الإيمان .. والواقع
15 ذو القعدة 1430
د. خالد رُوشه

[email protected]

لا يمكن أن يتحدث شخص ما عن الإيمان فقط في ظل أماكن العبادة المخصصة لذلك أو أن يقلد العلمانيين الذين يحصرون الإيمان بالله في المساجد وداخل الغرف الشخصية فحسب !!

 
إن الإيمان هو واقع وحياة تنفيذية كما هو عبادة وقربى إلى الله سبحانه , بل إن الحياة كلها بظروفها المختلفة لا تكاد تصلح أو تفلح إلا بالإيمان بالله سبحانه وأن يعمها الإيمان ويضبط شئونها ويحدد مساراتها جميعا .
 
هؤلاء ينظرون إلى الدنيا والثقافات المادية نظرة مبتوتة عن العقيدة القلبية والدوافع النفسية الإيمانية لكل شخص , ويعتبرون أن الإيمان لا يمكن أن يكون مفيدا أو نافعا لإنجازات الحياة , بل ربما اعتبر بعضهم الدين ذاته شيئا إضافيا لكل امرئ بحسبه , ويرونه مستخدما لأغراض ذاتية إلى أقصى الحدود , تلك الأغراض التي تتمحور حول الراحة النفسية والطمأنينة القلبية وربما عزاء في المصائب !!
 
لاشك أن تلك النظرة السلبية قد غازلها بالكتابة كثير من الكتاب والباحثين والمفكرين المشاهير حتى صارت عند كثير منهم كأنها ثوابت لا نزاع فيها , ولاشك أيضا أنها نظرة خاطئة للإيمان وقاصرة عن معناه الصحيح الكامل الذي يحوي جميع معاني الحياة وجميع شئونها ..
 
فالإيمان هو الطاقة الدافعة للإصلاح في الحياة بجميع معانيه , حيث يصبح الإصلاح مخلصا نقيا يهدف إلى الصواب الخالص والنفع الحقيقي باحثا عن الثواب والرضا الإلهي , لا حيث تكون دواعي الإصلاح للمصالح الذاتية والمنطلقات الحزبية والمكانات والمراكز والمكتسبات الشخصية , فشتان بين دور المصلح المؤمن المخلص وغيره الباحث عن منفعته أو منفعة حزبه أو جماعته , شتان بينهما من حيث الأثر ومن حيث الثبات على المبادىء والقيم , ومن حيث نصرة الحق أو الانحياز في جانب الظالم !
 
والإيمان كذلك هو الطاقة الدافعة للإنجاز في الحياة , عندما يرى الإنسان دوره هو دورا بنائيا تنمويا مساعدا في نفع أخيه الإنسان ومشاركا في مسيرة التقدم والبناء الإيجابي الحضاري المؤثر .
إن التخلي عن الإيمان أثناء مسيرة الحياة هو تخل عن طعم الحياة ونورها وبصيص الأمل فيها ومعنى النجاح المتحقق في خطواتها .
 
بل إن الواقع أمامنا يشهد أن الذين ينحون قيم الإيمان ومبادىء الدين يسبحون في لجة منتهاها أسوأ من بداياتها , فهم لا يتورعون أثناء سني عمرهم عن الكذب والخيانة , والزور والتزوير , فيسيرون أعمالهم بالرشى , ويزينون أوقاتهم بالتميز عن الآخرين , ويجعلون هدفهم الأسمى تحقيق منافعهم مهما كان فيها من إهمال للعالم وإضرار بالعالمين !!
 
ولئن نظر هؤلاء إلى الغرب ورددوا مقولة مفادها أن الغرب متقن في أعماله , ناجح في إنجازاته , برغم عدم إيمانه , فالحق مجانب لمقولتهم ولاشك , والصواب بعيد عن رؤيتهم , فإنه لايستشعر قيمة الإيمان إلا من ذاقه , ولأن هذا الغرب يغلي من داخل قنينته المزينة من الخارج بجميع معاني الفشل الحياتي , فالنفعية والشخصانية هي المحور الأول الذي تدور حوله البنايات الإنسانية الغربية , حتى العلاقة بين الأبناء والآباء صارت نفعية ( فإذا أدى أحدهم دوره في النفع فلا قيمة له عندئذ وأمكن الاستغناء عنه ) , فنخر السوس الأسرة الغربية , وغابت النفسية الغربية حتى أصبحت نهما للانتحار والاكتئاب , وتشوهت العلاقات بين الذكر والأنثى حتى اقتصرت على الجنس والشذوذ , وصارت قيمة الإنسان الغربي تحددها قيمة الدولار ارتفاعا وانخفاضا مع حركة البورصة في كل دقيقة ..
 
إن الإيمان بالله سبحانه يعطي الإنسان قيمته مهما كان فقيرا , فهو مؤمن أن الغنى من الله وأن الرضا والقناعة برزقه تدعوه إلى عدم الصراع مع الناس وعدم حسدهم ولا كرههم , وإن كانت تدعوه أيضا للبحث عن الرزق , لكنه أثناء بحثه ذاك يتحرى الحلال , فلا يظلم ولا يسرق ولا يرتشي , بل يتوكل على ربه ويدعوه أن يبارك له فيما رزقه ..
 
والإيمان بالله يدعو الصانع والزارع والمدير والمسئول إلى إتقان عمله , وآداء دوره بعلم وتميز , ودقة وإخلاص , إذ يعلم أن الله يحب منه إذا عمل عملا أن يتقنه , فهو يراقب فيه ربه قبلما يخرجه للعالم لينتفع به .
 
وللأسف فكثير من المسلمين يعرفون تلك المعاني ,. لكنهم لا يصطحبونها أثناء حركتهم في الحياة , بل إن بعض المتدينين ليقعون في ذلك النوع من الفصام البغيض والعلمانية الخفية حيث لا يصطحبون معاني الإيمان إلا في مساجدهم وحلقاتهم , بينما هم في ميدان الحياة يسيرون سير اللاهث وراء سراب قد سار وراءه قليلوا الإيمان !!