"ظَنّ السًّوْءِ".. هل نحن سالمون؟!
14 رجب 1430
خالد عبداللطيف

·        أكثر الناس يظنون بالله غير الحق "ظن السَّوْء" فيما يختص بهم وفيما يفعلُه بغيرهم..!

·        غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطـاه الله..!

·   دواء "ظن السًّوْء"أن يظن المرءُ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر... فهي أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين!

·   ينبغي للمسلم الحرص على تدبر كتاب الله - جل وعلا - وحسن فهمه، وتعلم ما يعينه على ذلك من علوم القرآن، والحذر من كل ما ذمه الله - جل وعلا - في كتابه المجيد؛ أن يصيبه من غباره وآثاره!

 

قال الله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (الفتح:6).

تمر هذه الآية الكريمة على كثير من الناس دون تدبر أو تفكر، فإذا حصل شيء من ذلك فغايته تصور أن "ظن السَّوْء" هو حالة بعيدة عنهم، لا يمسهم منها ولا من غبارها شيء! 

كما يتعلق آخرون بأسباب النزول في استبعاد وقوعهم في هذه الآفة، لكن قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" ترشّد هذا الفهم، وتفتح آفاق الانتفاع بالقرآن العظيم في تزكية النفس وإصلاح القلب، والحذر من آفات يغفل عنها كثير من الخلق، كما سيأتي.

أسباب النزول

قال القرطبي – رحمه الله تعالى – في تفسيره، في سبب نزول هذه الآية الكريمة:

{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} يعني: ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا}[الفتح: 12]. وقال الخليل وسيبويه{ السَّوْءِ} هنا: الفساد.

{ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} في الدنيا: بالقتل والسبي والأسر، وفي الآخرة: جهنم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دائرة السُّوء} بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري : ساءه يسوءه سوءا بالفتح ومساءة ومساية، نقيض سره، والاسم السوء بالضم، وقرئ {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}.." اهـ.

فهذا ما جاء في سبب النزول وما فيه من عبرة وعظة لقلوب المؤمنين.

وأما أصناف الواقعين في هذا الداء الوبيل (تبعا لقاعدة عموم اللفظ..) فهم من التعدد والكثرة بما لا يكاد يسلم معه أحد.

أصناف الظانين "ظن السَّوْء"!

إن حقيقة الأمر الذي يخفى على كثير من الناس أن السالمين من "ظن السوء" هم قلة نادرة من عباد الله المخلصين، كما أفاد ابن القيم - رحمه الله تعالى - (في زاد المعاد (3/228)، في كلام نفيس هو من أبدع وأجمع ما قيل حول هذه الآية:

قال رحمه الله تعالى مؤكدا هذه الحقيقة:

"أكثرُ النَّاسِ يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوءِ فيما يختصُّ بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا يسلَمُ عن ذلك إلا مَن عرف الله، وعرف أسماءَه وصفاتِهِ، وعرفَ موجبَ حمدِهِ وحكمته".

ثم عدّد ابن القيم أصناف الواقعين في هذه الآفة، فقال:

"فمَن قَنِطَ مِن رحمته، وأيسَ مِن رَوحه، فقد ظن به ظنَّ السَّوء.

ومَن ظنَّ بأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءِ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزًَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرةُ المستقرة والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فَمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله.

ومَن جوَّز عليه أن يعذِّبَ أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوِّى بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السوءِ.

ومَن ظنَّ به أن يترُكَ خلقه سُدى، معطَّلينَ عن الأمر والنهى، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا ينزِّل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلاً كالأنعام، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوء.

ومن ظنَّ أنه يُضَيِّعُ عليه عملَه الصالحَ الذي عملَه خالصاً لوجهه الكريمِ على امتثال أمره، ويُبطِلَه عليه بلا سبب من العبد، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوء.

ومَن ظن أن له ولدَاً، أو شريكاً أو أن أحدَاً يشفعُ عنده بدون إذنه، أو أن بينَه وبين خلقه وسائطَ يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعباده أولياء مِن دونه يتقرَّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظنَّ به أقبحَ الظن وأسوأه.

ومَن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يُعوِّضه خيراً منه، أو مَن فعل لأجله شيئاً لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.

ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه، أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.

ومن ظنَّ به أنهُ يُثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلافَ ما هو أهلُه وما لا يفعله.

ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه ولياً، ودعا مِن دونه مَلَكاً أو بَشَراً حَياً، أو ميتاً، يرجُو بذلك أن ينفَعَه عند ربِّه، ويُخَلِّصَه مِن عذابه، فقد ظنَّ به ظَنَّ السَّوْءِ، وذلك زيادة في بُعْدِه من الله، وفى عذابه..".

لسان حال أكثر الخلق!

ولئن كان كثير من الصور سالفة الذكر التي ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى – يدور بين شركيات وكبائر، يعتقد كثير من الناس سلامتهم منها؛ فإن ثمة صورا أخرى حريُّ بكل مسلم أن يقف أمامها متأملا في واقعه وحياته اليومية؛ ليسأل نفسه: هل هو سالم منها؟!

قال - رحمه الله تعالى -:

"فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن: غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ، وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّى، ومنعني ما أستحقُه! ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك؟

فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ               وَإلاَّ فَإنِّي لاَ إخَالُكَ نَاجِـيَـاً

دواء الــداء..!

هذا هو الداء! وهذا وصف شيوعه وانتشاره وسريانه في حياة الناس، فأين المفر؟! وكيف النجاة؟!

يرسم ابن القيم للسالكين سبيل السلامة بقوله:

"فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركَّبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، وأرحمِ الراحمين، الغنىِّ الحميد، الذي له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ في ذاته وصفاتِهِ، وأفعالِه وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى" انتهى كلامه رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة في جنات النعيم.

وقفة أخيرة ودرس مستفاد...

هكذا جلّى ابن القيم – رحمه الله تعالى – حقيقة داء من الأدواء الخفية، رغم شيوعها وانتشارها، وأرشد إلى سبيل النجاة – بإذن الله جل وعلا -  فعلم ذلك من علمه، وجهله من جهله.. لكن ثمة درساً مستفاداً وفائدة مهمة تلوح للمتأمل من وراء ذلك، ألا وهي الحرص المسلم على تدبر كتاب الله - جل وعلا - وحسن فهمه، وتعلمه ما يعينه على ذلك من علوم القرآن وقواعد أهل التفسير، والرجوع لأهل العلم؛ ليحذر المسلم من كل ما ذمه الله - جل وعلا - في كتابه المجيد؛ أن يصيبه من غباره وآثاره، وليتم انتفاعه بكتاب الله العظيم، الذي جعله المولى سبحانه نورا وضياء وهدى وشفاء!

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.