جدة ..بين الفيضان والهلع والخوف والأحزان

في ليلة لا تختلف عن كثير من ليالي مدينة جدة التي تتسم باطمئنان ورغد من العيش أنعم الله به على هذه المدينة التجارية وكثير من أهلها ، وفي شتائها الدافئ الذي يستهوي المواطنين من شتى مناطق هذا الوطن الكبير ، وبعد أن أعلنت الأرصاد توقعات بهطول أمطار على جدة ومكة والمشاعر تستمر أياما ؛ كانت هذه المدينة العتيقة في تاريخها الحديثة في أكثر أحيائها ومبانيها على موعد في الصباح مع فاجعة لم يكن يخطر ببال أحد من سكانها حصولها ، ولا كان يخطر بخلد قاطنيها نزولها وحلولها بواديها ، رغم المخاطر التي تحيط بها ، والزلازل المتوقعة لها .
 
 ولو قدر أن جهة ما أو شخصا تنبأ بما سيحدث فحذر ونصح فلن يجد من غالب الناس من يعيره أي اهتمام أو يلقي لتحذيره بالا ، لقد استفاق سكان مدينة جدة في يوم الأربعاء الثامن من ذي الحجة من هذا العام على صباح ماطر ، لم يكن الأمر غريبا في بداية المطر ، وسارت الأمور بشكل معتاد في مثل هذه الظروف ، وكانت السيارات تجوب شوارع المدينة ، ومنها طريق الحرمين المؤدي إلى مكة المكرمة ، وعادة ما يشهد هذا اليوم ازدحاما كبيرا عليه من حجاج مدينة جدة لأنه أول يوم من أيام أعمال الحج ، لكن أمر الله نافذ ومشيئته لا ترد ، وفي خضم ذلك المطر الغزير تدفق فيضان مدمر لا يعرف مثله في هذه المدينة رغم تعرض هذه المدينة في العقدين الماضين إلى موجات شديدة من المطر ، واجتاح ذلك الفيضان وإن شئت فقل الطوفان أحياء في جنوب جدة وشرقها ، وطال طريق الحرمين وحول جزء منه إلى مجرى لذلك الفيضان المدمر ، لم يترك ذلك الفيضان السيارات التي في طريقه ومن فيها ، ولا البيوت التي دهمها وساكنيها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
 
 يتحدث أحد شهود العيان من الناجين بأهوال مما جرى في طريق الحرمين ، حيث ذكر كيف أنقذ امرأة كادت تغرق ، وأنه شاهد نساء في إحدى السيارات وقد ابتلع الفيضان سيارتهن وهن داخلها ولم يستطع أن يصنع لهن شيئا ، وذكر أنه ترك سيارته في الموضع المنكوب في طريق الحرمين ، ونجا بنفسه راجعا إلى بيته في سكن الأمير عبد المجيد سباحة ومشيا وقد أمضى بين دخوله لذلك الموضع المنكوب وخروجه منه من الساعة التاسعة صباحا حتى الرابعة عصرا ، مع أن المسافة تقطع بالسيارة في الأوضاع العادية في خمس دقائق ، ويروي لي أحد الثقات من سكان حي قويزة الحي الأكثر تضررا ، أن الفيضان اقتحم على الناس بيوتهم ووصل إلى الأدوار العلوية ، وأن الموتى غفر الله لهم بالآلاف ، وأن روائح جثث الموتى تشتم من خارج البيوت في الحي بعد ثلاثة أيام من الفيضان .
 
 وروى لي آخر أن أحد الوافدين عثر على جثة زوجته بعيدا عن الموقع الذي جرفها منه الفيضان بثلاثة عشر كيلو مترا ووقف ذلك الرجل المفجوع في زوجه على جسدها الذي حطمته وغيرت ملامحه أمواج ذلك الفيضان فأجهش في البكاء وأبكى كل من حوله ، وقد نشرت الصحف ومواقع في الشبكة العنكبوتية الصور التي تدل على حجم الدمار في الممتلكات والأرواح ، ونشرت صحيفة اليوم الإلكترونية في عددها رقم 13317 وتاريخ 13/12/1430هـ أن عدد الضحايا مائة وعشرة قتلى وأحد عشر ألف مفقود ، وأن أنفاق مدينة جدة المخصصة للسيارات تحولت إلى مقابر جماعية التهمت ما فيها من السيارات ومن فيها من الناس .
 
 وفي خضم هذا الفزع أطلقت الأرصاد تحذيرا من فيضان أبشع وأفظع من الفيضان الأول الذي جاء من جراء انهمار الأمطار ، إنه تحذير من بحيرة الصرف الصحي التي ارتفع منسوب المياه فيها ، وسارع الدفاع المدني مشكورا في إجراء احترازي بإخلاء بعض الأحياء في شرق جدة خوفا على أرواح الأهالي ، وهذه البحيرة عبارة عن حوض كبير لمياه الصرف الصحي يصل طوله أكثر من ثمانية كيلو مترات ، ويرتفع عن أدنى مستوى في جدة مائة متر تقريبا ويجمع قدرا هائلا من مياه الصرف الصحي تكفي لإغراق أحياء في مجرى تلك المياه من جدة ، وتسميها البلدية بحيرة المسك ، ويمكن لمن أراد أن يرى تلك البحيرة على جوجل إرث أن يشاهدها على المشهد الجوي لجدة ، وبعد هذا العرض للحدث وما رافقه وتلاه يتساءل كثير من الناس ما هذا الذي يجري ؟! ومن المسؤول عن أكثر من أحد ألف روح أزهقت والممتلكات التي دمرت وصنوف المخاوف والفزع التي على كل حي في المدينة خيمت ؟! أهو الدفاع المدني الذي لم يسخر إمكاناته في تحذير الناس من تلك السيول الجارفة قبل وصولها ، ولم يباشر موقع الحادث إلا بعد فوات الأوان وبعد أن لفظ أكثر الضحايا أنفاسهم ، وهل ما فعله بعد الحادث من الدعوة إلى أخذ الحيطة والحذر تأنيب ضمير أم استيقاظ في وقت متأخر للهروب من المسؤولية ؟! أم المسؤول بالدرجة الأولى أمانة مدينة جدة ، حيث شيدت مدينة مترامية الأطراف بين الجبال والبحر دون أن يكون لها بنية تحتية للصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار ، واعتمدت المخططات التي أقيمت في مجاري السيول ، وألجأت كثيرا من المواطنين إلى سكنى الأحياء العشوائية والبناء فيها ، وعرضت أرواحهم للخطر ، رغم أن هناك أراضي على مد البصر يمكن أن توزع عليهم بدل أن تعطى من ليس في حاجة لها ؟!
 
إن كل ما يمكن أن يخفف البلاء ويجبر المصاب من الخير اتخاذه ، حيهلا بمحاسبة المفرطين والمقصرين والمهملين الذين أسهموا بدور كبير في حصول هذه الفاجعة ، وحيهلا باتخاذ الإجراءات اللازمة في المستقبل لضمان سلامة أرواح الناس وممتلكاتهم ، ولكن الأمر الأهم الذي علينا جميعا المبادرة إليه والمسارعة في تنفيذه أفرادا وجماعات وبه تدفع النقم وتحفظ النعم ؛ الاستغفار ، { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [ الأنفال ، آية 33 ] ، { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين } [ هود ، آية 52 ] .