رحابة الانتماء (2)

  من الواضح أن اجتماع الناس بعضهم مع بعض يولِّد الكثير من التشنجات والتوترات والمصادمات، وذلك بسبب اختلاف رؤاهم وأمزجتهم وأهوائهم ومصالحهم.. ومن هنا كان لا بد من إيجاد المزيد من الأطر والمبادرات الأخلاقية التي تقلل من أشكال الخلاف بينهم، أو جعل ذلك تحت السيطرة.

أنا أعتقد أن المنهج الرباني الأقوم ثري بالإرشادات والأدبيات التي تدفع بالمسلم نحو الإحساس بالارتباط بالفضاءات الرحبة، والعمل على صيانة تلك الفضاءات وتعزيزها، وذلك من أجل إعمار الأرض وخفض التوتر ونشر الدعوة وإصلاح المجتمعات، وكنت أشرت في المقال السابق إلى أن لكل واحد منا عدداً من الانتماءات القهرية، وأن لكل انتماء منها حقوقه التي ينبغي أن تُؤدّى عن طيب خاطر، وأشير هنا إلى أن الذي يدل على تميز الإنسان وإحساسه بالمسؤولية هو عدد الانتماءات الاختيارية ونوعية تلك الانتماءات؛ إذ إننا نجد أن عدداً كبيراً من المسلمين منكفئون على أنفسهم، وقد رضوا بالعيش على هامش الحياة، فلا ينتمون إلى جماعة ولا مجموعة ولا جمعية، ولا يؤسسون أي برنامج أو مشروع يمكن أن يفيد الناس، بل إنهم لا يهتمون بأي شيء يتجاوز نطاق حياتهم الشخصية والأسرية، على أنك ترى في كثير من البلاد المتقدمة من يساهم في عشرات الأنشطة، وينتمي إلى عشرات الجمعيات والهيئات ذات النفع العام، وأعتقد أن ما نحن فيه من الزهد في الشأن العام هو أحد مفرزات التخلف والاستبداد الذي عانينا منه طويلاً.

من المهم في الانتماءات القهرية شيئان: الانفتاح والانسجام

 وأعني بالانفتاح أن نحذر من الانغلاق الثقافي أشد الحذر؛ إذ لا ينبغي أن نطور أي أدبيات وأية مفاهيم جوهرية لأي انتماء في عزلة عن الانتماءات الأخرى، فإذا كان الواحد منتمياً لجماعة ـ مثلاً ـ فلا ينبغي لذلك الانتماء أن يكون معزولاً عن الانتماء للقبيلة والوطن والأمة والإنسانية جمعاء، وإنما أقول هذا الكلام لأن بعض الجماعات صورت لأتباعها أنها سفينة النجاة في زمن الطوفان، وبعض الجماعات أوحت لأتباعها أنها أشبه بجزيرة نقية بيضاء في بحر ملوث بكل أشكال التلوث، وهذا غير صحيح من الناحية الواقعية، ثم إنه أوجد نوعاً من النرجسية المريضة لدى أبناء الجماعة، وقلّل من فاعليتهم الإصلاحية، والمشكل أن أولئك الأفراد يكونون قابلين للتجنيد في أعمال تخريبية واسعة النطاق، وإذا ترك بعضهم تلك الجماعة، فإنهم لن يعودوا إلى أحضان المجتمع، وكيف يعودون إليه وهم يعتقدون أنه بالغ السوء في كل شيء، ومن ثم فإنهم قد ينحرفون انحرافاً عظيماً، ويتنقلون من النقيض إلى النقيض، ومن هنا كان على الصحوة المباركة إذا أرادت أن تصمد وتنمو وتستمر... أن تقوي محيطها, بمعنى أن تنشر قيمها في ذلك المحيط, وتقيم فيه المشروعات والبرامج الإصلاحية النابعة من عمق معتقداتها ورؤاها وأخلاقياتها.

أما الانسجام فإنه يعني أن نقضي على كل ما يمكن القضاء عليه من أشكال التنافر والتباين بين الانتماءات القهرية والاختيارية المتاحة, وهذا على مستوى القيم وعلى مستوى المصلحة والممارسة؛ فقيم مثل الصدق والأمانة والجدية والنزاهة والإخلاص والتعاون والتواضع... يجب أن تُعتمد في المجال التربوي على كل المستويات وفي كل الأطر والدوائر.. في الأسرة والمدرسة والجامعة والجيش والسياسة والأعمال التجارية والصناعية والعلاقات الدولية, لا يصح أن نعلّم الطفل فضيلة التواضع و التعاون في المدرسة، ونلقي في روعه ما يشجعه على الكبر والأنانية والفردية المريضة من خلال إغراقه بالحديث عن فضائل قبيلته وتميزها على العالمين! كما لا يصح أن نحدث الطفل في المسجد عن الاستقامه والأمانة... فإذا ذهب للدراسة... في بلد غربي قلنا له: أنت في دار حرب، فمارس ما شئت من أشكال الاحتيال واللصوصية على نحو ما يفعله كثير من العرب والمسلمين في أوروبا مع الأسف الشديد!

 من المهم دائماً أن يفكر الواحد منا، ويتصرف على أساس أن مصلحته ومصلحة أسرته وقبيلته ووطنه وأمته والعالم أجمع هي مصلحة واحدة, وقد أظهرت الأزمة المالية الأخيرة أن التفكير على هذا الأساس هو التفكير الصحيح حيث لا يمكن للمنافسين والأعداء في الشرق والغرب أن يغرقوا في الرذيلة، أو أن يفلسوا، أو يهلكوا بسبب المخدرات، أو أن يلوثوا الماء والهواء، ونظل نحن في مأمن من كل ذلك.

 هذه النظرة ترتقي بالمسلم إلى مرتبة المواطن العالمي الذي يهتم بصلاح العالم, وينظر إلى كل دول الأرض على أنها مجال خصب للدعوة والبناء والعطاء والإصلاح، مع اليقين بأن الأقربين أولى بالمعروف. نحن نريد أن نوسع مساحات (المشترك الثقافي) على مستوى العالم, ونعد ذلك من مسؤولياتنا بوصفنا خير أمة أخرجت للناس – كما قال ربنا عزوجل- لأن ذلك يسهّل عملية التواصل العالمي, ويوجد فضاءات حمائية للقيم التي نؤمن بها, ويجعلنا نرى قيمنا وهي تُحترم في أنحاء الأرض. لا شك أن العالم متفق على الكثير من القيم العظيمة, وإن كانت الشعوب تختلف في تفاصيل تطبيقات تلك القيم, لكن الاتفاق على متنها موجود وقوي؛ إذ إنك لا تجد ثقافة في الأرض تنظر إلى عقوق الوالدين وإيذاء الجار والكذب واللصوصية... على أنها فضائل ينبغي الحفاظ عليها وتربية الأطفال في المدارس عليها, نحن نريد لهذه القيم أن تزداد, ونريد لها أن تبلور على نحو كاف، على نحو يقترب من الرؤية الإسلامية لها. وعلى سبيل المثال فإننا نريد أن يحصل على ما يشبه الإجماع على قيم مثل: المحافظة على البيئة، والاقتصاد في استهلاك الموارد، والتماسك الأسري، والوقوف إلى جانب المظلوم، والنزاهة الإدارية، والشفافية في الحكم، وتدفق المعلومات، وكرامة الإنسان والعدل... وذلك على مستوى العالم, وهذا كله جزء من مساهمتنا في إصلاح العالم، وجزء من واجبنا الدعوي.

في الختام أهنئكم جميعا بقدوم شهر رمضان المبارك، وأسأل الله أن يعيننا فيه وإياكم على الصيام والقيام. .