اتفاقية دايتون محل نقاش بعد 14 عاما على توقيعها
6 ذو الحجه 1430
عبد الباقي خليفة
ليس هناك اتفاقية دولية حول دولة من الدول في العالم أثارت جدلا منذ توقيعها وحتى يوم الناس هذا، مثل اتفاقية دايتون للسلام في البوسنة، التي وقعها في 21 نوفمبر 1995م رؤساء البوسنة وكرواتيا وصربيا، علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله، ( 1925 / 2003 ) وفرانيو توجمان ( كرواتيا مات بالسرطان سنة 1999 ) وسلوبودان ميلوشيفيتش ( مات في السجن التابع لمحكمة لاهاي سنة 2006 ) ، وضمنت الاتفاقية عدة دول في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.
وقد تبين عوار الاتفاقية المفروضة سريعا، حيث حصل الصرب على كيان أشبه ما يكون بالدولة المستقلة، سرعان ما بدأت تتقوقع داخل حدودها وفق اتفاقية دايتون ( 49 في المائة ) متناسية أنها جزء لا يتجزأ من البوسنة، وعملت كثيرا على النأي بنفسها عن المؤسسات المركزية للدولة، مثل السعي للسيطرة على ممتلكات الدولة وإصدار قرار من البرلمان المحلي بذلك، وعلى إقامة مؤسسات موازية لها في "جمهورية صربسكا " وفق اسمها في اتفاقية دايتون، مثل إقامة شركة خاصة بالطاقة. والتهديد من حين لآخر بتنظيم استفتاء على الاستقلال، رغم أن اتفاقية دايتون التي تتحجج بها لا تسمح لها بذلك. وأثناء المحادثات التي جرت بين كبرى الأحزاب السياسية في الشهور القليلة الماضية سعى صرب البوسنة لتمرير طلب حق الانفصال وطالبوا من بقية الأحزاب غير الصربية الموافقة على ذلك، في محاولة لنزع اعتراف بالانفصال، وهو ما لفت الانتباه على المستوى المحلي والإقليمي والدولي إلى خطورة كيان صرب البوسنة على الأمن والاستقرار الدائم في منطقة البلقان وشرق أوربا، بل القارة الأوروبية والسلم الدولي عموما. لاسيما أن صرب البوسنة يرفضون أي تغيير في اتفاقية دايتون، ويصرون على البند الرابع في الاتفاقية الذي يحيل أي تغيير، لاتفاق داخلي، بين الكيانين الصربي والفيدرالي، وبالتالي يرفضون فرض أي اتفاقية لإصلاح دايتون، رغم أن اتفاقية دايتون نفسها كانت مفروضة هي الأخرى من جهات خارجية في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
وبعد فشل كل الجهود الذاتية للتوصل إلى اتفاق بخصوص الإصلاحات التي يطالب بها الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، بدأت الجهات الغربية مساعي للتوصل إلى الإصلاحات المطلوبة حيث عقد يوم 9 أكتوبر الجاري مؤتمر دولي لهذا الغرض. وقد أمهل ممثلو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية قادة الأحزاب البوسنية السبعة الكبرى من الطوائف الثلاثة البوشناق والصرب والكروات مدة 10 أيام لبلورة موقف محدد من مشروع الإصلاحات الذي تم إعداده لهذا الغرض، والذي وصفته بعض الدوائر بالهام، بينما أطلقت عليه أخرى وصف العملية التجميلية. وقد شهدت قاعدة بوتمير ( إحدى ضواحي العاصمة البوسنية سراييفو ) اجتماعا ضم زعماء كبرى الأحزاب السياسية السبعة، بحضور مفوض شئون توسيع الاتحاد الأوروبي، أولي ريين، وزير خارجية السويد كارل بيلت التي ترأس بلاده الاتحاد الأوروبي حاليا، ونائب وزيرة الخارجية الأميركية جيمس شتاينبيرغ. وأوضح مفوض شئون توسيع الاتحاد الأوروبي أن مهامه وبقية ممثلي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تتمحور حول " تغيير الدستور " وتابع " أعددنا استراتيجية للتغيير وهذا يعني أننا سنتحدث في ما من شأنه أن يحقق تقدما، على صعيد الاندماج في الاتحاد الأوروبي "وأكد على أن المحادثات ستستمر، وستتطرق إلى جميع الإصلاحات المطلوبة وفي مقدمتها إصلاح الدستور. وقال رئيس حزب العمل الديمقراطي، سليمان تيهيتش " إصلاح الدستور، شرط مهم لتوحيد الدولة ، وهذا الاجتماع من شأنه وقف عرقلة الإصلاحات المطلوبة التي ستقودنا إلى الاندماج في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي " وطالب تيهيتش بوجود محكمة دستورية عليا، تقضي في الخصومات السياسية وغيرها من القضايا الاستراتيجية كما في معظم دول العالم . في حين تطرق الدكتور حارث سيلاجيتش عضو مجلس الرئاسة وزعيم حزب " من أجل البوسنة " إلى أهمية " إلغاء التصويت على الإصلاحات داخل برلماني الكيانين الفيدرالي والصربي، والتي اعتبرها أكبر عقبة في طريق الحل السياسي. وقال " من المهم جدا أن تكون ممتلكات الدولة في مقدمة خارطة الإصلاح" بينما لم يبد صرب البوسنة ولاسيما حزب، الاشتراكيين المستقلين، الذي يقوده رئيس وزراء صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، أي حماس لتغيير الدستور ويصرون على ما وصفه دوديك نفسه بـ"إغلاق مكتب البعثة الدولية التابعة للأمم المتحدة" ويرى دوديك أنه لا يمكن لصرب البوسنة تحقيق المزيد " نحن غير مستعدين لمناقشة أي قضايا من شأنها أن تهدد الامتيازات التي تتمتع بها، جمهورية صربسكا" ولأن صرب البوسنة ينزعون للانفصال وينتظرون الوقت المناسب لذلك فقد أعرب دوديك عن موقف يؤكد ذلك " جمهورية صربسكا ليس لديها رغبة في تغيير الدستور ولكن يمكننا الاستماع لأفكار الآخرين " كما لو أن جمهوريته دولة مستقلة. وأشار إلى أن الاجتماع " كان فرصة لتوضيح موقفنا حيال تغيير الدستور، بأننا غير معنيين ، وأن البند الرابع في اتفاقية دايتون يشير إلى أن مؤسسات جمهورية صربسكا وليس الأحزاب من يحق لها إعطاء رأيها في تغيير الدستور " وأكد دوديك الذي يعتبر " أخطر من زعيم صرب البوسنة سابقا رادوفان كراجيتش " وفق بعض المصادر على أن اجتماعات بوتمير لم تتطرق لمسألة إغلاق مكتب البعثة الدولية وتركزت على " تغيير الدستور، وممتلكات الدولة، ونظام التأشيرة " ووصف الاجتماع بأنه " كان مونولوغ ( متحدث واحد ) وليس حوارا ( ديالوغ ) " ورفض أن يكون للأوروبيين والأميركيين دور في تغيير الدستور " لأنهم لم يصوتوا عليه " حسب تعبيره . وهدد بمقاطعة المحادثات إذا استمر الأوروبيون والأميركيون في التدخل في الإصلاحات الدستورية ، رغم أن اتفاقية دايتون من إنتاجهم. وكانت الجولات السابقة من المحادثات الداخلية حول إصلاح الدستور قد انتهت إلى لا شيء، بعد أن تقدم دوديك بطلب إعطاء صرب البوسنة الحق في اجراء استفتاء على الانفصال عن البوسنة . وقال أن ما وصفهم بالأجانب لا يمكنهم فعل شيء " نحن لا نرغب في تدخلهم لإصلاح الدستور ولا يمكنهم ذلك " وقال بأن أي " تغيرات يجب أن يوافق عليها برلمان صرب البوسنة "
في حين أعربت الأحزاب الكرواتية عن أملها في أن تساهم مساعي تغيير الدستور في منح الكروات ما وصفوه بالحقوق ، لكنهم أكدوا على أن مطالبهم لن تتحقق بين عشية وضحاها . وقال رئيس " التجمع الكرواتي الديمقراطي " دراغن تشوفيتش " الكروات لا يمكنهم القبول بحل جديد يبقي البوسنة مقسمة بين كيانين "
المسئولون الأوروبيون والأميركيون لم يرغبوا في الحديث عن سير المفاوضات ، لكن وزير خارجية السويد كارل بيلت ذكر بعد إلحاح من الصحافيين ذكر أنه " لا بد من تحقيق إصلاح في الدستور من أجل التقدم إلى الأمام ، فهناك مسائل في الدستور لا بد من حلها لإرساء السلام " وتابع " لا نرغب في بقاء البوسنة متأخرة عن مسيرة دول المنطقة ، ولا نرغب في أن تستثنى البوسنة من نظام إلغاء تأشيرة دخول مواطنيها لدول الاتحاد الأوروبي " وهو ما أشار إليه مفوض شئون توسيع الاتحاد الأوروبي أولي ريين . أما شتاينبيرغ فقد أوضح بأنه " يجب على جميع الأحزاب أن تدرك أنها لن تحصل على جميع مطالبها ".
وما يخشى منه حقا أن يتم إرضاء الصرب مرة أخرى على حساب البوشناق المسلمين، بمنحهم حق التصرف في ممتلكات الدولة، بل في ممتلكات الوقف التابع للمشيخة الإسلامية ومنها مساجد، وكان الصرب قد حولوا مسجدا إلى مقهى يباع فيها الخمر في تربينيا، شرق البلاد. إضافة لمنحهم امتيازات تخول لهم السيطرة على الأمن ولاسيما الاستخبارات، والقضاء، وشرطة الحدود، كما هو الحال الآن، وكان المسلمون قد احتجوا في وقت سابق على الجهات الدولية، ولاسيما الأميركية، واشتكوا من سياسة عدم الثقة فيهم من قبل الغرب.