جهاد الشعب الفلسطيني بين الممكن الذاتي وتحديات التصفية ومخاطرها
28 رمضان 1430
هشام منور

لعل من مميزات المشهد السياسي الفلسطيني اكتنازه بالمفارقات والمقارنات على صعيد كل من الحدث والتاريخ والمكان. فعلى سبيل المثال، كان موعد اندحار آخر جندي صهيوني من غزة تحت وقع ضربات المقاومة في الثالث عشر من شهر سبتمبر، هو ذات التاريخ الذي أعلن فيه عن ولادة مشروع اتفاقيات أوسلو، بموجب سلسلة طويلة و«مظلمة» من المفاوضات السرية والشاقة التي عقدها مسؤولو السلطة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، تلك الاتفاقات التي لم تكد تر النور حتى انطفأت "وئدت" بنقض صهيوني متوال لمجمل تفاصيلها، ما لم نقل لجميعها.

اللافت للنظر في مجريات الأحداث المتسارعة مؤخراًَ، ومن خلال قيامنا بحفر تاريخي صغير في ذاكرة الأمة والمنطقة، أننا نستطيع أن نعقد مقارنة "غريبة" على هيئة مخطط بياني بلونين مختلفين، شكلاً ومضموناً، يمثل الأول صعود تيار المقاومة الجهادية التي يمارسها الشعب الفلسطيني منذ اضطلاعه بدور «النذير» للأمة حيال أخطار المشروع الصهيوني على المنطقة والأمة، بل والعالم بأسره، وتنامي القدرة والكفاءة القتالية، في الوقت الذي نلحظ فيه مؤشراً آخر يمثله النظام السياسي الرسمي العربي، ومن ورائه أنظمة الحكم في الدول الإسلامية، في تراجع واضح وملموس حيال موقفه من القضية الفلسطينية.

 ففيما قدم النظام العربي بيضته الذهبية الوحيدة إبان نكبة فلسطين عام 1948 ووجّه جيوشه «التي كانت في معظمها من المتطوعين» إلى فلسطين لمحاربة الكيان الصهيوني. فإن النظام السياسي العربي، في معظمه، تخلى بعد ذلك طوعاً أو كرهاً، عن دوره في دعم جهاد الشعب الفلسطيني وصموده، وانشغل بقضاياه وشؤونه الداخلية، بل وهرول إلى إعلان الولاء للولايات المتحدة من خلال التطبيع مع «إسرائيل»، ونستطيع أن نقرأ خطه البياني «الهابط»، في مقابل صعود مؤشر المقاومة والجهاد للشعب الفلسطيني، وتنامي التأييد له في أرجاء الأمة.

ماذا يعني ذلك؟ وإلام يفضي بنا؟ وما السر من ورائه؟.

هل نحن أمام تفسير علماني يساري «يبشر» بانتصار قوى البروليتاريا على أعداء الشعب ومستغليه خارجياً وداخلياً؟. أم أمام تحليل سياسي استراتيجي يمنح «الجماهير العربية»، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، وسام الشجاعة لاستلامه زمام المبادرة والمواجهة، في ظل عجز سياسي رسمي؟. أم أننا في أمام تفسير تشاؤمي يرى في تنامي قدرة الأمة على الجهاد والصمود والمقاومة وتحقيق النصر على أعدائها «طفرة آنية» لا تلبث أن تزول مع حلول أول موسم «لجني الثمار» بالنسبة للعدو؟ أم نحن أمام «صحوة» إسلامية تؤوب بها الأمة إلى رشدها، وتزداد تمسكاً بدينها حيال المخاطر المستقبلية التي تتهددها؟.

إننا إزاء تهافت الطروحات المتقدمة لدرجة عدم الانشغال بمناقشتها وتحليلها والرد عليها، نسأل المتمسكين بالطرح أو التفسير الأخير: هل كان الشعب الفلسطيني بعيداً عن التمسك بدينه والالتزام به حتى جاء ما دعوه بـ«الصحوة» لترده إلى رشده، وتصوّب مسيرة جهاده ضد المحتل، وهو الشعب المفعم بالإيمان والنابض في أرض النبوات والرسالات، الأرض المباركة (فلسطين)؟.

 وإذا كانت الانتصارات التي حققتها مقاومة الشعب الفلسطيني وجهاده إزاء المحتل، ترد إلى صحوة هذا الشعب مؤخراً ورجوعه إلى دينه وتمسكه به، فهل تكشفت مقومات هذه الصحوة فيه فقط دون بقية فئات الأمة، مما أدى إلى فهمه لحقيقة دوره في مواجهة العدو؟. وبعبارة أخرى: هل كان الشعب الفلسطيني الوحيد الذي استثمر بوارق الصحوة الإسلامية التي عمت أرجاء الأمة، بحيث أنه تمكن من توظيفها في سياق صراعه الوجودي مع العدو الصهيوني؟ وأين كانت سائر الأمة أثناء ذلك؟ ولم عجزت، إن صح التحليل، سائر شرائح الأمة الأخرى عن إدارة الصراع مع أعدائها الداخليين والخارجيين على النحو الذي نجح فيه جهاد الشعب الفلسطيني من تحقيق ذلك؟.

لن نأتي بجديد إن تحدثنا عن وجود تأييد رباني خاص بتوجيه جهاد الشعب الفلسطيني وتصويبه حال تراجعه من حيث الزمان والمكان. إن حضور الفعل الإلهي في غزة أولاً، وسائر فلسطين بإذن الله تالياً، لا غرو كان واضحاً وجلياً، كما أنه كان مندرجاً في سياق السنن الربانية في الوقت ذاته.

لقد ترسخ في المخيال الجمعي للأمة أن اضطلاعها بواجب الجهاد الشرعي والدفاع عن حرمة أراضيها إزاء أي عدوان، هي مهمة «رسمية» بالدرجة الأولى، إن جاز لنا التعبير، أي أن إعلان الجهاد والدفاع عن الحرمات يجب أن ينطلق من إشارة الإمام العام للمسلمين أو خليفتهم، وجعلوا منه واجباً وحقاً له في الوقت ذاته، لا يجوز الافتئات عليه، وإلا عوقب المتعدي بأشد العقوبات، والواقع أن «الجهاد» بمفهومه الشرعي قد خضع للعديد من التبدلات على مستوى الممارسة، فرغم كون الدفاع عن الأرض والعرض إزاء الغازي والمعتدي يندرج ضمن باب «دفع الصيال» من أبواب الفقه الإسلامي، إلا أنه يعدّ جهاداً شرعياً ومأجوراً بإذن الله أيضاً، وظلّ «الجهاد» على صعيد الفهم والممارسة ينزاح باتجاه اعتباره واجباً شرعياً على سائر أفراد الأمة دون التوقف على إذن الإمام الأعلى للمسلمين أو إعلان النفير من قبل الخليفة، بحكم وقوع الأمة منذ الغزوات الصليبية والمغولية في جانب الدفاع عن حرماتها ومقدساتها في وجه الغزاة، وترسخ بالتالي مفهوم "الجهاد" في الذهن والوجدان المسلم على أنه ممارسة شعبية عفوية لواجب مقاومة الغازي والمحتل، بصرف النظر عن وجود القائد العام لهذا الجهاد «الخليفة» وإذنه، بحكم ضعف مركزه وتقلص نفوذه وسلطاته في ذلك الوقت.

 وفي ضوء افتقار معظم الأنظمة العربية والإسلامية إلى مفهوم الشرعية السياسية، وكون معظمها جاء نتيجة انقلابات أو ثورات بيضاء أو حمراء، وربما برتقالية في المستقبل كما في أوروبا الشرقية، فقد سمح هذا الوضع الجديد بتحول «الجهاد» مفهوماً وممارسة باتجاه اعتباره شأناً شعبياً جماهيرياً، وتعزز ذلك مع سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924. وهنا يسجل للشعب الفلسطيني تنبهه إلى هذه الحقيقة واضطلاعه بممارسة الجهاد والمقاومة حتى في ظل تخاذل الأنظمة السياسية عن مباشرة هذا الدور، وتحفظ لنا ذاكرة التاريخ أن هزيمة أعداء الأمة كانت تسجل على أرض فلسطين، وتشهد على انكسار الغزاة على أبواب حصونها وتحت وقع مقاومة أبنائها، من «حطين» إلى «عين جالوت»، إلى انكسار مشروع نابليون الامبريالي على المنطقة على أسوار عكا المنيعة.

ويمكننا بالتالي في محاولة سريعة أن نحلل العوامل الموضوعية والذاتية التي أدت إلى نجاح جهاد الشعب الفلسطيني إزاء عدو الأمة، وفي سياق ذلك، أن نتلمس بعض ملامح الخصوصية والتفرد الفلسطيني الذي أفضى، بالإضافة إلى عوامل أخرى موضوعية، إلى تحقيق النصر الأخير في غزة.

تبرز ملامح الخصوصية والفرادة في الهوية الفلسطينية في كونها هوية ثرية بمكوناتها ومقوماتها، وفي الوقت نفسه، متشاركة في مجمل هذه المقومات مع عدد كبير من الدوائر التي ينتمي إليها هذا الشعب. ويعد الدين الإسلامي في هذا الصدد أحد أهم مكونات هذه الهوية، ما لم نقل أهمها على الإطلاق، وقد ساعدت تجانس تركيبة الشعب الفلسطيني على المستوى الديني (مسلمون سنة وأقلية مسيحية معظمها شرقي، وينتمي إلى كنيسة مقرها القدس ذاتها) على رصّ الصف الفلسطيني وتجنيبه مزالق اللعب بالورقة الدينية أو الطائفية أو المذهبية.

وعلى الرغم من التدين الفطري الذي يشتعل في صدور أبناء فلسطين بسبب عوامل عديدة، إلا أن اللافت للنظر أن معظم تيارات المقاومة والجهاد في بدايات ما عرف «بالنضال  الفلسطيني المسلح ضد العدو» ظلت تستبعد «الإسلام» وتغيبه عن أسلحة المواجهة مع عدو يتمترس باليهودية وتعاليمها في مواجهتنا.

وعاد «الإسلام» ثانية إلى المقدمة في خوض الصراع مع العدو، وهو الذي لم يغب على المستوى الشعور والوجدان الشعبي، مع انطلاق الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى وبروز تيارات مقاومة جديدة تتخذ من الإسلام مرجعية أساسية لها في مواجهة العدو (الجهاد الإسلامي وحماس). وتكمن خصوصية المشهد الفلسطيني في هذه النقطة بالذات من خلال القدرة على فهم النصوص الشرعية واستيعابها، ومن ثم القيام باستثمارها وتوظيفها بشكل فعال في خضم مواجهة العدو، فكانت مقدمة سورة الإسراء (بنو إسرائيل) على سبيل المثال، حافزاً لإنجاز الوعد الإلهي بدخول المسجد الأقصى كما دخله المسلمون أول مرة زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، وإساءة وجهه في كل محفل.

وتم تنبيه الأمة على مكانة فلسطين والمسجد الأقصى في الإسلام والديانات السماوية كافة، والتركيز على مفهوم الرباط الدائم في أرض النبوات والرسالات: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس) رواه الإمام أحمد في مسنده.

ورافق الإسناد الإسلامي، على المستوى الشعبي، الذي حظيت به القضية الفلسطينية إسناد شعبي عربي يرجع إلى فشل المشاريع الغربية في تغييب رابطة اللسان والدم وإزالتها، وقدرة الجماهير العربية على تجاوز هذه المخططات، دون إغفال دور الصحوة الإسلامية التي عمت أرجاء العالم العربي في تفعيل ذلك.

فضلاً عما امتاز به الشعب الفلسطيني، وبشهادة أعدائه، من مواصفات مميزة أسهمت بقوة في ثباته على حقه وصموده في وجه طغاة الأرض وجبروتهم، فالشعب الفلسطيني، ودون أن تأخذنا في ذلك عصبية أو شوفينية، شعب ذكي وصبور، شجاع حتى في أحلك المواقف، يتمتع بذاكرة حية أفشلت على مدار السنين ما تمناه قادة الكيان الصهيوني (بن غوريون) حيال قضيته: «الكبار سوف يموتون والصغار سوف ينسون». بالإضافة إلى القدرة العالية على الإبداع والابتكار وتنويع أساليب المقاومة إلى الحد الذي أوصل فيه عدوه إلى اليأس في مواجهته، وتمني قادته أن يستيقظوا يوماً فلا يجدوا غزة مثلاً إلا وقد ابتلعها البحر.

ولا يمكننا في هذا السياق إغفال دور عوامل أخرى أدت إلى تحقيق هذا النصر ونجاح مقاومة الشعب الفلسطيني خلال الفترة الماضية، منها على سبيل المثال، الدعم الشعبي العربي والإسلامي لقضية شعبنا، وبروز بؤر جديدة لمقاومة المشروع الأمريكي العربي على الأمة (العراق وأفغانستان), واهتزاز صورة الكيان الصهيوني وفقدانه لمصداقيته أمام الرأي العام العالمي.

إلا أننا رغم ذلك يجب ألا تنسينا فرحة الانتصار هول المخاطر والتحديات التي تنتظر شعبنا وجهاده، والتي يمكن تصنيفها إلى عدد من المستويات:

 

 

1- مخاطر أو تحديات داخلية

تتمثل في خطر تفتيت وحدة الصف الفلسطيني والوقوع في فخ الحرب الأهلية في ظل محاولات العدو المستمرة لنثر بذور الفتنة والشقاق بين صفوف الشعب الفلسطيني، وهو ما يسعى إليه العدو الصهيوني بكل قوته، فالطريق إلى القدس لا تزل طويلة. ويبرز أيضاً خطر شرخ وحدة الشعب الفلسطيني بين غزة والضفة والشتات، وإقناع كل جهة بالانكفاء على مشاكلها ومعالجتها حتى تسهل محاصرتها كل على حدة. ويرتبط بذلك ما يبشر به العدو ويضغط من أجله بوساطة أمريكية وأوروبية من أجل إعلان قيام دولة فلسطينية مؤقتة في قطاع غزة، وهو ما يعني تصفية القضية الفلسطينية ومقاومة الشعب الفلسطيني وجهاده، وهي السياسة التي يجيد الكيان الصهيوني تنفيذها بإتقان.

 

2ـ مخاطر أو تحديات إقليمية ودولية

 ويمكن تلخيصها في زيادة الضغوطات المستقبلية على كل من السلطة وفصائل المقاومة من قبل الدول العربية ومنظومة الدول الغربية؛ من أجل إنهاء حالة المقاومة وإقناع الشعب الفلسطيني بقبول ما تحقق حتى الآن، ونسيان باقي حقوقه وأراضيه المحتلة، وهناك هرولات التطبيع من قبل بعض الدول العربية والإسلامية التي فقدت أي مشروعية لها في نظر شعوبها، ولم تعد تقوى على البقاء في مناصبها دون الحصول على البركة الأمريكية عن طريق الاعتراف بدولة الكيان والتطبيع معه. وتبرز أيضا قضية استنزاف طاقات الأمة، التي تشكل الإسناد الموضوعي لقضية الشعب الفلسطيني، من خلال حروب ونزاعات متفجرة هنا وهناك.

لقد حقق الشعب الفلسطيني انتصاراً تاريخياً في غزة، ونجح من خلال اتباع أسلوب الجهاد والمقاومة في دحر الكيان الصهيوني عن أرضه وتحطيم مشاريعه الاستعمارية (أرض إسرائيل الكبرى) على سبيل المثال، ورغم يقيننا بأن الجانب المعنوي والنفسي لهذا الاندحار سوف يظل أكبر منجزات هذا الاندحار في ظل ما يشوبه من محاولات لتفريغ النصر من مضمونه، إلا أن المهمة القادمة تكمن في المحافظة على زخم الانتصار وتوظيفه في سياق استكمال تحرير كامل الأرض. ويبقى أن السلاح الأمضى الذي لا تملك أي جهة انتزاعه أو مصادرته من خيارات الأمة، هو سلاح الصمود والثبات في وجه المحتل، فعقارب الزمن لا تعود إلى الوراء، وكرة الثلج في الدرب الهابط لا تتوقف عن التضخم أو الدوران.