متى تحبس الأمة أنفاسها ؟

في الدقائق الأخيرة في المباراة الفاصلة يحتسب الحكم ضربة جزاء يتوقف عليها مصير البطولة , ويخيم على إرجاء الملعب صمت مطبق , ولا يجرؤ ضعاف القلوب على النظر للاعب وهو يتوجه لتسديد تلك الضربة , وتزيغ الأبصار وتلهج الألسنة بالدعاء وتتعلق الأنظار كلها بقدم ذلك اللاعب .
 
وما هي إلا لحظات وتعلن فيها النتيجة , فإما أن تتلون الحياة بلون وردي ضاحك مشرق ويتبادل الجميع التهاني  ويخرج الناس إلى الميادين مهللين , وإما أن تتلون بلون داكن اسود كالح ويسود الاكتئاب بين الناس وكل منهم يتهرب من مسئوليته ويلقيها على الآخرين .
 
وما هذه البطولات وغيرها إلا بطولات وهمية وشرف زائف وحلم كاذب سرعان ما ينتهي أثره وتنسى سيرته وليس لها قيمة أو اثر , ولا تستحق تلك اللحظات أن تحبس فيها الأمة أنفاسها .
 
ولكن الأمة الإسلامية قد مرت حقيقة بلحظات عصيبة توقفت عليها مسيرتها وكانت فيها الأمة في مفرق طرق ,  واستحقت تلك اللحظات والمشاهد أن يسود فيها الصمت المطبق وتحبس فيها الأمة أنفاسها انتظارا للمواقف الجادة والصادقة من رجالها وأبطالها , وكانت تلك اللحظات لحظات فارقة في تاريخها , وتعلقت فيها قلوب الأمة وعقولها ومصائرها - لا بأقدام لاعبي الكرة - ولكن بقلوب وألسنة وسواعد القادة والعلماء والمجاهدين .
 
كان وجود النبي صلى الله عليه وسلم ضامنا وأمانا للأمة ألا تحبس أنفاسها وتنتظر فالأمة مطمئنة بوجوده بينهم لقول الله عز وجل " وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " , فالنبي مؤيد من السماء والدين محفوظ , ففي مسند أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع قال صلى الله عليه وسلم " "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد و أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
 
 و بعد وفاته صلى الله عليه وسلم , بدأت حاجة الأمة للأبطال في مواقفها الفارقة والعصيبة لشدة المواقف التي تعرضت لها من بعده
 
ومن أوائل تلك المشاهد التي عاشتها الأمة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - مباشرة حين سمع الناس خبر موته , وكثر لغطهم وتباينت ردود أفعالهم , فمنهم من قال : لم يمت , ومنهم من لم تحمله قدماه , ومنهم من فقد وعيه أو البصر بعينيه لهول المصاب وشدة الفجيعة .
 
وحبست الأمة أنفاسها وتعلقت القلوب والأعين بالصديق - رضي الله عنه - الذي رزقه الله ثباتا ورباطة جأش , ففي البخاري تقول عائشة رضي الله عنها :" أن النبي، صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح - أي بالعالية - فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وقال عمر والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم , فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله قال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر , فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال {إنك ميت وإنهم ميتون} وقال " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين"  قال فنشج الناس يبكون ... "
 
فثبتت الأمة وسكنت بعد اضطراب وقتي لحظي , وعلمت أنه : إن كان نبيها- صلى الله عليه وسلم - قد حدث له ما يحدث لكل البشر من الموت فقد أدى أمانته وبلغ للناس ما أمره الله به وجاهد في سبيله بكل قوته ناشرا دين الله في الأرض , ودين الله باق وقائم وعليهم الاستمساك به والدفاع عنه كما فعل نبيهم صلى الله عليه وسلم .
 
 واستقر الأمر وذهب الكرب بثبات الخليفة الأول رضي الله عنه .
ويتكرر المشهد مرة أخرى في عهد الصديق بل بعض مضي أيام قليلة من خلافته , وتحبس الأمة أنفاسها مرة ثانية .
 
 فحينما علم الصحابة في المدينة بارتداد كثير ممن اسلموا في أواخر عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -  وتتباين الآراء وتختلف التصورات
فهل يقاتل الصحابة - الأقل عددا -  كل هذه الجموع التي لا قبل لهم بها التي ارتدت في وقت واحد وأنكرت فريضة الزكاة ؟ أم يتركونهم وما أرادوا فيصير الدين ألعوبة في أيدي الناس بعد ذلك يأخذون منه ويتركون بحسب أهوائهم ؟
وتقدم البطل مرة أخرى معلنا أنه سيقاتل كل من فرق بين الصلاة والزكاة , مؤكدا في عزم ويقين أنه لو لم يبق معه أحد ولو كان وحده في الميدان فلن يتراجع عن حرب أولئك المرتدين .
واشتد عزم الأمة وانطلقت الجيوش من المدينة إلى كل أرجاء الجزيرة في وقت واحد , معلنة استعداد جنود الله للدفاع عن كلمة الله حتى آخر قطرة في دمائهم  وخرج من المدينة إثنا عشر لواء كان أبو بكر رضي الله عنه على راس احدهم , ولم تمر ستة أشهر حتى عادت الجزيرة كلها مرة ثانية إلى حظيرة الإيمان .
 
وفي العصر العباسي تأتي فتنة خلق القران الكريم .
تلك الشبهة العقائدية الزائغة الضالة التي بثها المعتزلة واقتنع بها الخليفة المأمون ودعا الناس إليها بقوة السلطان , وأذعن الناس – فالناس على دين ملوكهم - ووقع الاضطراب وعظمت الفتنة واشتد الخطر , وتعلقت الأمة بعلمائها واحدا بعد واحد فهم صمام أمانها وقت شدتها ,  لكن بعضهم رأى موافقة الخليفة طوعا أو كرها , ولا زالت الأمة تنتظر , ولم يبق إلا - إمام أهل السنة - الإمام احمد بن حنبل رحمه الله الذي وقف أمام الخليفة ذي السلطان غير ناظر للدنيا وغير عابئ بالمصير المظلم الذي قد ينتظره , واضعا نصب عينيه رضا ربه تبارك وتعالى وناظرا إلى الأمة وحياتها بنقاء دينها مستشعرا دوره الذي منحه الله إياه والمسئولية الملقاة على عاتقه .
 

ويتجلى المشهد حين يقف احمد بن حنبل في سجنه وينصحه ناصح بان يهادن الخليفة ويسمعه ما يريد سماعه فيقول له : يا إمام, لو أنك ورَّيت فأبقيت على نفسك فقال له : انظر من خلفك عبر كوة في السجن , فنظر من خلفه فإذا ألوف قد جلسوا وهم يمسكون بالأوراق والأقلام ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد .

ثم قال له : يا هذا , لو أن أحمد بن حنبل ورى ما يدري هؤلاء أن أحمد بن حنبل يقول بالتورية , ثم قال " إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يتمادى في جهله، فمتى يتبين الحق؟ " وكان يقول: "من ينجّيني يوم القيامة من هؤلاء الذين يمسكون أقلامهم ينتظرون ما أقول؟

وينجح الإمام أحمد بن حنبل في هذه المحنة وتنتصر الأمة في هذا الاختبار بعد أن حبست أنفاسها وانتظرت .
 

ومشهد آخر حبست فيه الأمة أنفاسها , بعد أن اجتاح التتار معظم أرجاء العالم الإسلامي وهتكوا ستر بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية وأبادوا أهلها وخربوا معالمها وعاثوا فسادا في كل شبر فيها , واشتد الكرب على الأمة التي يؤرخ لها ابن الأثير في أحداث سنة 617 وكان معاصرا لها محجما عن كتابتها حيث يقول : " لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ؟ فيا ليت أمي لم تلدني ، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً , ويقول " إنها الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن،لم يبتلوا بمثلها ،لكان صادقاً ،فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. [1]

وتعلقت قلوب الأمة بالقائد المجاهد سيف الدين قطز ومعه ركن الدين بيبرس ومن خلفهم يدفعهم ويحمسهم العالم الرباني " العز بن عبد السلام " الذي يتحرك في اتجاه تثبيت القلوب وتعظيم الأجر وتحفيز الناس للجهاد وتحقير شان الدنيا وبث الثقة والأمل في الجند والقادة معا.

فثبتت الأقدام ورسخت القلوب واطمأن الناس لنيلهم إحدى الحسنيين , وواجهوا تلك الجيوش التي لم تكن تعرف التوقف عن الولوغ في الدماء وثبتوا أمامهم , وانتصر الجيش المسلم الموحد القليل العدد والعدة على أقوى جيوش الأرض حينها في معركة عين جالوت .

ولم تكن هذه المشاهد إلا غيضا من فيض مواقف مشرفة لقادة الأمة وعلمائها ومجاهديها حين حبست الأمة أنفاسها وانتظرت وكان لها من الرجال من يستطيعون أن يلبوا لها حاجتها

ولنا أن نتساءل :

هل هناك اليوم قائد تنتظر الأمة  كلها موقفه ؟ وتتلهف على سماع كلمته التي  تتوقف مسيرة الناس عليها ليمضوا في الطريق الذي يرسمه لهم ؟

أو هل هناك زعيم أو قائد يعلن رأيا تجمع الأمة عليه  أو يحسم بكلمته خلافا فيزيله أو شبهة فيبينها ويظهرها

هل هناك عالم في جميع أرجاء الأمة الإسلامية يتطلع الناس إلى فتواه وكلمته التي يستطيع بها أن يهز أركان العالم فلا يقوى على الاستهانة بها لعظم تأثيرها على الناس ؟

وهل هناك خطيب للجمعة  - على كثرة الخطباء والمساجد - ينتظر الناس خطبته بترقب وشغف وتهتز له المنابر وتتغير على يديه أفهام الناس وتوجهاتهم وينطق بالحق المر أو يعلمهم في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ .

 

وعلى الرغم من كثرة المطبوعات العربية وتنوع وسائلها اليوم , فهل هناك كاتب – في أي ميدان -  تنتظر الأمة ما تخطه أنامله بشوق ولهفة وانتظار لتلك الكلمة التي تفعل في الناس فعل السحر فتحرك الجماهير وتصلح ما يفسد المفسدون ؟ وتضع الحق في نصابه وتستخلصه من بين ركام الزيف والبهتان ؟ .

أم هل هناك عالم أو صحفي أو محلل في أي مضمار أيضا تنتظر المطابع بلهفة ما تجود به قريحته حتى تدور آلاتها وتخرج للناس موقفا واضحا ثابتا لا تلون فيه أو مداراة ولا مواربة .

 
لن نتوقف عند الأسئلة  كثيرا فما أكثر الأسئلة التي ليس لها إجابات !!!
 
إن الأمة اليوم بحاجة إلى هذا الصنف من الرجال في كل الميادين , هذا الصنف النادر بل المفقود يتطلع إليه كل من يتمنى أن يرى في الأمة خيرا حتى لا ينطق الرويبضة ويتحكم في الرجال أنصاف الرجال وأشباه الرجال .
 
وحينما تخلو الساحة من روادها الحقيقيين الذين يستحقون أن يكونوا أبطالها سوف يرتقى النصابون المخادعون منابرها ويدغدغون مشاعر الأمة بزعامات زائفة وضيعة وما هم إلا أقزام ليس لهم وزن ولا قيمة .
 
إن جل مناهج التربية اليوم لا تستهدف إلا معالجة الخلل التربوي وتقويم الخطأ فيه – وهذا محمود لاشك - فهذا جزء من دورهم – ولكن تلك المناهج لا تعني بوضع الأسس والبرامج والمناهج التربوية التي يُربى عليها النخبة والصفوة والتي تهتم أكثر ما تهتم بتخريج الأبطال في كافة الميادين .
 
إنها أعظم مهمة لعقلاء المربين وفضلائهم أن يصيغوا ذلك المنهج الذي يصلح لصناعة الأبطال خاصة لمن يجدون فيهم المقومات الفطرية اللازمة فلابد من الانتقاء للبذور التي تمتلك المؤهلات اللازمة لتلك البطولة وذلك وفق نظرة المربين الثاقبة في النشئ .
 
 إن هؤلاء الأبطال يحتاجون إلى إعداد وصناعة تنطلق من قول الله عز وجل عن موسى عليه السلام " ولتصنع على عيني " يقول ابن عاشور في تفسيره للآية " والصنع : مستعار للتربية والتنمية ، تشبيهاً لذلك بصنع شيء مصنوع ، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة : هو صنيعة فلان "
وآيات الله قائمة اليوم وكتابه معين لا ينضب والسنة النبوية والسيرة الشريفة ينتظران من يستخرج منهما منهجا شرعيا تربويا لصناعة الأبطال .
 
 
 


[1]العلامة ابن الأثير ـ في كتابه "الكامل" 10/399