نيجيريا.. الأمر أكبر من تعليم غربي
13 شعبان 1430
أمير سعيد

في هذا البلد الإفريقي الكبير تتقاطع الاستراتيجيات، تتفادى بعضها أو تتصارع سواء؛ فهي في النهاية تربط مصير 150 مليون إفريقي بينهم غالبية مسلمة كبيرة بها.

عينا كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين مصوبة على نيجيريا، ذلك البلد النفطي الكبير، الأولى باعتبارها الدولة التي ورثت النفوذ البريطاني في نيجيريا، والثانية لحاجتها النفطية الهائلة التي جعلتها تمد يديها إلى أكبر الدول النفطية في إفريقيا، وحيث حصلت الصين على حصة تبلغ 45% في حقل نفطي رئيس في نيجيريا/المنتج الأول للنفط في إفريقيا، والذي يملك احتياطات نفطية تفوق الثلاثين مليار برميل من النفط الخام، وهي أكبر احتياطات نفطية في قارة إفريقيا.

الصين أفادت بلا شك بالسياسة "الاستعمارية" للولايات المتحدة في الغرب الإفريقي، لاسيما نيجيريا التي أسهمت أخطاء الولايات المتحدة في سياستها إزاء نيجيريا في جعل الأخيرة تغرق في الفساد؛ إذ تشير الإحصاءات المختلفة إلى ما بين دولار وثلاثة دولارات هي أقصى ما كشفته الجهات المالية لدخل الفرد النيجيري رغم تدفق عشرة مليارات دولار على الأقل في خزينتها كل عام خلال ربع قرن بسبب الفساد والتدخل الأمريكي في شؤون البلاد الاقتصادية.

وعندما بدأت بعض أركان الحكم في إقامة علاقات اقتصادية متميزة مع الصينيين، هرع الأمريكيون إلى إطلاق فزاعتهم الرتيبة/"الإرهاب" الذي تذرعت به واشنطن استناداً إلى بعض حوادث الخطف في دلتا النيجر وداخل نيجيريا، إضافة إلى الحديث المعتاد عن وجود عناصر للقاعدة تجول ما بين مالي والنيجر ونيجيريا ما يبرر اندفاع القوات الأمريكية في حزام النفط الممتد من دارفور وحتى نيجيريا تحت مسمى قوات أفريكوم التي لم تكن موضع ترحيب من القوى "الاستعمارية" الأخرى في إفريقيا، لاسيما فرنسا التي تتسلل الولايات المتحدة منتقصة من "مصالح" فرنسا فيما يسمى بالحزام الفرانكفوني في الغرب الإفريقي الذي تحميه قواتها المسلحة بـ17 ألف جندي، علاوة على دول إفريقية رئيسة مثل الجزائر (إلى حد الآن) رفضت هذا الوجود الأمريكي.. "الإرهاب" يمنح الولايات المتحدة هذا المبرر لنشر قوات أفريكوم في الغرب الإفريقي على مسافة لا تبعد كثيراً عن الخط النفطي الممتد من تشاد إلى الكاميرون والذي يموله البنك الدولي لحساب "استعماري" أمريكي.

إن حدوث موجة "إرهاب" أو اضطراب إثني أو طائفي أو ديني في نيجيريا هو مما يعزز الهيمنة الأمريكية على غرب القارة الإفريقية الغني بالنفط، ويبرر وجود قوات تحمي منابع النفط التي تستورد منها الولايات المتحدة الأمريكية ربع احتياجاتها النفطية، بما يكافئ ما تستورده من الخليج العربي الغني بالنفط. لكن أكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تفتعل مثل هذه الاضطرابات أو تنتظر حدوثها عفوياً؟! ربما هذا أو ذاك، غير أن الثابت على كل حال أن واشنطن لن تتخذ سياسة مشابهة لتلك التي تنتهجها بكين والتي تعتمد على الجزرة بخلاف الولايات المتحدة الغارقة حتى أذنيها في سياسات تشجع الاستبداد والفساد وتقتات منه في إفريقيا، وتتجاهل دورها المفترض في تنمية إفريقيا الغنية بالثروات.

ولا أحد يمكنه الآن تأكيد أي ضلع للولايات المتحدة الأمريكية في أحداث حركة "بوكو حرام" التي اندلعت في الشمال النيجيري وقضى فيها أكثر من 700 مسلم نحبهم، لكن الولايات المتحدة ليست بريئة بالأساس في تهيئة المناخ لحدوث مثل هذه الجرائم؛ إذ يبقى التشجيع الأمريكي على فتح نيجيريا أمام موجات التنصير خصوصاً والتغريب عموماً، ومساهمتها غير المباشر في إفقار الشعب النيجيري لاسيما المسلم بالشمال، ومساندتها لحكومات ونظم فاسدة، وتشجيعها حلفاءها في الجيش النيجيري الذي لا تهيمن عليه الغالبية المسلمة على التنكيل بالخصوم وارتكاب مثل هذه الحماقات بحق مواطنيه وهدم المسجد وانتهاك أبسط حقوق المعتقلين والمعارضين، كل هذا يجعل واشنطن متورطة بشكل أو بآخر في أي جريمة تحظى بتشجيع ضمني أو صمت متعمد.

 

وأيا كان المقصد؛ فلقد كانت جريمة أركانها موثقة بألسن أصحابها، وتلك بعض الأدلة المدينة للنظام النيجيري، وأولها هو ما ورد على لسان رئيس الجمهورية النيجيرية عمر موسى يارادوا للصحفيين: "طالبان نيجيريا ليست من بادر بمهاجمة قوات الأمن، بل يتعلق الأمر بعملية جاءت بناء على معلومات أمنية جمعناها عن نواياهم، لنشن هجوما كبيراً". أي أن الهجوم الدموي ربما أمكن السلطات تجنبه وحقن دماء المئات من النيجيريين، وثانيها ما أكده مراسل رويتر وصحفيون محليون لما رأوا الملا محمد يوسف "بالثكنات العسكرية في مايدوجوري بعد اعتقاله. ولم تكن به إصابات ظاهرة حين نقل من الثكنات إلى مقر الشرطة" [رويتر]، وما أظهرته "صورة خاصة حصلت عليها الجزيرة جثة يوسف مقيد اليدين، وتبدو على الجثة إصابات بالغة وتشوهات بسبب إطلاق رصاص". [الجزيرة.نت]، وما شهد به مصدر في الشرطة النيجيرية طلب عدم الكشف عن هويته للوكالات بأن الملا يوسف "طلب العفو عنه قبل قتله بالرصاص"، وما نشرته الوكالات لصورة قائد المجموعة المستهدفة وهو بين حراسة مشددة من الجيش النيجيري بما يستحيل معها تصديق رواية قتله أثناء محاولة هروب لأنها بالغة السذاجة مستحيلة التصديق، وما أجمعت عليه منظمات حقوقية نيجيرية إذ صرح رئيس رابطة حقوق الإنسان شاماكي غاد بيتر "ما كان الداعي لقتل شخص فور توقيفه؟ كان من الحري استجوابه لتفادي تكرار ما شهدناه (..)كل المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان تندد بكل أشكال التصفية من دون محاكمة، وتعتبر عملية اغتياله منافية للقانون".

فما الذي حفز الجيش النيجيري لهذا الاستخدام المبالغ فيه للقوة في التعامل مع مشكلة قد كان من الممكن حلها سياسياً أو حتى أمنياً بشكل يحافظ على هيبة الدولة من جهة ويحقن دماء المواطنين ما أمكن من جهة أخرى؟! إنه أمر يجاوز حدود ما يمكن تصوره من إجراءات للحفاظ على استمرارية التعليم الغربي في المدارس النيجيرية، ويبسط أكثر من صفحة تتعلق بحقوق المسلمين في نيجيريا ودور الدولة في الحفاظ على هوية النيجيريين المسلمين ويجعل أكثر من قضية محل نظر في هذا السياق.

غير أن الأدهى أن الجيش النيجيري تحرك بهذه القسوة وهو يدرك أن الظرف الدولي لصالحه تماماً وأن لا ملامة ستقع عليه مهما سفك من دماء، تحميه إرادة دولية في قمع أي تحرك إسلامي ولو كان خاطئاً أو ساذجاً أو لن يفضي إلى شيء في تعزيز مكانة المسلمين في بلد يشكلون معظم سكانه.

الأشد مرارة أن نيجيريا النظام آمنة من أن يتعرض حكامها لتشنيع دولي كالذي لاقوه عندما رجمت نساء نيجيريات تطبيقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، ما استدعى تنظيم مسابقة لملكات الجمال في العاصمة النيجيرية قبل سبع سنوات ـ كنكاية ـ لم يتم إلغاؤها إلا بعد أن راح ضحية معارضتها أكثر من مائتي ضحية، ولم يعد ممكناًَ عقدها.. الأمر أهون هنا، لأن القضية يمكن تقييدها ضد "الإرهاب" ومن ثم تصبح دماء النيجيريين بلا ثمن، بل ربما ثمن عكسي لمزيد من الهيمنة الغربية على أكبر بلد إفريقي إن باستغلال الحادثة في التسويق لأفريكوم أمريكية، أو ابتزاز السلطات لضمان ولائها السياسي وتبعيتها الاقتصادية حدباً عن أن يتحقق حلم التنين الصيني في نيجيريا.