أحداث الضواحي في الجزائر.. هل هي بداية النهاية؟
8 ذو القعدة 1430
ياسمينة صالح

كانت الصورة مثيرة للصدمة، على الرغم من الجانب المتوقع منها، رغم من أنها لم تفاجئ أحدا في النهاية، إلا أنها بدت أشبه بالقشة التي سوف تقصم ظهر البعير الجزائري! لأول مرة منذ بداية الأزمة الأمنية بصورتها الحالية، ينفجر سكان إحدى مناطق العاصمة في ثورة سميت لأول مرة بثورة الضواحي الجزائرية، كانت الصورة مثيرة للدهشة، ربما لأنها جاءت لتعري الخطاب السياسي الرسمي الهارب إلى الأمام، ولتكشف حجم الغبن والمعاناة التي يعيشها المواطن الجزائري داخل بلده، وبأيدي مؤسسات رسمية ترى فيه مجرد "غاشي" لا يرتقي إلى مستوى الشعب. حرب الضواحي في منطقة "ديار الشمس" ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، لأنها ببساطة أشبه ما تكون ببداية النهاية!لقد وجد الجزائريون أنفسهم أمام واقع مرعب، قادهم منذ أكثر من عشرين سنة إلى الإفلاس بأكثر من شكل وعلى أكثر من وجهة، حيث لم تتراجع الأزمات التي تعاني منها البلاد، إنما زادت حدتها، ليس أولها أزمة السكن ولا آخرها أزمة البطالة والعنف اليومي بكل أشكاله. لقد وجد الجزائري البسيط نفسه بين سنديان السلطة ومطرقة الأوضاع المعيشية المتدهورة، والتي تبدو الأزمة الاقتصادية العالمية كأنها جاءت لتزيدها تدهورا يدفع ثمنه المواطن نفسه، في غياب بديل حقيقي لم تنجح التشكيلات السياسية الهشة في تحقيقه، لأنها مجرد استنساخ رديء ومشوه من السلطة نفسها، فالتغيير في الجزائر يبدو بعيدا، لهذا بدأ المواطن يشعر بالضغط، وأنه يخسر سنواته مجانا، وأن الدولة التي ينتمي إليها تعتبره مواطنا درجة ثانية لأنه فقير ولا ينتمي إلى الأثرياء الذين يسكنون الأحياء الراقية النظيفة التي لا تنقطع عنها الكهرباء ولا الماء، وتعيش وضعا أمنيا مطلقا، في الوقت الذي يوجد فيه المواطنون البسطاء في غيتوهات بنتها الدولة لأجل حبسهم فيها، لا ساهمت في تحسين وضعهم ولا منحتهم تأشيرة السفر ليرموا أنفسهم في البحر بكامل أوراقهم الرسمية!

 

انتفاضة الضواحي، بداية الغضب؟
عندما انفجرت أعنف الأحداث الشعبية في تشرين أول/ أكتوبر 1988 من القرن الماضي اكتشف الجزائريون كذبة الوطن القوي والسلطة القوية.. تساقطت الشعارات الرنانة الواحدة تلو الأخرى، بيد أن الثورة لم تكن قبل ذلك اليوم من الشعب إلى الشعب، بل كانت ـ منذ الاستقلال ـ من السلطة ضد الشعب، يقودها الحرس القديم الذي يأبى التنحي إلا بالموت!فقد كانت الجزائر الفتية بعد الاستقلال عرضة لجملة من الصراعات الداخلية التي لم يكن يشعر بها المواطن العادي الغارق في يومياته، لكن سرعان ما خرجت الصراعات إلى السطح بين أجنحة السلطة التي تشكلت طوال أربعين سنة على أكتاف الفقراء والبسطاء باسم ذات الشعار نفسه" الثورة من الشعب إلى الشعب"! حتى والشعب يكتشف مؤسساته التي ينخرها العجز والبيروقراطية والمحسوبية والعنصرية أحيانا، وحتى و نفس المواطن يتصادم مع واقعه الذي حوّله من عامل بسيط إلى شخص فقير لا يستطيع أن يصرف على أبنائه من راتبه البائس، في الوقت الذي يبذر الكبار وأبنائهم ملايير الدينارات على سعادتهم الشخصية وسفرياتهم الاستجمامية، وعلى وقارهم، و على هواياتهم و على الحفلات والمسخرة التي حوّلتها جهات رسمية إلى مهرجانات ثقافية تحمل شعار " الفرح و البهجة" أمام أعين شعب يتفرج على تبذير المال العام تحت مسميات غريبة وغير مقنعة للقول له" طالما أنت تحتفل فأنت بخير!" إلى أن حدث الغضب الشعبي في تلك السنة، ليخرج الشباب إلى الشارع مطالبين بحق الكرامة التي اختلسها منهم اللصوص الرسميون تاركين إياهم يشحذون التأشيرة (الفيزا) عند بوابات السفارات الأجنبية التي لا تقصر في إهانتهم و البصق عليهم يوميا، فالمواطن الذي لا تحبه دولته لن تحبه سفارات الدول الأخرى!
منذ أول انتفاضة للضواحي في الجزائر عام 1988 لم يتغير في الأفق الكثير، لكن المصالح تغيرت، والنهب صارت له أساليب أكثر فبركة وتطويرا، على حساب المشاريع الأساسية التي لم تصل إلى البسطاء سوى على الورق. واحد وعشرون سنة منذ ذلك التاريخ، كبر الأطفال الصغار وصاروا رجالا. إنه الجيل الجديد الذي يرفض الظلم، يرفض التهميش، ويرفض أن تعامله الدولة كما لو كان مخربا أو إرهابيا، أو ناقص وطنية! إنه جيل له أساليبه الخاصة للتعبير عن نفسه، وللقول أن الصمت لم يعد يجدي، وأن العنف الذي ينخر الأحياء الكثيرة في الجزائر ما هو إلا انعكاس للوضع المتردي الذي همش الإنسان والمدينة على حد سواء. لقد صار المواطن قادرا على الغضب، فعلها في ثورات صغيرة هنا وهناك في مناطق كثيرة من البلد حيث كانت الثورات الشعبية تعبر عن حنق المواطنين من أوضاعه المزمنة، وإن وصلت تلك الثورات الصغيرة إلى السلطات على شكل "نوبة عصبية" كما وصفتها إحدى الصحف الصفراء البائسة، إلا أنها بدأت تتكرر في جهات كثيرة، ولم تعد تطالب بالتغيير السطحي، بل بالتغيير الجذري الذي بموجبه يمكن أن يستعيد المواطن كرامته وكيانه وخبزه وحقه في الحياة وفي الفرح. كان بإمكان الرجل الأول في البلاد أن ينزل إلى الناس ليقول لهم: " أريد أن أسمعكم"!لكن آذان السلطة الرسمية انسدت ، ولم تعد قادرة على الإصغار سوى إلى صوتها، ولم تعد قادرة على مشاهدة سوى صورتها، إلى درجة تبدو غير مكترثة للجثث التي يأكلها البحر لجزائريين يهربون على متن قوارب الموت، وصل الأمر إلى هروب كبار السن على ذات القوارب التي تنتهي غالبا إلى الغرق في عرض البحر. صورة السفن البحرية الإسبانية أو الإيطالية التي تعيد الجثث إلى الجزائر لم تهز السلطة، بدليل ألا أحد نزل إلى الناس لسؤالهم عن مشاكلهم (التي تخرم عين الشمس) ولا عن طريقة حلها وفق ما يجب أن تكون عليه دولة يجب أن تكون محترمة!
أحداث "ديار الشمس" التي انفجرت الأسبوع الماضي في العاصمة الجزائرية لم تكن مجرد أحداث عادية أو طارئة، بل كانت ثورة غضب ضد التهميش والتنكيل النفسي الذي مورس على المواطنين منذ الاستقلال. لا أحد أصبح قادرا على الصمت أكثر مما صمت، والبلد تبدو ماضية إلى الغموض في سياق الشعارات التي لم تعكس في يوم من الأيام الهباء والعبثية كما صارت تعكسها اليوم، فأن يقول الرجل الأول في البلاد أننا في بلد العزة والكرامة عليه أن يثبتها للجزائريين أنفسهم من خلال قرارات حقيقية تصب في مصلحة الشعب، ولا تصب في مصلحة الأسياد الذين حولوا الشعب إلى عبيد!العزة والكرامة معناه ألا يجد المواطن البسيط نفسه مضطهدا داخل البلدية لمجرد أنه يريد مقابلة رئيس البلدية، العزة والكرامة معناه ألا تمد المرأة الحرة يدها على الرصيف ليقتات أبناءها، العزة والكرامة معناه ألا يهان المواطن بأرضه على رصيف السفارات الأجنبية وأمام مرأى من الدولة التي ترى في تلك الإهانة شيئا عاديا لا تستحق التعليق عليها! العزة والكرامة معناه أن يأخذ الشاب حقه من خيرات البلاد، حقه في السكن والعمل كي لا يضطر إلى الهرب (إلى دول أجنبية ليست لها خيرات الجزائر) على متن قارب الموت ليموت في عرض البحر وتعود جثته أو نصف جثة إلى الوطن أمام أعين المسئولين. العزة والكرامة معناه ألا يعتدي أبناء الأثرياء على أبناء البسطاء باسم "شرعية السلطة والقوة" وألا يسجن شاب فقير لأنه أراد أن يستعيد كرامته من ابن مسئول أهانه !العزة والكرامة معناه ألا تضطر الأسر الجزائرية الاقتيات من المزابل في دولة النفط والغاز، فعندما يشعر الجزائري أنه أصبح محترما داخل بلده، سيكون من السهل وقتها أن يستجيب لطلب الرئيس حين يقول له " ارفع رأسك أنت جزائري"! بانتظار ذلك، تحولت الثورات الشعبية العفوية التي يقودها شباب عاطل عن العمل وعن الحلم وأمهات حرائر يرفضن رؤية أبنائهن يركبن على متن قوارب الموت دون رجعة، إنها بداية النهاية على ما يبدو!