بين الخُمُس والتقصير
7 رجب 1430
د. إبراهيم الفوزان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد،،،
كنت يوماً من الأيام بجوار أحد المفتين في الحرم المكي وفجأة وبلغة عربية مكسرة سأله شخص – يغلب على الظن من مظهره أنه من شيعة إيران – قال: علماء خمس! فحاول الشيخ استيضاح السؤال منه مرات حتى فهم مراده.  فكان يقول هل نعطي العلماء خُمُس أموالنا؟ قال له الشيخ: لا ما تعطونهم الخُمُس ولا يجب لهم شيء من أموال الناس.  بعد ذلك سرحت في التفكير والمقارنة بين واقع علمائنا وعلمائهم.  فكما أن الرافضة غلوا في علمائهم وعظموهم وأغدقوا عليهم من الأموال ما يجعلهم من الأثرياء، وشابه علماؤهم اليهود والنصارى في أكل أموال الناس بالباطل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ} [التوبة: 34]؛  إذا بنا نحن على النقيض تماماً في تعاملنا مع علمائنا،  فعلماء السنة مهمشون ومنسيون حتى صار الكثيرون منهم من المشتغلين بطلب الدنيا وتأمين متطلبات الحياة على حساب الأمة التي هي أشد ما تكون حاجة لهم ولعطائهم.

 

إن أمةً لا ترعى علماءها لهي أمة ضعيفة لن تستطيع أن تقود العالم بل ولا أن تدافع عن دينها وهويتها ومصالحها!  اللاعبون الرياضيون يتقاضون الملايين في مجال الاحتراف في اللهو وصرف الناس عن رسالتهم في الحياة، والفنانون يتقاضون مثلهم وأضعاف أضعافهم في مجال الفن الساقط الذي يهدم الدين قبل الأخلاق والفضيلة قبل الكرامة.  أمتنا – وللأسف – غابت عن الحاضر بعد أن كانت حاضرة في الماضي وأصبحنا نكرِّم أهل اللهو والانحراف ونهمش أهل الفضل والعلم.  لا تجد في الغالب عالماً سنياً مخدوماً من أمته بما يوازي العطاء الكبير الذي يقدمه للأمة.

 

لقد وصل الحال بكثير من العلماء الذين لم يتقلدوا المناصب وليسوا من أهل الثراء إلى معاناة الفقر والحاجة الشديدة وعدم القدرة على توفير متطلبات الحياة لهم ولذويهم.  بل يوجد منهم من لا يملك سكناً يؤويه وأهله.  ومن المؤسف أنك لا تجد لدى الناس قناعة بحاجة العالم الفلاني أو غيره إلى المساعدة، حتى من بعض طلاب العلم والدعاة الذين يعتقد بعضهم أن تعفف العالم وعدم سؤاله الناس دليل على عدم حاجته!  بل بعضهم يتعجب من كون العالم الكبير ذي الشهرة والمكانة ليس لديه ما يكفيه.  ولا شك أن السبب الرئيس في عدم دراية الناس بأحوال العلماء هو ما يوجد عند العلماء الربانيين من الورع والزهد في الدنيا، وأهل الورع من العلماء هم المقصودون من كتابة هذه الكلمات.

وليس في فتواه مفتٍ متبع *** ما لم يضف للدين والعلم الورع

العلماء عندما يستجدون الحكومة لحل مشكلاتهم المادية أو يبحثون عن المناصب ليتقاضوا ما يكفيهم من مرتب فإن غالبهم – وبلا أدني شك – سيضعف عنده إنكار المنكر وستخور قوته في قول كلمة الحق التي أمر بقولها، مع أن الدفاع عن الدين ومصالح الناس من أهم واجبات العلماء.  فالواجب على الأمة بأغنيائها وقياداتها وجميع أفرادها أن ترعى العلماء الربانيين وأن تقضي حوائجهم وتوفر لهم جميع ما يحتاجون إليه مما يعينهم على القيام بمسئولياتهم الضخمة التي حملهم إياها رب العالمين، وأن يغنوهم عن الآخرين وأن يوفروا لهم دخلاً مستقلاً يمنحهم الحرية والتحرر من رق الوظائف الحكومية!

 

ولعل الحل الجذري لهذه المشكلة الكبيرة والتي تفت في عضد الأمة وتضعف من قوتها يكمن في العمل على إنشاء أوقاف للصرف على العلماء كما كان يحصل في كثير من الأزمنة الماضية القريبة والبعيدة، فالأزهر مثلاً وفي أوج قوته وخدمته للأمة كان يوفر للعلماء دخلاً من الأوقاف المخصصة لذلك مما كان له الأثر الكبير في تجردهم وقوتهم في الحق. وقد يكون من المناسب تأسيس جمعية خيرية لرعاية العلماء وطلاب العلم تحفظ للعلماء كرامتهم وتسعى على سد حوائجهم دون أن يحتاجوا لأحد ودون أن يعيشوا مرارة البحث عن لقمة العيش مما يتسبب في حرمان الأمة من علمهم وعطائهم.

 

أذكر في مرة من المرات وقد مررت بكنيسة كبيرة جداً في بريطانيا يطلق عليها اسم "كاثيدرل" ودخلتها بغرض التعرف على ضلالات القوم وكفرهم لتحذير المسلمين وغيرهم من هذا الضلال المبين، وجدت في لوحة الإعلانات ورقة مكتوباً عليها " تبلغ مصروفات هذه الكنيسة 2200 جنيهاً إسترلينياً " أي ما يزيد على 10,000 ريالٍ سعوديٍ.  سألت أحد القساوسة: هذه المصروفات الشهرية؟ قال: لا! بل اليومية!!!  تعجبت كيف يصرف أهل الباطل هذه المبالغ الباهظة على قساوستهم ورهبانهم ويعجز أهل الحق عن أقل من هذا بكثير لإغناء علمائهم عن الحاجة للناس!