تعقيب على لقاء (المسلم) مع الشيخ د.عوض القرني حول الديمقراطية
14 رمضان 1430
إبراهيم الأزرق

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فإن مما تقرر عند أهل الإسلام شمولية الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتفصيلها الأحكام كما قال ربنا تعالى: (وكل شيء فصلناه تفصيلاً) [الإسراء: 12]، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [النحل: 89]، (ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [يوسف: 111]، (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) [الإسراء: 9]، قال صاحب الأضواء بعد أن استرسل في تفسير هذه الآية: "ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة؛ لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم، لقوله تعالى: (وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا) [الحشر: 7]، وكان تتبع جميع ذلك غير ممكن في هذا الكتاب المبارك، اقتصرنا على هذه الجمل التي ذكرنا من هدي القرآن للتي هي أقوم تنبيهاً بها على غيرها والعلم عند الله تعالى"، وليتأمل من شاء ما كتبه صاحب الظلال على قوله تعالى: (يهدي للتي هي أقوم)، أو ليكتف بحديث سلمان رضي الله عنه لما قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟! فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم[1].

 

 

فشريعة جاءت تعلم هذا هل تغفل نظام الحكم وشأن تولية الإمام؟ لا أحسب أن أحداً استنار بنور العلم يقول هذا، ومن قرأ كتب السياسة الشرعية وقف على إجماع أهل السنة على بعض طرائق التولية التي سلكت في العهد الأول، وإنما تقول هذا طائفة من العلمانيين وأخرى ممن ذهبوا ليستنيروا بنار الغرب فحجبت أدخنتها عقولهم عن رؤية ما وراءها، وتأثر بهم بعض المتأسلمة حتى صرح بعضهم بأن الدين لم يجئ بسوى محددات كلية وقواعد إجمالية قابلة للصهر في بوتقة المجتمع العصري.

وهذا كله مما نجل مقام فضيلة الشيخ عوض القرني –زاده الله هدى- عن التلوث به، بل هو في منأى عنه نحسبه كذلك والله حسيبه، فالشيخ عندي غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل.

 

 

أما الإشكال الذي ظهر في الحوار فإشكال لحظته في العقد الأخير، بدأ في إشهاره بعض الأفاضل من أهل العلم منذ سنوات قليلة، ولعله ينحصر في تصورهم للديمقراطية أولاً، ثم في إشكاليات على التصور الذي يستسيغون استنساخه في عالمنا الإسلامي.

 

 

 

أما التصور فالشيخ -بورك فيه- يعلم أن الديمقراطية ليست نظاماً لتولية الحاكم فحسب بل هي آلية لاختيار الحاكم وانتخاب المشرعين الذين يليهم سن التشريعات الدستورية والتعديل فيها... فهي في النهاية وسيلة لاختيار النظام الذي يرضى الشعب أن يحكم به، وتعريفها الذي ينصون عليه هو: حكم الشعب، وبعضهم يقول: حكم الأغلبية، وفلسفتها قائمة على جعل السلطة العليا للشعب، والشعب يمارس سلطته بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال نظام يمثله عادة ما يتم تشكيله دورياً وفقاً لانتخابات حرة.

 

 

 
وهي كما ذكر الشيخ فلسفات كثيرة ولهذا لا يوجد لها تعريف موحد مفصل هو محل اجتماع مراقبيها، لكن تباينهم فيها لا يخرج عن النزاع في حدود تأثير الأغلبية على الأقلية أو ممثلي الجمهور على الكل، ومن مبادئها الأساسية التي لا تنفك عنها منذ عهد أرسطاطاليس الحرية والمساواة[2]، فللناس أن يختاروا نظام الحكم الذي شاءوا ثم هم أمامه سواسية فلا فرق بين عربي وأعجمي ولا مسلم أو كافر!

وهنا الإشكال فالشيخ يفترض ديمقراطية لا وجود لها تقوم على مبدأ الانتخاب بحيث لا تخالف تعاليم الشريعة، وهذا لا يكون وفقاً لمبادئ الديمقراطية، ولا يكون كذلك وفقاً للأحكام الشرعية:

 

 
أما مبادئ الديمقراطية فلأن الحرية والمساواة مبدآن أساسيان بالإضافة إلى ما يعدونه في القانون الدولي حقوقاً إنسانية فإذا انتُقص منها فاستثني من الانتخاب مثلاً مواطن لعرقه أو دينه لم تكن تلك ديمقراطية مرضية، وإذا ميزت التشريعات بين اثنين لجنسهما رجل أو امرأة لم تكن تلك ديمقراطية مقبولة وهذه المبادئ محل اتفاق في الجملة بين مراقبي النظم الديمقراطية في العالم.
 
ولذلك تجدهم في تقييم البلدان من حيث الديمقراطية يرصدون حوادث يرونها تشتمل على تمييز وخروقات للديمقراطية وبناءً عليها يقيم الوضع الديمقراطي في البلد المعني، ومن تأمل تقارير بيت الحرية The freedom House وتقييمهم للبلدان استبان هذا.
أما إذا كان النظام الانتخابي كيفما اتفق يسمى ديمقراطية في اصطلاح الشيخ فجل دول العالم العربي ديمقراطية إذاً حتى الملكية! لكن بضوابط وقيود يرضاها حكام كل بلد والمتنفذين فيه تعبر عن مفهومهم أو مصطلحهم للفظ الديمقراطية! كما أن للشيخ مصطلحه!
 
والمقصود أن تصور الشيخ للديمقراطية على أنها مجرد آلية انتخابية ثم الفلسفة تختلف من نظام لآخر تصور غير دقيق لا يوافقه عليه المراقبون الذي يجمعون على اشتراط مبادئ في أي ديمقراطية منها ما أشرت إليه.
ومما يبين التباس الأمر عند من يلغي كافة المبادئ الأساسية للديمقراطية ويجعلها آلية انتخابية فقط التمثيل بالديمقراطية الأمريكية وتقرير أنها تمثل ديمقراطية حقيقية ومع ذلك تقييد بعض الحريات التي يعدونها أساسية فلا تقبل بوجود حزب شيوعي لمخالفته العادات والتقاليد المعمول بها هناك، وهذا الظنّ إن صح لانتقص فعلاً أحد مبادئ الديمقراطية التي تعد محل اتفاق تقريباً، ولما أحرزت أمريكا في تقييم بيت الحرية أعلى الأرصدة للحريات السياسية والمدنية، ولا أدري من أين استقى الشيخ معلومته هذه! والواقع أن الحزب الشيوعي الأمريكي Communist Party USA (CPUSA) موجود قبل نحو تسعين عاماً، ولا يزال موجوداً وله نشاطه المحدود في ظل الهيمنة الجمهورية والديمقراطية على النظام الأمريكي كغيره من الأحزاب التي لم يعد لها تأثير أو تأثير ضعيف كحزب الخضر الأمريكي[3]، أما كون موارده المالية شحيحة ومنتسبيه قليلين ولا يملك ما يؤهله للمنافسة في الانتخابات الرئاسية فهذا شأن آخر لا تعلق له بحظره، وقد كان الحزب الشيوعي الحزب الأكبر في أمريكا ثم ضعف نفوذه منذ الخمسينيات[4].
 

ولو طبق نظام ينتقص من حدود الحريات بالمفهوم الأممي وكذا المساواة لما رضي المراقبون الدوليون بتسميته نظاماً ديمقراطياً، ولما ساوت تسمية الشيخ له ديمقراطية شيئاً عندهم، كشأن ديمقراطية بعض الساسة في عالمنا الإسلامي.

 

 
أما مصادمة تصوره –حفظه الله- للتشريع الإسلامي فمنشؤه ما رضيه من آليات الديمقراطية في الاختيار.
فبعد أن وضع الشيخ مقدمة أولى حاصلها أن الديمقراطية وسيلة لاختيار الحاكم والنظام وهذه الوسيلة من باب العادات أو المعاملات التي الأصل فيها الإباحة، وهذا ظاهر جوابه على السؤال الأول، وضع مقدمة ثانية وهي أنه لا يمكن أن يرضى مسلم بنظام ينحي الشريعة، لأن من قبل بذلك لا يعد مسلماً، بل هو أهل لأن يدعى إلى الإسلام، وهذا ظاهر من جوابه على السؤال الثالث والسؤال الخامس.

وللشيخ حفظه الله كلمات أخرى ربما فهم منها أنه لا يقبل أصلاً بتعددية تدخل حزباً كافراً في المنافسة، كجوابه على السؤال السادس وليس هذا بالبين في كلامه فالتعددية التي تدخل في الإطار الشرعي كلمة واسعة استوعبت في دولاً قريبة حتى الحزب الشيوعي وإن لم يجز تصويت المسلمين له أو دخولهم فيه، وكان ذلك بناء على آراء منظرين إسلاميين، يزعمون أن التعددية في العهد النبوي استوعبت في دولة المدينة أطياف اليهود! ولو لم يصرح الشيخ في جواب السؤال الثالث والخامس بما يفهم منه أن لغير الإسلاميين أن يترشح لالتمست لكلامه على ما قال في جواب السؤال السادس تخريجاً حسناً، وإن كنت أخالفه –ويخالفه العالم- في تسمية مثل هذه ديمقراطية، كما يخالفونه على جعل الانتخاب مجرد طريق لمعرفة توجهات الناس ومراداتهم لا الحكم.

 

 
وأما الجواب على ظاهر ما قرره الشيخ فبطريقين الأول: على طريق التسليم بمقدمتيه، فيقال: تقررت في الشريعة وسائل لتولية الحاكم هي محل إجماع نقله الماوردي وغيره كالعهد من إمام معتبر لمعتبر تتوفر فيه شروط الإمامة، أو باختيار أهل الحل والعقد، فهذان طريقان شرعيان لتنصيب إمام، وأما إمامة المتغلب بالقهر فتنعقد عند جماهير أهل السنة وحكي اتفاقاً استقر الأمر عليه، وإن كان للقهر حكمه الذي لا يؤثر على صحة الانعقاد.
 
والشريعة لا تقر في شأن التولية تسوية قول أهل الحل والعقد من العلماء وأصحاب الخبرة والشوكة بغيرهم من الجهال والفساق والدهماء، بحجة أن هؤلاء رجال وأولئك رجال أو نساء! بلغن السن القانونية للانتخاب! فكيف إن كان النظام الديمقراطي يقضي بالتسوية المسلم بالكافر والتقي بالفاسق والسفيه بالعاقل في هذا الشأن، والله تعالى يقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم كيف تحكمون) [القلم: 35-36]، إن الدعوة إلى تطبيق هذه الآلية أدنى ما فيها دعوة إلى غوغائية، قد يجتهد امرئ فيسوغها باعتبارها أخفَّ الضررين وخير الشرين بالنسبة لواقع بلد معين، أما أن يزعم شرعيتها بغير قيود يذكرها فتحت هذا ما فيه! وفيه كذلك ما فيه!!
ورفض هذه الغوغائية غير منحصر في اختيار الحاكم أو البرلمان أو المجلس التشريعي الذي يسن الدستور الحاكم للبلاد وقضائها فحسب، بل يجري هذا حتى في اختيار مشرعي القوانين التنظيمية والإدارية التي قد تدخل في باب المصالح المرسلة إذا كانت مبنية على نظر علماء الشريعة، فالمصالح المرسلة التي يحاول بعض الأفاضل الاستناد عليها في تسويغ الطريقة الانتخابية كيفما عرفها المستدل بها سواء قال هي: إثبات العلة بالمناسبة والسبق، أو معنى يشعر بالحكم مناسب له عقلاً، أو قال هي: المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق، أو قال: هي أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فكل ذلك لا يكون مرده إلى الرجرجة والدهماء، كما هو الشأن في آلية الديمقراطية الانتخابية التي تجعل ذلك حقاً لكثير منهم إما بطريقة مباشرة كالتصويت على تشريعات أو بطريقة غير مباشرة عن طريق اختيارهم ممثليهم، فنفس هذه الآلية لا تكفل تحقيق مقصود الله لا في التشريعات الحكمية القضائية، ولا في التشريعات التنظيمية الإدارية، ونظام الحكم الشرعي إنما هو لإقامة أمر الله في سائر شؤون الناس.
 

مع أن المصالح المرسلة قد تدخل القوانين التنظيمية والإدارية دون التشريعات القضائية الحكمية إلاّ في حدود ضيقة كالتعزيرات، والنظام الديمقراطي يتحكم في الأمرين معاً ما فيه نص وما هو محل اجتهاد، لكن لو قدر أنه في تعريف الشيخ حفظه الله أو اصطلاحه يتعلق بشأن الأمور التنظيمية والإدارية –وظاهر كلامه لا يفيد هذا- لما كان موافقاً للشريعة بل مخالفاً لها إذ يجوز أن يتولى الشأن غير أهل الشأن، فنفس النظام الذي يجوز هذا نظام غير شرعي، فهو يجوز ما يمنعه الشرع، فعلم أن نفس الوسيلة النابعة من آليات الديمقراطية غير مباحة.

 

 

 
وأما الجواب الثاني فبنقض مقدمتيه:
أما المقدمة الأولى فيقال في جوابها: إن تنصيب الحاكم من الواجبات الشرعية لإقامة مصالح شرعية ودنيوية وقد بينت الشريعة هديه صلى الله عليه وسلم في التأمير، فسلك صلى الله عليه وسلم والراشدون من بعده مسلك التعيين في الاستخلاف، وجعل الأمر شورى بين أهل الشورى، فما رجع إلى أحد هذين الطريقين فهو عمل بالواجب وأخذ بطريق شرعي، يلزم الناس الالتزام بمقتضاه والسمع والطاعة في المعروف لمن جاء به، وما لم يرجع إليهما، فليس بطريق شرعي ولا تلزم الناس طاعة من جاء بغير طريق شرعي إلاّ أن يتمكن ويقهر الناس.
 
وليس شأن اختيار المشرعين وسن التنظيمات وتنصيب الحاكم يرجع إلى العادات أو المعاملات بل هو عبادة معقولة المعنى قد يسوغ الاجتهاد في وسيلة تحقق المقصود غير منصوصة، لكن لا يؤذن في كل وسيلة ولو فرض أنها مباحة من حيث الأصل إلاّ إن اجتمع فيها ما يحقق المقصود، وهذا ما لا يكون في الديمقراطية، ولهذا لم يرتضِ المسلمون في عهود الراشدين الديمقراطية التي عرفت منذ عصور الإغريق، ورأوا أنها لا تعدل الشورى الإسلامية.
 
ثم إن الديمقراطية طريقة للحكم والتشريع، وتشريع الأحكام القضائية ونحوها حق الله لا يجوز أن نجعله حقاً لأحد من البشر كائناً من كان، والديمقراطية وسيلة تكفل حق التشريع لكل منتخب، فإن قيل لن تأتي بغير مسلم في البلدان الإسلامية لنفترض إمكان تنحية شريعة الله انتقالنا إلى نقد المقدمة الثانية التي بنا الشيخ عليها والاعتراض عليها من وجوه:
الأول: نفس إعطاء الحق، وتجويز الباطل منكر عظيم وإن لم يقع الباطل، فإذا قال قائل: أنا أجيز لتاجر أن يأتي بالخمر لكنه إن كان مسلماً كان آثماً بحاجة إلى الدعوى! بل لاستحق العقوبة على تجويزه هذا، لكونه شريكاً لذلك التاجر.
 
الثاني: ما كل مسلم بقادر على أن يقرر التشريع الرباني، ولا كل مسلم يقرر التشريع الرباني لو كان قادراً، فالديمقراطية قد تأتي بمسلم ليكون إماماً أو مشرعاً لكنه مسلم لا تجوز توليته لخلوه من الصفات المشترطة في الإمام، أو لخلوه من الصفات التي تؤهله للنظر في التشريع والحكم، إذ قد تجيء الانتخابات بجاهل إلى مجلس تشريعي.
 
 
الثالث: الحكم باستحالة أن يجيء كافر أو نظام كفري جراء انتخاب في بلد إسلامي مجرد دعوى، فليس بالمستحيل عقلاً أو شرعاً إتيان الانتخاب في بلد إسلامي بكافر، أما العقل فلا يمنع الإمكان، وأما الشرع فقد بنى الشيخ منعه على اعتباره الذي ينتخب من يحكم بنظام غير إسلامي ليس بمسلم أو بحاجة إلى الدعوة إلى الإسلام، وفي هذا نظر بل قد ينتخب المسلم غير الإسلامي لجهله أو لمصلحة ضيقة يراها بتأويل، ولست أدري كيف يعد الشيخ غفر الله له من ينتخب غير مسلم بحاجة إلى الدعوة إلى الإسلام، ولا يرى أن من يجوز له ذلك بتسويغه النظام الديمقراطي الذي يتيح هذا كيف لا يراه بحاجة إلى نفس الدعوة! ثم إن آلية الانتخابات الديمقراطية تجعل اختيار غير المسلم أو المشرعين غير الإسلاميين حقاً مكفولاً للأقليات التي قد تتفق على مرشحها ويختلف المسلمون على مرشحيهم الإسلاميين، فتكون النتيجة حكم غير المسلم أو الاعتداد بمشرعين غير مسلمين.
 
رابعاً: ما لا يمكن تخيله في اعتقاد الشيخ وفقه الله هو الواقع! فالديمقراطية قد جاءت في بلدانٍ الأغلبيةُ فيها مسلمة بنظم نحَّت الشريعة، بل أذنت في تنصيب رؤساء غير مسلمين على الأغلبية المسلمة كما في نيجيريا وفي لبنان وفي غيرهما! كما جاءت في دول نصرانية بنظم غير مراعية للديانة النصرانية بل بنظم أباحت من الشذوذ مثلاً ما لا يقره دين ولا عقل ولا فطرة، وفي إطار عالمنا الإسلامي فانظر للانتخابات الموريتانية القريبة في بلد يبلغ تعداد المسلمين فيه 100% تقريباً هل جاءت بالإسلاميين؟ مع اعتراف الإسلاميين المنافسين أنفسهم بأن الخروقات المسجلة أقل من أن تطعن في النتائج النهائية، وتأمل كذلك الشأن في باكستان وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً وغيرها!
 

فتبين مما سبق أن الشيخ بارك الله في علمه لم يوفق في تصور مبادئ الديمقراطية، ولم يوفق كذلك في الحكم على آلياتها المجردة وذلك بناء على ما أفهمته ألفاظه، ومع ذلك أقول ربما كان للشيخ تصور آخر للديمقراطية لم تسعفه العبارات والحوار المقتضب على بيانه كما يريد، لكنَّ هذا لا يخليه من عتب المحبين فقد علم أن من مدارك الشرع ترك الألفاظ المجملة والعبارات المحتملة، فكيف بالمنكرة، وقد واشتهر عن الإمام أحمد أنَّه قال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع"[5]، وذلك لأن التحدث بالألفاظ المجملة ليس من جادة أهل السنة، فالتحدث بها شيء، والحكم عليها مسألة أخرى مبنية على الاستفصال من مراد القائل.

 

 
وختاماً أقول لبعض الإسلاميين –وليس الشيخ منهم إن شاء الله- الذين ضاقوا ذرعاً بالأوضاع في بلدانهم قد يجدون في الديمقراطية مجالاً أرحب مما تتيحه لهم الأوضاع الديكتاتورية القائمة عندهم، أو هكذا يتصورون لكنّ ما أخشاه أن يكون هؤلاء كالمستجير من الرمضاء بالنار! وذلك لأن الناس ربما استساغت ما كانت ترفضه أمس باسم الديمقراطية، ورضيت بما كانت تأباه بنفس الذريعة وفي هذا خطر على الأمة وإن تقلص حيز الفساد، بالإضافة إلى أن الحكم في النظم الديمقراطية مرده إلى زمرة محدودة تشرع ما تشاء ولكن باسم الشعب! وانظر لفساد الديمقراطية الأمريكي في الجانب التشريعي من حيث مخالفته لشريعة الرحمن وكذا في الشق الإداري وتأمل كيف أفسد واستبد في العالم الإسلامي! فإذا صح أن هذا الإفساد جريرة شرذمة لا يوافقها الجمهور الذي انتخبها، أو وافقها مغرراً به فما الذي يكفل عدم إفسادها في الداخل؟ بل قد فعلته الديمقراطية؟!


[1] لفظ مسلم (262).
[2] لست في صدد توثيق النقول في هذا الصدد ولكن اختصاراً انظر مبادئها في:
وكذلك ما يتفقون عليه من حدها:
 
 
[3] بإمكان الشيخ أن يزور موقع الحزب ويتعرف على وجوده وعوائق فعاليته وفقاً لرؤية الحزب على الموقع الرسمي له:
[4] تفاصيل مستقلة تجدها عنه هنا:
[5] انظر صريح السنة ص26، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/355.