

هل هناك علاقة بين طبائع النفس البشرية من بخل أو كرم، ومن طمع أو قناعة، ومن حسد أو مباركة بإدارة الأعمال بكافة أصنافها من تجارة، صناعة، تطبيب، وكل ما يتقاطع مع مصالح العباد؟.
سؤال يفرض نفسه على الذهن في حال قياس كفاءة الأعمال من منظور المحتاج للمنتج والخدمة لا المستفيد من ورائهما في ظل طبائع النفس وأمراضها.   
فكثيراً ما يقف المرء أمام المنتجات والمبيعات، من حيث الجودة، السعر والموازين في ذات الصنف باختلاف الشركات، فيجد الجيد ويجد الردئ، ويجد الرخيص ويجد الغالي، ويجد المبخوس ويستشعر البركة في غير المبخوس.
ويتأمل المرء أيضاً حال الأطباء، فيجد منهم من يتعامل مع المريض برسالة ربانية هدفها الأسمى توظيف ما علمه ربه ليكون عوناً في تجاوز المريض لمحنته بغض النظر عن الحالة المالية للمريض.
 ويجد من الأطباء أيضاً من يتعامل مع المريض بالمنطق النفعي الخالص، فيمتص من المريض الأموال الكثيرة دون مراعاة لأية أبعاد إنسانية عند المريض، حتى ولو كان المريض مقتدراً فالاستنزافات المالية والسياحة على كارثة المريض واضحة بقوة عند قطاع غير قليل من الأطباء.
وهكذا تسير الأمور في كافة القطاعات والأعمال.
فالتاجر الكريم القانع نظيف القلب تجده يتقى الله في تجارته، وتجده سمحا مع زبائنه، بشوشاً في وجوههم، قنوعاً في نسبة أرباحه التي يضعها، يقبل التعامل بالدين للمعسرين دون أي فائدة ويستر على زبائنه في أمر الدين، يرعى فقراء منطقته بما يقدر عليه، وبالعموم فهو يعكس طبائعه الشخصية من كرم وقناعة ومباركة على كل ما يقدمه من خدمات من خلال أعماله المتمثلة هنا في تجارته.
 
وعلى النقيض نجد التاجر البخيل الطماع الحسود، الذي قل أن تجد لتقوى الله أي مدلول عملي في تجارته حتى ولو تلفظ بها ليل نهار، فهو شديد البخل مع زبائنه وكأن لسان حاله " أعطني ثمن السلعة ولا تأخذها"، إن بش في وجه الزبون فهي ابتسامة المصلحة سريعاً ما تتبدل فور الحصول على المال، وقد ينقلب الوجه إلى عبس وثورة أحياناً مع أول سوء فهم، غير قانع بنسبة أرباحه بل قد يبيع السلعة الواحدة بأكثر من سعر بحسب تقديره لحالة الزبون إضافة إلى تسعيرته الغالية في الأساس، يطفف أحياناً ويغش أحياناً أخرى، لا يتعامل بالدين وإن تعامل فبالفائدة المركبة مع التشهير بالمستدين في أول عثرة، لا يبالي بفقراء منطقته، وقد يحسد أحياناً الزبائن على ما يشترونه من عنده بأموالهم التي ربح فيها.
 
وبالعموم فهو يعكس كافة أمراضه القلبية على إدارته لمتجره وعلاقته بزبائنه.
وكذلك الصانع في مصنعه فنجد سليم القلب سخي اليد يتقي الله في من سيستخدم منتجه، فهو ينتقي أفضل الخامات ليخرج منتجه جيد الصنعة كامل الوزن وبنسب ربحية معقولة، فالصانع هنا يبارك للمستهلك السلعة التي ينتجها له.
 
بينما مريض القلب، فلا هم له إلا جمع المال فإن سلمت الخامات ونادراً ما يسلم صنف منها، لم يسلم الوزن، وإن سلم الوزن مخافة قانون ما، لم يسلم السعر، وفي كلٍ فالمنتج محسود من قبل الصانع قبل أن يقع في يد المستهلك.
 
 وفي إدارة المؤسسات نجد أن طبائع النفس البشرية تنعكس على أداء المدير لعمله وإدارته لمنسوبي مؤسسته، فالكريم سليم القلب تجده قريباً من موظفيه في أوقات الشدة، سخياً معهم في أفراحهم وأحزانهم، رافعاً لروحهم المعنوية على طول الخط محفزاً إياهم على التطور والنجاح والتفوق حتى ولو كان منتهى ذلك انتقالهم لمؤسسة أخرى أكبر من مؤسسته.
 
بينما على الطرف الآخر نجد المدير البخيل الطماع مريض القلب يبخس حقوق موظفيه على طول الخط، فهو يتمنى أن لو عملوا لديه بدون أجر فيوم حزنه وغمه هو اليوم الذي يعطيهم فيه رواتبهم، ومن ثم فرواتبهم محسودة من صاحب العمل قبل أن تقع في أيدي موظفيه رغم أنهم أدوا ما عليهم من واجبات نظير هذا الراتب، كما تجد هذا المدير بعيد كل البعد عن موظفيه، إذا مرض أحدهم فإيقاف الراتب هو أول الأوامر الإدارية وإذا امتد المرض قليلاً فإن الفصل من الخدمة هو ثاني تلك الأوامر، فهدفه الوحيد هو مصلحته الشخصية فقط يقطع كل سبل أبواب الخير عن الموظفين، وكأنهم عبيد وهو السيد، حريص كل الحرص على ألا يتم تطوير أدائهم، وذلك حتى لا تفتح أعينهم على مؤسسات أفضل من مؤسسته، وكل ذلك لانعكاس طبائع نفسه السيئة وأمراضه القلبية على إدارته لأعماله.
 
المشكلة الأكبر هي امتداد تأثير الطبائع السيئة والأمراض القلبية لداخل المحيط الأسري، ليربي الأب البخيل الطماع مريض القلب أبنائه على ذات منهجه السقيم فيقدم للمجتمع أبناء على صنفين:
الأول.... سائر على درب أبيه في البخل والطمع والحسد، لتستمر العدوى بين الذرية، وتتعاقبها الأجيال.
الثاني.... رافض لطبائع أبيه ولكنه يكابد ويعاني من الانعكاسات السلبية التي تتركها طبائع الأب على مناخ الأسرة، وهو بين أمرين:
الأمر الأول.. إما الاستسلام لتلك الانعكاسات، ومن ثم إصابة الأبناء بالعقد النفسية فيبتلى المجتمع بالمضطربين نفسياً.
الأمر الثاني.. هو النجاح في مقاومة تلك الانعكاسات بعد مجهودات مضنية، وتضحيات كثيرة، وبذل للطاقة في غير محلها فيما لو بذلت في أمور بناءة لأتت بثمار نافعة كثيرة.
 
إننا إذن أمام طبائع نفسية وأمراض قلبية لا تقف تأثيراتها عند حدود أصحابها لكنها تمتد للإضرار بمصالح المسلمين في مأكلهم ومشربهم وكل ما يسد احتياجاتهم من منتجات أو خدمات يتحكم فيها سيء الطباع ومريض القلب، حيث تزداد المفاسد بحسب درجات الطبائع والأمراض، وبذات المعادلة فكلما زادت نسبة الطبائع السليمة وصفاء القلب زادت كفاءة الأعمال وزادت معها منافع المسلمين.
ولكن كيف تعالج تلك الأزمة؟ وكيف نحد من امتداد تأثير الطبائع النفسية والأمراض القلبية كي لا تعرقل مصالح العباد وتفسد عليهم معيشتهم؟.   
 
 بداية فإن عناصر الأزمة هنا على مستويين:
المستوى الأول... هو الشخص مريض القلب صاحب الطبائع السيئة.
 المستوى الثاني.... المجتمع الإسلامي بما يضمه من دعاة وعلماء وولاة أمور.
فبالنسبة للمستوى الأول والمرتبط بصاحب الطبائع السيئة والأمراض القلبية فإنه حتى يشفى من سقمه فلابد ابتداءً أن يتولد لديه الشعور بأنه مريض وإلا فلن يستطيع معالجة أمراضه، فمريض الكلى مثلاً لا يذهب إلى طبيب الكلى إلا إذا ارتأى بنفسه أن هناك أعراض تظهر عليه، وبالتالي فهو يذهب للطبيب وهو لديه قناعة بأنه مريض ولديه التهيئة النفسية لتلقي العلاج، وكذلك الحال مع الطبائع السيئة والأمراض القلبية.
 
ولكن إذا كانت أعراض الأمراض العضوية معلومة، فكيف يلمس الشخص أعراض أمراضه القلبية؟ وكيف يستطيع الحكم على طبائعه بأنها سيئة؟.
خاصة وأن غالب الناس ينظرون إلى شخصياتهم وطبائعهم بنظرات مثالية يقنعون أنفسهم فيها بأنهم على صواب على طول الخط.   
  
بتأمل تلك الإشكالية نجد أن الناس هنا على قسمين:
القسم الأول.. وقد امتد خبثه لأن يرفض أي تشخيص لحالته فهو يعرف أنه سئ الطباع وأنه بهذه الصفات السيئة يحقق ملذاته ويشبع نزواته، وهذا الشخص تتم دعوته بالحسنى، وباستخدام أساليب الترغيب والترهيب مع تطبيق الأحكام الشرعية والضوابط الإدارية عليه بصرامة وبلا أية رأفة، في حال تضرر العباد من تصرفاته.
 
القسم الثاني.. وهو قسم لديه طبائع سيئة وأمراض قلبية ولكنه لا يدري أنه مريض ومن ثم فهو لديه الاستعداد لإن يعالج نفسه إذا عرف مواطن الداء عنده، والشخص الذي ينتمي لهذا القسم  يمكنه التعرف على طبائعه من خلال الاهتمام بردود أفعال المستفيدين من خدماته ومنتجاته، والعاملين المحيطين به، وطلب أرائهم فيه بصراحة وبحرية تامة.
المستوى الثاني... والمرتبط بالدعاة والعلماء وولاة الأمور فيمكن توزيع الأدوار كالآتي:
 
أولاً... ولاة الأمور
دورهم يتركز في التشديد على تطبيق العقوبات الشرعية واللوائح التنظيمية التي تحد من الانعكاسات السلبية لطبائع النفوس وأمراض القلوب من غش في المنتجات، وغلاء في الأسعار، وظلم للعاملين، بحيث يضمن المستفيد من الخدمة والمنتج وكذلك الموظفين والعمال من أنهم يتقاطعون مع صاحب العمل لا من خلال طبائعه وأمراضه ولكن من خلال لوائح تنظيمية وضعتها الدولة وتطبق العقوبات الواردة فيها دون تمييز أو شفاعة.
 
ثانياً.... الدعاة والعلماء
الساحة الإسلامية بحاجة إلى مزيد من أطباء القلوب، والكتابات المتخصصة في طبائع النفوس وأمراض القلوب، مثلما كتب ابن تيمية، وابن القيم الجوزية، وابن الجوزي رحمهم الله عن أمراض القلوب وعلاجها، لأن الملاحظ أن غالب ما على الساحة الآن فيما يتعلق بالنفس الإنسانية هي كتابات نفسية غربية قل أن تضع الدين في حساباتها بل إن بعضها إلحادي يعارض الدين من الأساس، ومن ثم فلا ينبغي التعويل عليها.
كما أن الساحة بحاجة لتجزئة الخطاب ليعالج الأطباء من أمراض القلوب وطبائع النفوس السيئة الموجودة في مهنة الطب، وليعالج التجار من ذات الداء، وهكذا الصناع وأصحاب الأعمال ومديري المؤسسات.
 
ومن الممكن في هذا الصدد العلاجي تنفيذ الأفكار التالية:
1-     تأليف سلسلة من الكتيبات الصغيرة الموجهة لكافة الفئات المهنية والمركزة على آليات اكتشاف أمراض القلوب وطبائع النفوس وكيفية العلاج وتصحيح المسار.
2-     استثمار الفضائيات الإسلامية المتاحة حالياً في تنظيم سلسلة من الحلقات الفضائية الموجهة لفئات بعينها بهدف معالجة أمراضها القلبية وتغيير طبائعها النفسية.
3-     إعداد كوادر بشرية من الدعاة والعلماء المتخصصين في مجال أمراض القلوب وطبائع النفوس وفقاً لمناهج عقدية نابعة من الدين الإسلامي بصفائه، بحيث تكون بعيدة كل البعد عن الطروحات النفسية العلمانية، الناشئة في بيئات مغايرة للبيئة الإسلامية.