كيف يفكر استراتيجيو أمريكا بشأن أفغانستان؟
7 ذو القعدة 1430
أمير سعيد







الذي يقرأ السجال اللفظي الذي جرى في جلسة النقاش الاستخباري الأمريكية التي عقدت بجامعة نيويورك مؤخراً، وضمت ستة من الخبراء في الدفاع والاستراتيجية ومراكز البحوث الأمريكية، وعرفت باسم "مناظرة سكوير الاستخبارية"، ونشرتها نيوزويك في 27/10/2009، سيعاين حيرة تتملك الاستراتيجيين الأمريكيين حول ما ينبغي أن تفعله الإدارة الأمريكية في أفغانستان.

وسيلحظ قدرة على الدوران حول الأسباب الحقيقية للأزمة التي تعانيها واشنطن دون الولوج إليها، رغبة ـ طبيعية ـ في تحقيق مصلحة ممولي الإدارة الأمريكية وأساطين صناعاتها ونفوذها دون النظر بالتأكيد للشعب الأفغاني وآماله، لكن لن تخطئه بعض المعطيات الحقيقية الحاكمة لسياسة واشنطن في أفغانستان، وسيخرج بانطباعات كتلك التي يخرج بها من يستمع إلى اللصوص يختصمون عند "الغنيمة" فتنجلي الحقائق..

ومن ثنايا المناقشات تبدو الصورة أكثر وضوحاً؛ فإذا السجال يفضي إلى التعريف أكثر بمبررات استمرار الاحتلال الأمريكي في أفغانستان أو محفزات انتهائه؛ فما يمكن استخلاصه من أسباب تضمنتها المناظرة تدعو إلى عدم الانسحاب من أفغانستان يمكن إيجازها فيما يلي:

1 ـ عدم قدرة باكستان على القيام بالدور الوظيفي الذي تأمله الولايات المتحدة منها في جنوب شرق آسيا، وبالتالي استمرار الحاجة للوجود الأمريكي المباشر في أفغانستان، وإلا ظلت هذه المنطقة خارج السيطرة الأمريكية.

2 ـ ضعف رد الفعل الناجم عن التزوير في الانتخابات الرئاسية، ما يعكس رضا مبدئياً عن النظام الأفغاني، والوجود الاحتلالي. مع أن هذا لا يعبر ـ في نظري ـ في الحقيقة إلا عن وعي أفغاني شعبي بهشاشة الوضع الرسمي الأفغاني، وزهد الأفغان في تلك الانتخابات وما ينتج عنها، وبالتالي عدم التعويل عليها خلافاً لما استشهد به ستيف كول، كبير المسؤولين التنفيذيين بـمؤسسة نيو أميركا للأبحاث من النموذج الكيني قبل عامين والذي أسفر التزوير الانتخابي فيه عن حدوث اضطرابات وأعمال عنف.

ولكن على كل حال؛ فالأمر مطمئن للأمريكيين بهذا الانطباع عن سلبية الأفغان في كابول والمناطق الرئيسية المهمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

3 ـ مساعدة باكستان في القيام بالدور المنوط بها في وزيرستان ووادي سوات، وتأمين عملاء الاستخبارات الأمريكية الذين يشاطرون الولايات المتحدة الأمريكية المعلومات حول خلايا "الإرهاب" المفترضة، وإلا فكيف يمكن أن يستمر التواصل مع شبكات الدعم الاستخباري الباكستانية والأفغانية ما لم تؤمنها القوات الأمريكية كما يرى جيمس شن، المساعد السابق لوزير الدفاع للشؤون الآسيوية عامي 2007ـ2008، إذ يجادل بأن "المعلومات الاستخباراتية التي نحصل عليها عن أفراد القاعدة ومرافقيهم في تنقلاتهم تأتينا من شبكات يديرها أفغان وباكستانيون. وإذا ما خرجنا من تلك المنطقة، فلماذا بحق السماء سيواصل هؤلاء تشاطر معلوماتهم الاستخباراتية معنا؟".

4 ـ تدريب الجيش الأفغاني والبقاء ريثما يتمكن من القيام بدوره وحده دون الحاجة إلى مساعدة أمريكية، والاستمرار في مساعي "تهميش" طالبان، ونشر "الاستقرار".

5 ـ لدى الولايات المتحدة الأمريكية القدرة لتبقى في أفغانستان لحين إجبار الناس للكونجرس على الانسحاب منها، بحسب ستيف كول، كبير المسؤولين التنفيذيين بـمؤسسة نيو أميركا للأبحاث.

 

ومن أخرى، تدعو إلى الانسحاب من أفغانستان، تتلخص فيما يلي:

1 ـ إرسال المزيد من القوات، وتحديداً 40 ألف جندي إضافي كما يريد القائد العسكري الأمريكي الأعلى في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال، سيفضي إلى فيتنام جديدة في أفغانستان كما يؤكد ضابط الاستخبارات العسكرية السابق الكولونيل المتقاعد من الجيش باتريك لانج، والذي يصر على أنه بعد سنوات سيعود الأمريكيون إلى القول بأنه لا يمكن إيقاف "حركة تمرد" بهذه الطريقة.

2 ـ التوريط الصيني للولايات المتحدة الأمريكية، هو أحد نجاحاتها المستمرة في تقويض أحلام الولايات المتحدة في آسيا، والتي أرغمت في أفغانستان على إنفاق 65 مليار دولار سنوياً، وهو ما يستشهد به ستيفن كليمونز الباحث الشهير في مؤسسة نيو أميركا للأبحاث حين قال: "قبل بضع سنوات حين كنت في الصين، ذهبت للقاء [مخططي السياسة الخارجية للحكومة هناك]، فقلت لهم: "ما الذي تعملون عليه الآن"؟ فقالوا: "نعمل على الكيفية التي نبقيكم أنتم منشغلين في بلدان شرق أوسطية صغيرة".

وهو يلحظ بالمناسبة أن هذا الرقم المهول من الإنفاق، هو أعلى بكثير من الدخل القومي لأفغانستان نفسها، وبذلك هو قادر على تغيير نمط السيطرة على هذا البلد من العسكري إلى التنموي.

3 ـ الجدلية التي سيعاد من جديد ترديدها، وهي حول ما إذا كانت طالبان تستحق بالفعل كل هذا العناء كحركة أفغانية، وهل تمثل عدواً استراتيجياً للولايات المتحدة أم لا؟! ويجيب البعض عن ذلك بأن طالبان كانت الحاضنة أو المقر للإرهابيين لكننا انشغلنا بترتيب المكان عن الإرهابيين الذين هربوا منه، وهو ما يعطي يعزز الآراء التي توافق على فتح قنوات اتصال وتفاوض مع الحركة تحت مظلة العداء للقاعدة لا لطالبان.

4 ـ مقاتلو طالبان هم ذوو عقيدة قتالية دينية، حفزتهم على قتال أقوى دولة في العالم، وهذا بدوره يعني أنهم يمثلون عدواً جديراً بأن يظل مقاتلاً عنيداً دون أن يكون ثمة داعٍ من استمرار استفزازه، وهذا ما يرنو إليه رالف بيترز الضابط المتقاعد من الجيش الأمريكي حين نص على أنه "لا يقوم أحد بالانضمام إلى حركة لمواجهة أقوى جيش في التاريخ وأن يضحي بنفسه من أجل ما يمكن اعتباره الحد الأدنى من الأجور بالمعايير الأفغانية. ونحن ندفع أكثر مما تدفع طالبان. لماذا لا يصطف الأفغان للانضمام إلى الجيش الأفغاني؟ لماذا يضطر جنودنا وأفراد قوات المارينز التابعة لنا إلى الذهاب إلى الحرب وحيدين، بل والأسوأ من ذلك، لماذا يكون عليهم أن يحترسوا لتجنب قيام الأفغان الذين معهم بإطلاق النار عليهم من الخلف؟"، ولاشك أن صدور هذا التحليل من بيترز المؤلف والمحلل الاستراتيجي في شبكة فوكس التلفزيونية اليمينية، وصاحب الدراسة الشهيرة في مجله ارمد فورسز جورنال فى يونيو 2006 بعنوان حدود الدم، والتي "بشرت" بالحدود الجديدة التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن ترى العالم الإسلامي عليها، يعني أن تراجعاً تكتيكياً يراه أنجع في التعامل الأمريكي مع ملف أفغانستان، وطالبان على وجه الخصوص.

الجدل إذن مستمر، والذي دعا إليه يقيناً هو قدرة حركة طالبان على الصمود، ومباشرتها استراتيجية استنزافية بعيدة المدى، وتكتيكاتها التي حدت بالصحف الغربية إلى مدح بروس ريدل، ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق، الذي نسق جهود مراجعة إدارة أوباما لسياسة أفغانستان ربيع هذا العام، من حيث يشعر أو لا، زعيم حركة طالبان الملا عمر حين قال: "إنه أمر محير. هذا الرجل شبه الأمي الذي لم يلتق سوى بعدد ضئيل من غير المسلمين في حياته كلها، يحقق أكبر النجاحات العسكرية في العصر الحديث"، وفقا لنيويورك تايمز 11/10/2009، وأيضاً، وهو ما لا يمكن تجاهله بحال، أن طالبان ـ كما تؤكد بعض المصادر ـ ليس بالضرورة تقاتل بالوكالة لمصلحة جهات أخرى قد تكون الاستخبارات الباكستانية، وقد تكون الصين كما يبدو في حديث ستيفن كليمونز السابق، وإنما على الأقل ربما تشاطر تلك الجهات بعض أهدافها.

تخشى الولايات المتحدة من استمرار الاستنزاف كما يبدو، لكنها في المقابل وحسب خبراء آخرين ليست مضطرة الآن للانسحاب، ولديها من القدرات العسكرية والاقتصادية على الاستمرار، وربما كان ثمة من يساندها اقتصادياً في حربها المكلفة في أفغانستان، وهو ما يترجح في ضوء الابتزاز المستمر من واشنطن لدول ثرية في حروب الولايات المتحدة تحت ذرائع مختلفة.

وتريد واشنطن انتهاء الحرب في أفغانستان، لكنها لا تريد أن تخسرها وتمنى بهزيمة تعيد عقارب الساعة لزمن الحرب الباردة، لكن ربما الأهم لديها أنها لا تريد أن تستسلم لإقامة دولة دينية كافحت نشأتها في كثير من بلدان العالم الإسلامي، وليست مستعدة لقبولها إلا بتوافق مع تلك الدولة وضمانات معينة قد لا يوفرها الملا عمر لها في الوقت الحالي، وانسحابها من شأنه أن يفتح شهية آخرين لتكرار نموذجها لاسيما في البلدان التي تشهد احتلالاً أجنبياً كالعراق وفلسطين وغيرها.

ويظل فك الارتباط بين طالبان والقاعدة هو مطلب أولي للأمريكيين لابد أو تتلوه أخرى، وتبقى نظرة الحركة لمستقبل أفغانستان وباكستان والعلاقات مع دول الجوار و"المصالح الغربية" في أفغانستان مسألة لا تعرف التنازل لدى واضعي السياسة الأمريكية تجاه هذا البلد الفقير الذي يعاني الحروب نتاج وقوعه على خط الاستراتيجيات الدولية السريع!!