العلاقات الروسية الإيرانية.. مساحة الالتقاء وهامش الاختلاف
8 رجب 1430
أمير سعيد







[email protected]

امتنعت دول الثماني الكبرى عن معاقبة إيران بسبب تلاعبها بالانتخابات الرئاسية بعد أن وقفت روسيا مانعاً أمام إصدار أي قرار يدين أو يفرض عقوبات اقتصادية على إيران، معتبرة أن ما يجري في إيران هو شأن داخلي.

لم يتوقف موقف الروس مما يحدث في إيران عند حد المطالبة بضرورة سرعة حل المشكلة في طهران، بل اتضح إيجابياً في عدم حدوث أي تغيير في التعاون بين البلدين في المجالين العسكري والاقتصادي؛ فوفقاً لمصدر في الوكالة النووية الروسية "روس آتوم" ـ بحسب وكالة نوفيستي الروسية ـ فإن المظاهرات الاحتجاجية في إيران لن تؤثر في عمل روسيا في مفاعل بوشهر النووي في جنوب الجمهورية الإسلامية؛ فـ" كل شيء يسير إلى الأمام بشكل طبيعي حسب الجدول، ونحن نتوقع أن يبدأ العمل فيها (المحطة) بحلول نهاية العام الجاري"، قال المصدر.

كما ويبدو أن الضغط الصهيوني على روسيا لثنيها عن تزويد إيران بصواريخ إس-300 المتطورة المضادة للطائرات لم يأت بنتيجة حتى بعد أن وافق الكيان الصهيوني على مد الجيش الروسي بعدد من الطائرات الموجهة المتطورة بدون طيار في مقابل وقف الصفقة مع إيران، بعد أن اتضح لـ"إسرائيل" أن روسيا ماضية في الصفقة مع طهران ولا تعتزم التراجع عنها.

 

إن ما يحدث ـ علاوة على اتجاه روسيا المتأخر إلى إفريقيا ـ دليل على أن علاقات روسيا مع إيران لم تتأثر بما يحدث من حراك سياسي في الداخل الإيراني، إذ إن السياسة الروسية الجديدة تكاد تتشابه مع تلك الصينية التي تقوم على البراجماتية السياسية بلا أدنى تحفظ على الأوضاع الداخلية للحلفاء.

الحليفان ماضيان قدماً في عملهما المشترك رغم أية عوائق قد تعترض طريقهما، مستندين إلى شراكة قوية بينهما رغم تعارض المصالح أحياناً فيما بينهما، تدرك فيها الدولتان أنهما لا غنى لبعضهما عن بعض، وكلاهما قد أفاد من انشغال الولايات المتحدة بنفسها حالياً بعد أن منيت بخسائر اقتصادية وعسكرية وسياسية فادحة تركها الرئيس الأمريكي السابق بوش إرثاً ثقيلاً لخلفه، وبدا أن سنوات الانفراد الأمريكي بقيادة العالم التي لم تهنأ بها لمدة لا تزيد عن عقد ونصف قد غدت أقرب إلى الشيخوخة المبكرة ومن ثم إلى انفتاح العالم على جملة من الاحتمالات الآخذة في تصاعد متوازٍ يتمحور حول بروز قطب جديد ينازع الولايات المتحدة الأمريكية تفردها أو مجموعة من الدول تتساند لتبدي تحدياً آخذاً في الارتفاع متناسباً عكسياً مع الإخفاقات المتسلسلة للدولة العظمى في ميادين العسكرية والاقتصاد والسياسة.

الدب الروسي لا يخطئ المنصت سماع وقع أقدامه تأتي حثيثاً، فالصحوة الروسية تبين في خط متصاعد للسياسة والدبلوماسية الروسية في المنطقة والعالم تواجه به حالة الانفراد الأمريكي بالقرار الدولي، ولعل الشواهد البادية على ذلك في أمريكا الجنوبية، والملف النووي الإيراني، والملف النووي الكوري، والموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق، وصفقات الأسلحة مع سوريا وإيران، والعلاقات مع الفصائل الفلسطينية.

إيران من جهتها شبت عن طوق الإرادة الأمريكية في غير ما ملف، سواء فيما يتعلق بالملف النووي أم النفوذ المتنامي في دول الجوار لاسيما العراق أم تعاظم القوى العسكرية والتأثير في القضيتين اللبنانية والفلسطينية. 

وكلا الدولتين، روسيا وإيران، قد باتت في ظرف دولي وإقليمي يدفعهما إلى تقارب أكبر، عبر عنه مدير مركز دراسة إيران المعاصرة رجب سفاروف، حين قال في مؤتمر صحفي عقده في مارس من العام الماضي: "أن المحافظين الإيرانيين الأوفياء لمبادئ الثورة الإسلامية عام 1979 ينظرون إلى روسيا نظرة عطف كبير ويعلقون الأمل على دعم روسيا في مواجهة انتشار العولمة و الهيمنة الغربية".

بيد أن القضية تتجاوز حدود "العطف" الذي تحدث عنه سفاروف؛ فالاستراتيجيتان الروسية والإيرانية قد أضحتا متقاطعتين أكثر من أي وقت مضى، تعززهما رغبة روسيا في خروج إيران من أزمة الملف النووي (ويبدو أنها ذلك هو ما حدث بالفعل) وإن كانت أبدت فيما مضى بعض المرونة في قضية فرض عقوبات اقتصادية هشة عليها في مجلس الأمن، المسألة يمتزج فيها الاقتصادي والسياسي والعسكري، ومن وجهة نظر روسيا, فإن الإيرانيين دفعوا على الطاولة حوالي مليار دولار مقابل المساعدة الروسية للمفاعلات في بوشهر, كما أن الروس حصلوا من الإيرانيين على حوالي 700 مليون دولار ثمن أسلحة تقليدية, بما فيها صواريخ, وروسيا تقف من وراء مشروع هائل لإقامة أنبوب نفطي يفترض أن يربط إيران وباكستان والهند .

واعتبر عقد التسعينات والسنوات التالية له رقعة زمنية فسيحة للتعاون الاستراتيجي الكبير بين روسيا وإيران حيث زودت الأولى الثانية بمفاعلين نوويين بقوة 1200 ميجاوات لكل منهما وحمت ظهرها لحد الآن في المحافل الدولية، ولأهداف استراتيجية تتعلق بالأمن القومي الروسي لا تجد سبيلاً إلا إلى دعم الإيرانيين على خلفية منع الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على 65% من احتياطي النفط العالمي إن هي نجحت في إدخال إيران في فلك الولايات المتحدة بالترويض العسكري أو الاقتصادي.

روسيا تدرك أن خيارها مع إيران استراتيجي، وإيران من جانبها تفهم الأمر عينه، وحدود التلاقي الاقتصادي بين الدولتين لا تتعلق بالملف النووي والنفطي الخليجي فقط؛ فبحر قزوين الذي يمثل بحيرة نفطية هائلة، يزيد احتياطيها عن200 مليار متر مكعب واحتياطي الغاز600 مليون متر مكعب، يشكل كعكة نفطية تستأهل التلاقي عندها للحؤول دون مد الأمريكيين أيديهم إليها بعد أن نجحوا في تدعيم علاقاتهم بدول البحر في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وظمأ تلك الدول حينها إلى المساندة المادية العاجلة من الولايات المتحدة لئلا تعاني من الأزمة الداخلية ذاتها التي عصفت بالاتحاد السوفيتي السابق.

قبل خمسة أعوام سعت روسيا عبر شركاتها النفطية والغازية الثلاث غاز بروم وبوكوس ولوك أويل إلى تجيير الوضع النفطي في بحر قزوين لصالحها سعياً وراء تقليص الدور الأمريكي في البحر؛ فكونت شركة نفط قزوين في المنطقة الشمالية للبحر، إلا أن هذا التقليص قد طال أيضاً اليد الإيرانية التي لم يرق لها التمدد الروسي على حسابها، لكنها تدرك أنها بوقوفها من قبل إلى جانب أرمينيا في حربها ضد أذربيجان فقدت جزءاً من طموحها النفطي هناك لحساب الروس، وثمة تعارض آخر أبداه إعلان الإيرانيين عن رغبتهم في الانحياز إلى خيار خط أنابيب الغاز الطبيعي نابوكو الممتد من آسيا الوسطى وبحر قزوين إلى النمسا عبر تركيا بدلاً من خط آخر يمر عبر روسيا إلى أوروبا. 

غير أن روسيا وإيران تظل مصالحهما الاقتصادية المشتركة وتقاربهما الاستراتيجي أبقى من خلافاتهما النفطية حول بحر قزوين إذ تعد السواحل الإيرانية المطلة على بحر قزوين هي الأفقر نفطياً ما لم تتمكن إيران من الحصول على حصة أكبر عبر اتفاقات نفطية قديمة؛ فالاحتكار الروسي لتوريد الغاز إلى أوروبا والتي تتلقى ثلثي حاجاتها منه من روسيا آيل إلى زوال مع وجود مشروعات لنقل الغاز عديدة وفي مسارات مختلفة ومتباعدة، كما أن ملفات التقارب مع وجود خلافات حول عدة قضايا اقتصادية تظل في حجم المقبول من الطرفين.

والأهم أنه، الاحتياطي النفطي الضخم لإيران والذي بلغت فيه إيران المركز الثاني في العالم وفقاً لأرقام إيرانية رسمية نشرت في الربع الأخير من العام 2008، بكمية تصل إلى 132 مليار برميل، علاوة على امتلاكها ثاني احتياط غازي، وترتكن روسيا إلى مخزونات الطاقة الهائلة التي تملكها، ما مكنها من أن تستعيد مكانتها على الساحة الدولية، حيث تحتل روسيا المركز الأول في احتياطي الغاز في العالم، ومع وجود روسيا ثم إيران على رأس القائمة للغاز، والذي حدا بعلي خامنئى مرشد الثورة الإيرانية أن يقترح في حديثه إلى المسؤولين الروس قبل عامين إنشاء "أوبك" للغاز موازية لتلك النفطية والتي بدأت في التشكل بعد ذلك، ما رفع الثقل الاستراتيجي عالياً للبلدين الحليفين، وجر بطريقهما دولاً أخرى في آسيا الوسطى وغيرها، ومع تهاوي الطموح العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان؛ فإن ثمة ما غدا يحفز همة الروس والإيرانيين إلى فتح ثغرات في الجدار الأمريكي معاً؛ فما توفره عوائد النفط الروسية والإيرانية يمكنهما من إضعاف الخصوم وتعزيز أوراق اللعبة، والإيرانيون ـ مثلا ـ لديهم مخزون هائل من النفط, يمنحهم مع كل دولار إضافي في سعر النفط مليار دولار إضافياً يصب في الخزينة الإيرانية سنوياً.. الشيء ذاته ينسحب على الروس، وكلاهما عليه أن يستثمر فائض المال في تعزيز قدراتهما الاستراتيجية في مقابل خصم أدار الإيرانيين في فلكه ذات يوم إبان حكم الشاه علي رضا بهلوي، وركع الروس في أعقاب الحرب الباردة، ويستطيع إدارة الأزمة من زواياها الاقتصادية بقدر من الحنكة.

 

هذه المعطيات تجعل العلاقات الاستراتيجية التي تمنحها المصالح الاقتصادية زخماً كبيراً يقفز فوق كل الحسابات الأخرى؛ فقضية استقلال كوسوفا التي تقف فيها روسيا إلى جوار الصرب للحؤول دون فقدان آخر حلفائها في البلقان ضربت عنها إيران الذكر عنها، ولم تعترف بها، كما أن الإحصاءات الرسمية الإيرانية كانت إبان الحرب البوسنية تشير إلى أن إيران كانت تصدر 55 ألف برميل، بصورة متوسطة، من النفط الخام، يومياً، إلى صربيا، في الفترة ما بين يونيه 1991 وفبراير 1992م، وبالنسبة للقضية الشيشانية؛ فإيران تعتبرها قضية داخلية روسية.

الأمر نفسه في مقابل ذلك، لدى الروس الذين يشجعون ريادة إيران للعالم الإسلامي على حساب من تعتبرهم حلفاء الولايات المتحدة من الدول الإسلامية، وتشجع الإيرانيين على التواصل مع مسلمي روسيا على أرضية من التوافق الاستراتيجي الذي يضبط بوصلة الاقتصاد والسياسة والثقافة على مؤشره.

إلا أن هذه الرهانات الروسية والإيرانية كلتيهما على الأخرى لا تفضيان إلى نوع من الامتزاج والتحالف الكامل؛ فلدى كلا الطرفين أجندة تخالف الآخر، ولروسيا مصالح مع الولايات المتحدة تتعلق بالعديد من الملفات السياسية والاقتصادية، كما أن لإيران بعض المصالح مع الولايات المتحدة تخالف فيها الرؤية الروسية، وحيث أبدت روسيا انزعاجها من الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، تمكنت إيران من إيجاد توافق مع الولايات المتحدة، في حين لا تبدي روسيا حماسة في إنضاج تحالف كامل مع الإيرانيين مع تناول المحافظين في إيران لملف الخليج وأمريكا الجنوبية برؤية لا تشاطرهم إياها.

وبين هذا الانجذاب الاستراتيجي والتباعد النسبي، تظل العلاقة الروسية/الإيرانية محكومة بمحددات تجعلها تقترب إلى ما دون التحالف، ولا تبتعد إلى حد الفتور.