عندما تلعب السياسة الكرة.. تسييس الكرة وتكويرالسياسة
5 ذو الحجه 1430
عبد الباقي خليفة

في الإمبراطورية الرومانية القديمة شاعت مقولة معناها "أعط الشعب الخبز واشغله في اللعب تبعده عن السياسة" وقيل بلسان رموز الاستبداد في العصر الحديث " لقد أبحنا لكم الخمر والزنا وسمحنا لكم باللعب والعبث، فاتركوا لنا السياسة ".. ليس هناك دليل أكبر على تردي الأوضاع العربية الرسمية وتدني آفاقها على مختلف المستويات السياسية والإعلامية تحديدا، من الحالة التي سبقت ورافقت وأعقبت مباراتا كرة القدم بين الفريقين الجزائري والمصري في كل من القاهرة والخرطوم. لقد تجاوز الحماس كل الخطوط الحمر إلى حد التعصب الأعمى من الفريقين. وهو ما يكشف عن أمراض خطيرة ومزمنة تعاني منها أمتنا، ولا سيما الأقطار العربية مجسدة في مصر والجزائر. ولا يعني ذلك أن بقية البلدان لا توجد بها هكذا حزازات، وهكذا حساسيات، تذكرنا بملوك الطوائف في الأندلس. عندما كان بعض أولئك (القادة) يهنئون الافرنجة وقائديهما، فرناندو وايزابيلا، على تغلبهم مجتمعين على إمارة من تلك الإمارات المتفرقة والمشتتة والمنقسمة على نفسها بل المتنافسة والمتناحرة، وهو ما رأيناه وإلى وقت قريب في العراق، وفلسطين و"غزة"، ولبنان!!!

 

لقد أعاد التاريخ نفسه وسمعنا الممثلة المصرية، صابرين، والتي ليس لها من اسمها نصيب كما يبدو، تقول على القناة المصرية "يجب أن نحتفل عندما تخرج الجزائر من المونديال" وطبعا ستخرج على يد فريق غير عربي، أي عن طريق (فرناندوا وايزابيلا جدد، وإن كانوا لاعبي كرة قدم). ولم يكن ذلك موقفا فرديا بل جندت الحكومة المصرية جميع الفنانين وغير الفنانين ليضربوا على هذا الوتر، بل أن المذيع كان أكثر تطرفا من (صابرين) فدعا الله أن لا يدخلوا المونديال أساسا!!

 

الغضب المصري لم يكن من الجزائريين فحسب، بل من "العرب" الذين لم يبدوا (تعاطفا) مع مصر الرسمية، كما لو أن مصر في حرب مع الكيان الصهيوني. وعبر بعض ممن استطلعت آراؤهم قبل المباراة (ام بي سي)، عن رغبتهم في انتصار الفريق الجزائري. وسبب التعاطف العربي، أو بالأحرى بعض العرب مع الجزائر وليس مصر، هو الموقف المصري الرسمي من غزة، وما جرى أثناء العدوان الصهيوني على القطاع، ومحاصرة مليون ونصف المليون مسلم عربي في غزة حتى اليوم، وتعذيب فلسطينيين في مخافر الداخلية المصرية، إلى حد القتل كما حصل مع شقيق أحد قادة حماس، وهو سامي أبو زهري.

 

ولم يكن الموقف الجزائري بأفضل حال، فقد زعموا أن هناك قتلى من الجزائريين بعد خسارة الفريق الجزائري في القاهرة، وأنه تم "الاعتداء على اللاعبين الجزائريين عندما كانوا في طريقهم من المطار إلى الفندق" وأن "الفريق الجزائري لعب مقابلة القاهرة تحت ضغط الإرهاب" وهو ما استنسخته الآلة الإعلامية المصرية الرسمية بعد مقابلة الخرطوم، وزعمت أن هناك جرحى واعتداءات على الفريق المصري وعلى المشجعين المصريين، بطريقة تبدو كما لو أن عدوانا جزائريا شن على المشجعين المصريين، وهو ما نفاه الجانب السوداني الذي ناله من البهتان الشيء الكثير، وقد وصف السودان ب "البلد غير الآمن "وأن " السلطات السودانية قصرت في حماية الفريق المصري والمشجعين المصريين " لكن تلك الآلة سرعان ما تراجعت وكالت المديح للسودان، بعد أن استدعت الخارجية السودانية سفير مصر لديها للاستفسار عن سبب إدخال السودان في التهريج والردح الإعلامي بين الجزائر ومصر الرسميتين، وبعد أن شكر الرئيس حسني مبارك السودان.

 

العجيب والغريب أن البلدين من أكثر البلدان التي تشهد حوادث عنف، سقط فيها عشرات الضحايا (...) ولم نر كل هذا الهذيان الإعلامي والجنون العصبي. ففي البلدين تقع حوادث مميتة يذهب ضحيتها العشرات والميآت، ولم نر هذا الهياج الأعمى وغير المسؤول، سواء حوادث انهيارات المباني على رؤس ساكنيها، أو صدام القطارات، أوغرق البواخر بحمولتها من عباد الله. فكيف يسكت عن تلك الفضائع وتقام الدنيا ولا تقعد من أجل 9 أو حتى 20 مشجع تعرضوا لاعتداءات من الفريق الآخر. كما لو أن شوارع مصر والجزائر خالية من العنف والعنف المضاد. كما لو أن الجزائريين والمصريين معززين ومكرمين في بلدهم، ونحن نعلم ما يحدث في سجون البلدين من انتهاكات بشعة تفوق ما حدث في أبو غريب وغوانتانامو على يد غير عرب وغير مسلمين. بينما الذين مارسوا تلك الفظائع من غير المسلمين، لا يفعلون ذلك ببني جلدتهم، ويفعل العرب ببني قطرهم ما لا يفعله الآخرون بأنفسهم. وقد عذب جزائريون ومصريون في غوانتانامو ولم نسمع أي رد فعل عن ذلك سواء في مصر أو الجزائر، بل هناك مواطنون عرب نقلوا إلى دول عربية من أجل التعذيب، ولم نسمع أي احتجاجات!!!

 

لقد دافعت بريطانيا وكندا وفرنسا ودول أخرى عن مواطنيها المتجنسين، والمتهمين بالإرهاب، ولم تفعل ذلك أي دولة عربية وتحديدا مصر والجزائر. ولذلك نقول للبلدين أوقفوا الضرب على وتر الوطن والوطنية الزائفة والمزيفة، وكفى تدنيسا للوطنية الحقة، فالانسان لا قيمة له عندكم، ولا يختار من يحكمه، وليس له حق التعبير والتنظيم، وإذا سمح له ففي حدود وبمواصفات يحددها من لم يختاره الشعب ولم يخوله الشعب. وزعم ذلك، كذب محض. ولأنهم لم يحركوا ساكنا وهم يرفعون مواطنيهم في مسالخ أقبية وزارة داخلياتهم، ولم يتدخلوا لوقف تعذيب مواطنيهم في أوربا وأميركا، يصبح من السماجة والدجل السياسي والإعلامي الزعم الغيرة على المشجعين المصريين والجزائريين، وهم يلقون من العدوان من قبل رجال الدرك، والأمن العام، والأمن المركزي، في بعض المقابلات الكروية الداخلية أضعاف أضعاف ما تعرضوا له في القاهرة والخرطوم. ويبقى التفسير الوحيد لذلك هو محاولة التغطية على الفشل، بل التغطية على الفساد المستشري في البلاد العربية، ولا سيما مصر والجزائر، وهما من الدول العربية التي تزوجت فيها السلطة والمال، وولد (بنصب اللام) وولد (بتشديد اللام) المحسوبية والفساد. ومن المفارقات أن تكون الجزائر ومصر في نفس المرتبة في سلم الفساد وفق معايير الشفافية الدولية، وهي المرتبة 116. ولأن كلا البلدين يشكوان من الفساد والمحسوبية، وفشل الخيارات المجتمعية والاقتصادية والثقافية حتى أصبح رأس مال مصر (100 سنة من الفن تمثيل ورقص وغناء وحسب) ورصيد الجزائر تضحيات المجاهدين دون مراعاة لقيمة تلك الدماء التي سالت ووضعها في الحسبان عند ممارسة السلطة وتقسيم الثروة. وبالتالي لم يبق للنظام العربي الرسمي، وهنا الجزائر ومصر كمثال، سوى المراهنة على انجازات كروية لإشغال الشعب بفرحة قصيرة، ومتلاشية حتما.

 

ويبقى السؤال قائما، ماذا لوكانت دولة أخرى غير مصر والجزائر لعبت مع الطرف المقابل، أي ماذا لو كانت موزمبيق (مثلا) هي التي فازت على مصر أو الجزائر وحصل في ملعبها وشوارعها ما حصل في القاهرة والخرطوم، هل كنا سنشهد طواحين الهواء الدانكيشوتية في القاهرة والجزائر، حتى أن البعض ممن كانوا يحسبون على الطبقة الواعية في عالم الفن الرابع والسابع، تساءل لماذا لم ترسل مصر كتيبة من القوات الخاصة إلى الخرطوم؟!!!

 

والحقيقة هي أن الجزائر في مقابلة القاهرة، أرادت أن ترمي الكرة في ملعب مصر، حتى لا تتحمل غضب الشعب من هزيمة فريقها في القاهرة. وفعلت مصر الشئ نفسه بعد عدم نجاح الفريق المصري في الوصول إلى المونديال، لرمي اللوم بعيدا عن الحكومة حتى لو أدى ذلك لزرع اسفين من الحقد والكراهية والتباغض ليس من السهل نزعه سريعا بين بلدين وشعبين شقيقين. هل تراهن الرئيسان المصري حسني مبارك والجزائري عبدالعزيز بوتفليقة على الفوز، مما أغضب الأول في الأخير، كما أغضب الثاني بعد هزيمة القاهرة، فأمر بزحف الجزائريين إلى الخرطوم حتى فاق عددهم عدد المصريين مرتين. فلا شيء يفسر ما جرى ويجري على الصعيد الإعلامي سوى ذلك، لا سيما وأن الإعلام المصري ما فتئ يكرر، الرئيس زعلان الرئيس زعلان، حتى فكرت في وضع هذه العبارة كعنوان للمقال؟!.

 

هل عملية الاستثمار في الكرة لتحقيق أهداف سياسية، وراء ما جرى من تدمير للعلاقات بين البلدين الشقيقين، إلى حد وصف فيها الجزائريون بالبربر، والمصريون بالصهاينة؟!!!

 

مطلوب من الجميع التوقف عن العبث بمستقبل الأمة، والتوقف عن زرع الأسافين بين أقطارها، فلا الجزائر ولا مصر يمكنها الفوز بكأس العالم. وإذا كان (الانتصار) الحالي سيجمع (الشعب) فهل (الهزيمة) القادمة ستفرقه؟!!!. فلا تجعلوا بيضكم في سلة قابلة للزوال، بل إن ما يوحد الشعب هو العقيدة والعدل والنزاهة وتكافؤ الفرص، وجعل الأمة مصدر السلطات بعد النص ثابت الدلالة صحيح الثبوت. وجميع (البطولات) والكؤوس لا تساوي كلمة "مصر" أو "الجزائر"، فكفانا هوانا وفرقة وكفانا خصومات جاهلية، نقحم فيها الفن، والاقتصاد، والاعلام، والسياسة، ميادين ليست ميادينها، بل هي دمار وفناء لكل تلك المقومات الهامة والتي تحتاجها الأمة. وليكن التنافس ليس في الكرة بدون تعصب جاهلي فحسب، بل في تقديم النفع للأمة، والتقريب بين أقطارها، وتوحيد كلمتها، و(لما لا)، شعوبها وقضائها، وعملتها، وجوازات سفرها، وجعل ثروات الأمة في خدمة أفراد الأمة، وليس الأجندات الشخصية والتوريث، والاحتفاظ بالسلطة على حساب الأجيال وأشواق الأمة ومستقبلها.

أخيرا.. لقد أفسدتم السياسة وأفسدتم الرياضة.. وبفضلكم تسيست الكرة وتكورت السياسة.