عبادة السيد نوح للمسلم : كانت أسرتنا في رمضان تعيش حالة من الربانية ..

 

دائما ما يكون شهر رمضان في بيوت العلماء والدعاة المخلصين الكبار مختلفا عنه في غيرهم من بيوت الناس , فتعلوا فيه معاني الإيمان وتزداد فيه نفحات البر والإحسان , ومحاولة من موقع المسلم للعيش بين تلك الظلال التقينا بالاستاذ عبادة وهو الابن الأوسط  لفضيلة الشيخ الدكتور السيد نوح رحمه الله العالم الداعية الذي بذل عمره وجهده معطاء في سبيل ربه حتى لقيه ثابتا على منهجه ودعوته . الاستاذ عبادة من مواليد الإمارات ومتخرج من جامعة الكويت تخصص صحافة . يعمل الآن سكرتير تحرير لمجلة الوعي الإسلامي بالإنابة وباحثا إعلاميا في جمعية الشفافية الكويتية . وقد عمل سابقا صحفيا بالمجتمع لمدة سنتين .

 المسلم :    كيف كانت أسرتكم في رمضان .. ؟

في الحقيقة كانت أسرتنا في هذا الشهر الفضيل تعيش حالة من الربانية ، فكنا نستعد بشكل مغاير بفضل توجيهات والدنا المربي السلوكي من حيث تدريب النفس على بعض العبادات قبل الشهر من صيام وصلاة وتفقه في الدين لتعميق فهمنا لكل عبادة نؤديها في هذا الشهر حتى نستشعر جمالها والتلذذ بها. كذلك كان الشهر فرصة جيدة لصلة الرحم من التقاء الجميع على مائدة الإفطار مع حرص الوالد على الدعاء بصوت مرتفع عند الإفطار ونحن نؤمن عليه.
- المسلم : وهل كان للشيخ بعض العادات الخاصة به في هذا الشهر الكريم ؟
بالنسبة لعادات الوالد الشيخ سيد نوح -يرحمه الله- الخاصة فكانت تتمثل في قيامه ليل الشهر كله بثلاث ختمات عن ظهر غيب واحدة منها إماما للمصلين في مسجد الجامعة حتى في ظروف مرضه الشديد قبل الوفاة بأشهر قليلة لدرجة أن بعض المصلين كانوا يتعجبون من ارادة هذا الرجل وعزيمته في المواظبة على إمامة الناس بالختمة، بالإضافة الى عنايته الشديدة بالبذل والعطاء والجود الخفي التي لا يعلمها احد حتى نحن أسرته..فقد عرفنا ذلك بعد وفاته ممن كان يساعده في توصيل هذه الأشياء، كذلك حرصه على مضاعفة دعم إخواننا المستضعفين في ثغور المسلمين بكل ما تجود به النفس لاسيما انه كان في كل صلاة جمعة أول المتبرعين بالمال الأمر الذي جعل المصلين يبذلون ما تجود به أنفسهم.
كما أن الوالد كان يسن في كل مكان يذهب إليه سنة حسنة في رمضان بداية من صلاة القيام في المساجد في الإمارات بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ومرورا بإفطار الصائم في الكويت أوائل التسعينيات، وأخيرا إحياء ليلة القدر بشكل مثالي في العشر الأواخر قلما تجده في أي مسجد.
-   المسلم :   حدثنا عن والدتكم الكريمة ... كيف كان دورها في دعم والدكم ومساندته في دعوته وعبادته؟
الوالدة – بارك الله في عمرها- كانت نعم المعين للشيخ في حياته الشخصية والعملية والدعوية، فهي جاهدة بنفسها ووقتها لتهيئة الجو والبيئة المناسبة لتأدية الوالد دوره على أكمل وجه في الدعوة إلى الله في هذا الزمان الصعب..فتخيل معي صبرها تقريبا 18 ساعة يوميا مع تربية الأبناء العشر ومع ذلك كانت تشفق عليه وتلح في آخر الليل بأن يخفف على نفسه، ولكن كان يرد بابتسامته المعهودة "هذا واجبنا اتجاه ديننا ، فمهما عملنا فنحن مقصرون ونسأل الله ان يتقبل جهد المقل وبإذن الله ستعود هذه الأعمال عليكم بالبركة في الحياة قبل الممات" وبالفعل ظهرت هذه البركة في حياتنا الآن من نعم لا تعد ولا تحصى سواء بالصحة او المال او التقوى.
- المسلم :    وكيف كانت عبادة الشيخ في رمضان ؟
عبادة الشيخ كانت متواصلة طوال شهر رمضان بداية من العبادات المفروضة والنوافل والمعاملات الحسنة والعادات المحمودة، فتجده لا يضيع دقيقة في هذه الدورة التدريبية الايمانية في شيء غير مجدي حتى انه كان يستغل تنقله بالسيارة في قراءة ورده اليومي ومراجعة حفظه  مع ترديد الأذكار التي كانت لا تفارق لسانه في أي مكان حتى وهو نائم.
عندما تتأمل كيفية وقوف الوالد أمام الله سبحانه وتعالى في الصلاة فانك تجد نفسك أمام مدرسة عملية ترجف من خشية الله ، فالبكاء دائم في كل آية، والتأني موجود في القراءة، والتوقف في آيات التدبر، والشعور بأنه يعيش في حياة أخرى حتى انه أحيانا كان يتجاوز ثلث ساعة في ركعة النافلة ..فما أحوجنا إلى مثل هذه القدوات الحسنة التي نفتقدها اليوم.
- المسلم : وما هي الطاعات التي كان يواظب عليها ؟
الطاعات التي لم يتركها في اليوم والليلة كانت الصلوات المفروضة والنوافل، وقراءة القرآن، وقيام الليل، ودروسه الدعوية في المساجد والجمعيات والملتقيات، والأذكار، وإدخال السرور في نفوس الآخرين من خلال السعي في قضاء حوائجهم.
- المسلم : هل اختلفت عبادته رحمه الله في ايام شبابه عنها بعد الكبر ...؟
طبعا اختلفت كثيرا من حسن إلى أحسن ، فكلما ازداد في العمر ازداد إيمانا وتقوى وربانية تستشعرها عندما تجلس معه فقط دونما ان تتحدث بأي شيء، فالوالد سخر حياته وضحى بالكثير لإرضاء الله والحياة في سبيله، فلم ينقطع عن صلاة الفجر في الجماعة منذ أكثر من ربع قرن، ولم يفوته ورده القرآني اليومي حتى في أحلك الظروف.
فمن المعروف أن الإنسان كلما يكبر تقل حركته ويقل جهده، ولكن – والله على ما أقول شهيد- أرى أن الوالد كلما يكبر كلما زاد مجهوده الدعوي والتربوي سواء في الجامعة او المساجد او الجمعيات او المؤسسات الإسلامية في الداخل والخارج حتى أن بعض الأطباء كانوا يشفقون عليه لاسيما انه يعاني العديد من الأمراض العضال ولكن قدرة الله في استعمال عباده.
 
- المسلم : عرف عن الشيخ رحمه الله حسن رعايته للدعاة وطلاب العلم الشرعي ... كيف كان ذلك ؟
العلم الشرعي كان هم الوالد الأول في حياته ، لذا أولاه أهمية كبرى في حياته الدعوية والأكاديمية، فأسلوبه في تدريس الحديث وعلومه باعتبار تخصصه فتح آفاقا كثيرة أمام طلبة العلم في التميز وبناء جيل رباني فريد، كما انه ساهم بشكل واضح في إنجاح الكثير من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه سواء داخل الكويت وخارجه خاصة إذا شعر أن هذا الطالب يجتهد ويحرص على الترقي لخدمة هذا الدين ، فيقترح أفكارا لطلبة العلم ويرشدهم إلى المتون وأمهات الكتب، حتى ان العديد من العلماء وطلبة العلم الموجودين على الساحة الدعوية اليوم تخرجوا على يديه.
كذلك كان دقيق في نقل العلم الشرعي من المنبع الصافي خاصة الكتاب والسنة، فتجده يجلس ساعات طوال لتحضير خطبة الجمعة ليكون علما صحيحا موثقا ينتفع به الآخرين.
-   المسلم : كان الشيخ متسلحًا بالحكمة: "مَن أراد أن يعمل لدينه، واجه المصاعب، ولكن سيحيا كبيرًا ويموت كبيرًا" كيف ترى هذه الحكمة فيه الآن بعد وفاته؟
الوالد رحمه الله كان ينظر بمنظار العالم ويعلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام لكنه كان يعلم أيضا أن الحياة في سبيل الله قد تكون في بعض الأحيان اشق وأكثر معاناة من الموت في سبيل الله لأنك تعيش عمرك كله مسخرا لله، أولادك وبيتك وأموالك وجهدك وعقلك وقلمك وقلبك وجوارحك كلها تعمل لله..وبالفعل عاش الوالد عاملا مخلصا لدينه فعاش كبيرا يتذكره الناس وآثاره موجودة إلى اليوم في كل مكان كان له موطأ قدم فيها، ومات في سبيل الله مبطونا بالمرض على كلمة "لا اله إلا الله" مرددا "اللهم ثبتنا على دينك".
-   المسلم :  حدثنا عن مكانة القرآن و الدعاء عند الشيخ رحمه الله ... وخاصة في رمضان
لولا القرآن لما كان هناك شيء اسمه سيد نوح، فالقرآن رفع مكانته العلمية والعملية وجعله خير ممثل للإسلام وكأنه إسلام يمشي بين الناس في عصر الانحلال والتفسخ، فتجده لا يفارقه أبدا في حياته سواء في دروسه أو كتاباته أو خطبه باعتباره دستور هذه الأمة ومنبعها الصافي التي لا يمكن أن نحيا بدونه.
وكان للقرآن مكانة خاصة في رمضان من خلال حرصه على الثلاثة أوراد في اليوم والليلة(ورد التلاوة – ورد المراجعة – ورد الاستماع) بالإضافة إلى المراجعة الدقيقة في جميع الصلوات حتى النوافل.
-  المسلم : هاجر الشيخ رحمه الله إلى الكويت ... حدثنا عن معاني صلة الرحم بينه وبين أهله في مصر.
بالفعل هاجر الشيخ إلى الكويت قادما من الإمارات العام 1993، فمنذ قدومه إلى الكويت وحتى وفاته وهو مفارق الأهل والاحبه والأصدقاء في بلده قرابة ال 15 عاما لارتباطات وأسباب معينة ومع ذلك كان دائما يتحدث مع أهله لاسيما والدته حتى انه استضافها في الكويت أكثر من مرة وحج معها وطالبها مرارا بالاستقرار ولكنها رفضت لارتباطها بالبلد والأهل.
فالشيخ كان يربي فينا معاني البر من خلال التطبيق العملي مع والدته، فكان يحملها إذا تطلب الأمر خاصة في بعض أوقات الحج باعتبار أنها منحية الظهر وضعيفة الجسم، حتى انه كان يؤكد على حق والدته في الوصية قائلا" لا تنسوا حق والدتي فهي جنتي وناري" نسأل الله أن تكون جنته.
- المسلم : رمضان شهر النصر، كيف كان منظور الشيخ رحمه الله لأخلاقيات النصر؟
الشيخ كان ينظر بمنظار الواثق في الله ، فأخلاق النصر تبقى أخلاقَ النصر في كل زمان ومكان، فما توفرت هذه الأخلاق في طائفة من المسلمين إلا  وينصرهم الله عز وجل. فعندما يعظم الأخلاق أمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والمسارعة إلى تنفيذ أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم عملاً بقول الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ   وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] يكون النصر حليفنا.
فكان يرى بأننا في حاجة إلى مزيدٍ من الأخلاق الإسلامية، والسلوك الحميد، ومضاعفة الجهود، والجهاد، والنشاط، وأن نصبر وأن نحتسب، حتى يبلغ الكتاب أجله، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ويؤكد الشيخ بنظرة تفاؤلية أن النصر للإسلام بلا أدنى شك ، ولنتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان واحداً فقط بمفرده والآن كما ترى تتبعه أمم ، استطاع واحداً بعون الله أن يغيّر واقع الجزيرة العربية بل العالم بأجمعه ، فما بالك بالمسلمين اليوم وهم ذوو عدد كبير يزيد عن المليار ، ويملكون الكثير من الثروات والإمكانيات الخام ، ويعلمون الكثير من حياته وبين يديهم القرآن الكريم ...فالإسلام مُمَكنٌ له رغم كل الأنوف .. لأنه دين الله وهو ولينا .. ولو قِستَ الإسلام الآن بخمسين سنة ماضية لوجدتَ فارقاً كبيراً جداً .. مع أن جهد الدعاة بسيط .. إنما الدين يتحرك تلقائياً وذاتياً .
- المسلم :  اخترتم تدشين موقع للشيخ رحمه الله على الإنترنت في رمضان... لماذا اخترتم شهر رمضان، وكيف كانت فكرة الموقع ؟
فكرة الموقع الإلكتروني للوالد كانت موجودة منذ أكثر من أربع سنوات، ولكنها كانت حبيسة الأذهان، وللحمد الحمد بدأت تترجم هذه الفكرة قبل وفاة الشيخ بحوالي شهرين عندما طلب إنشاء موقع لجمع تراثه العلمي المقروء والمسموع والمرئي خلال مسيرته العلمية والدعوية في ال 40 عاما الماضية ، وبالفعل بدأنا في تجهيز لموقع ولكن أجله سبق تحقيق أمنيته في رؤية الموقع.
هذا الأمر أعطانا دافعا اكبر لانجاز الموقع في أسرع وقت والحمد لله انجزناه منذ سنتين جمعنا فيه جزء من تراثه العلمي ، ونحن الآن بصدد تطويره وتحديثه لجمع كل تراثه حتى يكون صدقة جارية وعلم ينتفع به الآخرين وهو تحت التراب.