تقرير جولدستون...يكشف ويفضح!!
16 شوال 1430
د. ياسر سعد







 تقرير القاضي الدولي جولدستون، وما نتج عنه من مواقف وتصريحات، سيشكل مفصلا كبيرا في المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وسيستخدم ولفترة قادمة من الزمن في معرض نقاشات واتهامات سياسية محتدمة ومشتعلة، ولإثبات وجهات نظر ودحر أخرى. ولعل مما أحرج الكيان الصهيوني وحلفاءها في موضوع التقرير، والذي أشار بوضوح إلى اقتراف "إسرائيل" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حربها على قطاع غزة، كون القاضي الدولي جولدستون يهودي صهيوني ترأس لجنة أصدقاء الجامعة العبرية في جنوب إفريقيا، ولذلك لا يمكن توجيه التهمة "الإسرائيلية" الجاهزة دائما لصاحب التقرير، بمعاداة السامية أو انه منحاز للعرب وللفلسطينيين.

التقرير الدولي أعاد التأكيد، وإن كان بوضوح شديد هذه المرة، على النفاق الغربي وازدواج معاييره واستخدام الغرب لحقوق الإنسان كأداة سياسية في سعيه للهيمنة وتوسيع النفوذ. فالغرب الرسمي الذي يبكي وينتحب على حقوق الإنسان في دارفور لم نسمع له في موضوع التقرير ولو حتى همسا. أما ساركوزي والذي أعلن في حملته في انتخابات الرئاسة عن إتباع دبلوماسية حقوق الإنسان لم نر له موقفا ولو باهتا من الانتهاكات الإسرائيلية في غزة وهو الذي خطب في العام الماضي الكنيست مادحا "إسرائيل" وقيمها. أما المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو، والذي كان متحمسا ومندفعا لمحاكمة الرئيس السوداني بزعم ارتكاب جرائم حرب، فقد التزم الصمت المريب في مواجهة تقرير كان نتاج دراسة وبحث من شخصيات دولية وبتكليف أممي.

وإذا كان إصدار التقرير، على أهميته مضمونا وسابقة، لم يحظ دوليا وعربيا بما يستحق من الاهتمام والمتابعة، فإن تأجيل التصويت عليه في مجلس حقوق الإنسان في جنيف كان بمثابة القنبلة المدوية والتي عرت الموقف الأمريكي تماما، وفضحت تواطؤ السلطة الفلسطينية وبشكل أحرج من يقف في صفها، مما دفع بوزير اقتصادها باسم خوري إلى تقديم استقالته في حين اعتبرت وزيرة الشؤون الاجتماعية ماجدة المصري أن ذلك الموقف أضر بمصلحة الشعب الفلسطيني.

الموقف الأمريكي الضاغط بشدة على السلطة الفلسطينية أصاب الشارع العرب بخيبة أمل كبير في إدارة أوباما، أوباما الذي خاطب العرب والمسلمين بمصطلحات جديدة ناقض نفسه من خلال مواقفه المؤيدة للانتهاكات "الإسرائيلية" والداعمة لها. فبعد تراجع الإدارة الأمريكية عن مواقفها من الاستيطان "الإسرائيلي" وتحوله إلى النقيض بطلبها من العرب التطبيع مع الكيان الصهيوني وتقديم الدعم السياسي للسلطة الفلسطينية –بالتغطية على تنازلاتها المخزية- جاء الموقف الأخير من تقرير جودلستون لينسف مصداقية إدارة أوباما فيما يتعلق بسياساتها في المنطقة. هنا يجد المواطن العربي تفسيرين للموقف الأمريكي، فإما أن أوباما ظاهرة صوتية ونمر من ورق لم يتحمل ضغوط اللوبيات الداعمة لـ"إسرائيل"، أو أن سياسة الرجل متطابقة في الجوهر مع سياسة سلفه بوش من حيث التحالف مع الاحتلال "الإسرائيلي" ومساندة اعتداءاته والتغطية على انتهاكاته.

موقف السلطة الفلسطينية والذي تسبب بشكل رئيسي في تأجيل مناقشة التقرير، كان مخزيا وفاضحا، وستكون له تبعاته الكبيرة والتي قد تتوج بانتفاضة شعبية ضد سلطة أدمنت تقديم التنازلات الكبيرة والتغطية السياسية على جرائم الاحتلال بل والتحالف معه في قمع المقاومة ونزع سلاحها وتصفية رجالها.

التخبط الكبير والتصريحات المتناقضة لرموز سلطة عباس كشفت عن المأزق العميق والذي وجدت السلطة نفسها فيه بعد موقفها المشبوه في جنيف. التقارير والتي تحدثت عن ضغوط أمريكية و"إسرائيلية" على السلطة والتهديدات بعقوبات اقتصادية موجعة عليها، أمور إن صحت تثبت أن السلطة عديمة المناعة السياسية وضعيفة القيم الأخلاقية وهي غير مؤهلة للتفاوض مع الاحتلال، فهي إن فشلت هنا فكيف ستنجح في مفاوضات ما يسمى بالوضع النهائي.

ثمة شكوك بأن الضغوط هي التي دفعت السلطة لهذا الموقف المعيب، فلا الإدارة الأمريكية والتي تحتاج للدعم العربي والدولي في مواجهة إيران ولا "إسرائيل" والتي تتطلع للتطبيع مع الدول العربية، يمكنهم اتخاذ خطوات وعقوبات تستفز الشارع العربي وتوحد الصف الفلسطيني وتحرج الأنظمة "المعتدلة". فإذا لم تكن الضغوط هي السبب، فإن تهمة التواطؤ والمصالح الشخصية والمنافع المادية الفردية سترتفع بوجه رموز سلطة رام الله. وهنا يجد المرء نفسه مرغما على استذكار اتهامات القدومي الخطيرة بمسألة تصفية عرفات، وقنبلة ليبرمان والذي أعلن فيها بأن السلطة الفلسطينية كانت تضغط على حكومة الاحتلال لمواصلة حرب غزة.

من شر قدر سلطة عباس، أن موقفها المخجل في جنيف تزامن مع إنجاز حماس في تحرير الأسيرات الفلسطينيات ومن مختلف الفصائل، لتكون المقارنة سهلة وواضحة لرجل الشارع الفلسطيني، بين سلطة تقدم أرواحها ورجالاتها من أجل تحقيق انجاز فلسطيني وأخرى تتاجر بدماء الشهداء ومعاناتهم وتضحياتهم.