التعريب وعقدة التغريب

يقال اللغة وعاء الفكر؛ فالثقافة توصلها اللغة، واللغة وسيلة تعبير عن الثقافة وبينهما علاقة وثيقة. وقد عنيت أمم الأرض قاطبة بلغاتها في القديم والحديث لأنها عامل من عوامل وحدة الشعوب، وسبب من أسباب الحفاظ على هويتها، ولعل اللغة العبرية مثال واضح على ذلك في عصرنا الحديث. ففي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، لما أزمع اليهود على إنشاء وطن لهم في ما يسمونها أرض الميعاد، ظهرت حركة إحياء اللغة العبرية التي ظلت لقرون طويلة قاصرة على أداء الطقوس الدينية في المعابد، وكانت عملية الإحياء هذه أمراً صعباً لضياع كثير من مفردات اللغة مما اضطر علماء العبرية الاستعانة باللغة العربية لكونها لغة سامية مثل العبرية حتى ألفوا ما يعرف بالعبرية الحديثة والتي صارت لغة التخاطب والتعليم لكل من يسكن دولة الصهاينة سواء كان من اليهود القادمين من مختلف أنحاء الدنيا، أو من العرب الذين يسمونهم عرب 48 ويتبعون لما يسمى دولة إسرائيل. أما العبرية التوراتية التي لا تصلح لاستخدامها في الحياة العامة لضياع كثير منها فلم يتخل عنها اليهود بل جعلوا تعليمها إلزامياً في المناهج المدرسية الإسرائيلية!
أما في بلدان عالمنا العربي فقد سادت فكرة عجيبة غريبة ملخصها أن العجمة هي عنوان المدنية! وأن العربية تصلح لتدريس المواد الشرعية والتراثية لكنها لا تصلح لدراسة العلوم التجريبية والطبيعية! وأن مجيد العربية لا يستفيد منها في حياته العملية شيئاً لأن عصر العلم والتقنية يتطلب اتقان اللغات الأجنبية لا سيما الإنجليزية!
عجباً من هؤلاء الأعاريب المُستغفلين المستعبدين! عجباً ممن كان أسلافهم يسمون من لا يتكلم العربية أعجمياً تشبيهاً له بالحيوانات العجماوات لأنهم كانوا يعدون اللسان العربي هو اللسان المبين وهو كذلك. كان العربي معتزاً بلسانه في جاهليته وإسلامه، فعصمه الاستمساك بالعروبة في الجاهلية من الذوبان في حضارات فارس والرومان، وكانت العربية سبباً في وحدة الدولة الإسلامية الممتدة من المحيط إلى المحيط. أما علوم الطب والفلك والرياضيات والكيمياء فقد نمت وترعرت في حجر الدولة الإسلامية التي لم يسد فيها غير اللسان العربي، وبقي الحال كذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي لما ولّى اللورد البريطاني كرومر والذي كان يحكم مصر القس دنلوب وزارة المعارف فجعل الإنجليزية لغة التعليم، ومنها تسربت الآفة للسودان، وفرضت الفرنسية في المغرب العربي، وهكذا كان الحال في سائر البلدان العربية التي ابتليت بالمحتلين الغربيين. ومنذ ذلك الزمان شاعت الفرضية اللعينة، وتبناها كثير من العرب، وما زالوا ينافحون عنها كأنها حقيقة قطعية لا شك فيها رغم أن مروجي الفكرة الأوائل هم ممثلو الاحتلال والمؤسسات التنصيرية.
إن العبرية الحديثة الملفقة من العبرية والعربية والتي لا يتجاوز عدد المتحدثين بها 6,5 مليون بما فيهم عرب 48 وبعض عرب الضفة والقطاع تصلح لتدريس العلوم النظرية والتطبيقية، والعربية التي يتحدثها 423 مليون والتي كتبت بها أولى مراجع العلوم التطبيقية لا تصلح لغير المواد الشرعية والتي لم يعد لها أي أهمية في حياة هؤلاء المستنيرين لأنهم مقتنعون بفرضية أخرى مؤداها أن سبب الثورة العلمية والتطور التقني هو التحرر من قيود الدين! وبالطبع لم يفكر هؤلاء المستنيرون المتطورون في الفرق بين الإسلام الذي بدأ تطور العلوم أيام سيادة حضارته، والنصرانية المحرفة التي كان كهنتها الجهال يقضون بحرق العلماء أحياء لأنهم يخالفون أهواءهم والتي يسمونها زوراً وبهتاناً قوانين إلهية.
أما نتيجة هذه الفرضية الباطلة فهو عجز الكثرة الغالبة من طلابنا عن الفهم الدقيق، وطلاقة التعبير باللغة الأجنبية، فيجدون أنفسهم مضطرين لاستظهار ما يلقنون، لذا نجدهم في مواقف النقاش العلمي ملجمي اللسان، محجمين عن السؤال أو الجواب، فتكون اللغة الأجنبية بذلك سبباً في ضحالة العلم الذي يحصلونه لأنهم لا يمتلكون أدوات الفهم والنقد والتحليل والمناقشة إلاّ الفذ أو القليل! أما جمهورهم فلا، وأنى لمثل هؤلاء الطلاب الإبداع والاختراع والابتكار! لذلك ليس بالعجيب أن تخرج جامعات العالم في مشارق الأرض ومغاربها العلماء والباحثين ولا تخرج جامعاتنا سوى أرتال الموظفين –هذا إن وجدوا وظيفة-، وحتى هؤلاء يعمل كثير منهم في مجالات قد تكون بعيدة كل البعد عن مجال دراستهم.
ومن سوءات تلقين الطلاب العلم بلغة أجنبية كذلك إضفاء هذا الوصف الأجنبي على العلوم نفسها فلا يشعر الطالب بالانتماء إليها، ولا يصبح العلم والأسلوب العلمي جزءاً عضويًّا من كيانه الفكري والسلوكي، لذلك ليس بالعجيب أن نرى الكثرة الغالبة من أبناء أمتنا مبهورة بالعلماء الغربيين حتى إن بعضهم لو سمع بطبيب أو عالم غربي حديث عهد بإسلام يتحدث عن جانب من جوانب الإعجاز العلمي في القرآن أو السنة حسب فهمه –القاصر في كثير من الأحيان- تملكه العجب بل ربما اعتمد كلامه وجعله التفسير الوحيد لتلك الآية أو ذاك الحديث! مع أن في كلام بعض هؤلاء المسلمين الجدد خلط غريب، وتأويلات أشبه ما تكون بتأويلات الباطنية!
وعندما تثبت الدراسات والبحوث أن التعلم باللغة الأجنبية أضر بمستوى طلابنا ينبري أصحاب الفرضية اللعينة لطرح الحل الناجع للمشكلة ويقررون رفع مستوى الطلاب في اللغة الأجنبية بالتبكير في تدريسها متناسين أن اللغة الأجنبية ليست مجرد مفردات وتراكيب نحوية وإنما هي وعاء لثقافات وعادات وقيم للناطقين بها، وتعريض الناشئة لمثل هذا يهدد الهوية القومية، لذلك لا تسمح كثير من دول العالم المتقدم علمياً تدريس لغة غير اللغة القومية قبل المرحلة الثانوية.
ومثل هذا الانحراف في التفكير جعل المدرسة المتميزة في نظر كثير من الآباء والأمهات هي المدرسة التي تبالغ في الاهتمام باللغة الأجنبية، وبالطبع لم يتوان التجار في استغلال هذا الوهم والتكسب من ورائه، حتى بلغ الحال بكثير من هذه المدارس المتميزة الغالية تخصيص أربع حصص للغة الأجنبية في الأسبوع لطلاب التمهيدي!
ولو تحررنا من وهم ضرورة تعليم الناشئة اللغة الإنجليزية وفكرنا في حقيقة الفائدة التي يجنيها الطلاب من تعلم تلك اللغة الأجنبية لوجدنا أن كثيرين منهم لا يستفيدون منها شيئاً البتة، فلم يفرض عليهم إذن تضييع أوقاتهم، واستفراغ جهودهم فيما لا نفع لهم من ورائه بل قد يكون سبباً في تأخرهم؟ فالواقع يشهد أن نسبة مقدرة من الطلاب تجد صعوبة في استيعاب مادة اللغة الأجنبية وربما كانت سبباً في إعادة بعضهم بعض الفصول الدراسية رغم نجاحهم في غيرها من المواد، فتضيع عليهم السنوات، وربما كان لتأخرهم عن زملائهم أثراً نفسياً سيئاً، كل ذلك في سبيل تعلم مادة ربما لم ينتفعوا منها في حياتهم قط، وفي الغالب سوف ينسونها بعد مغادرتهم مقاعد الدراسة، وتحررهم من هم الالتزام بمراجعة قواعدها وفهم معاني مفرداتها.
أما "بالنسبة للآثار المترتبة على ازدواجية اللغة في التعليم, فإن الدراسات التي أجريت في النصف الأول من القرن العشرين أكدت وجود ظاهرة الإعاقة اللغوية عند الأطفال الذين يتعلمون لغتين. وقد اعتمدت تلك الدراسات على مقارنه مستوى الأطفال الذين يدرسون لغة واحدة بالأطفال الذين يدرسون لغتين, ووجدت أن هؤلاء يعانون من قصور لغوي بالمقارنة مع الفئة الأولى. وقد اتضح ذلك القصور في مجالات مختلفة لكن كان الفرق بين المجموعتين واضحاً في معرفة المفردات ومعانيها، وفي الكتابة الإنشائية والقواعد.
أما الدراسات التي أجريت في النصف الثاني من هذا القرن الميلادي المنصرم حول آثار تعليم لغتين معاً فقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأطفال الذين يتعلمون لغة واحدة كان أداؤهم ونتائجهم أفضل من أداء ونتائج الأطفال الذين يتعلمون لغتين في اختبارات القدرات الكتابية. كما أكدت هذه الأبحاث أن الأطفال الذين يدرسون لغتين قد يعانون من الإعاقة اللغوية، وتواجههم بعض المصاعب المرتبطة باجتهادهم ليتأقلموا مع نظام اللغتين"[1]. مع ملاحظة أن هذه الدراسات أجريت على لغات متقاربة في حروفها وتراكيبها وإن كانت مختلفة في نحوها وقواعدها مثل الإنجليزية والفرنسية واللتان تدرسان في كندا لأن بعض مواطنيها يتحدث الإنجليزية والبعض الآخر يتحدث الفرنسية، وكذلك الإنجليزية والإسبانية واللتان تدرسان في بعض المقاطعات الأمريكية لذات السبب. ولا شك أن مثل هذ المشاكل تتضاعف عند تدريس لغتين مختلفتين كل الاختلاف كما هو الحال بالنسبة للعربية والإنجليزية.
إن الذين يحتاجون للغة الأجنبية لاشتغالهم بالبحث العلمي وهم قلة قليلة بإمكانهم أن يتعلموا اللغة الأجنبية في عام واحد، وهذا ما يحدث حالياً مع كثير من المبتعثين.
والواقع المشاهد يبين أن أبناءنا وبناتنا رغم فرض المقررات الإنجليزية عليهم في مراحل الدراسة المختلفة لا يتمكنون من إتقان اللغة الأجنبية وربما حتى الحديث البسيط بها رغم دراستهم لها طوال ست سنوات أو يزيد، لذا يعاد تدريسهم لها في السنوات التحضيرية في الجامعات، وتعقد الدورات التدريبية المكثفة لمن يضطره عمله للتعامل بها، وعادة ما يفلح هؤلاء بسبب نضجهم.
أما عامة الخريجين فلا يحتاجون غالباً للغة الأجنبية ولا يستعملونها إلا من باب تطعيم الكلام بها لإظهار التمدن والتحضر كما يتوهمون وليس ثمة ضرورة تلزمهم استخدامها –غالباً- في بلدان المسلمين مع الوافدين. أما مزاعم البعض بأن سوق العمل تتطلب المقدرة على الحديث باللغة الأجنبية فزعم ربما كان صحيحاً في نطاق ضيق جداً، إذ الغالب على حال الناس هو تعاملهم مع عمالة وافدة متوسطة التأهيل والكفاءة، لا تفعل شيئاً غير عرض البضائع، وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وضبط المراسلات، وهؤلاء من المفترض أن يشترط قبل توظيفهم مقدرتهم على الكلام بلغة البلد -كما يحدث في كل الدنيا- لا إلجاء أهل البلد لرطانة الأعاجم من أجل التعامل مع هؤلاء. أما أصحاب الكفاءة العلمية العالية، والذين يعملون في مشاريع تقدم خدمة حقيقية للبلاد فلا يخالطون في العادة عامة الناس، وإنما يحتكون مع نظرائهم من المختصين من أهل البلد وهؤلاء يمكنهم الاستعانة بالمترجمين إن لم يكونوا يعرفون لغة البلد ولم يكن من يحتاج إلى التعامل معهم من أهل البلاد قد تعلم لغتهم، وهذا ما يحدث في اليابان والصين اللتان لم تمنعهما لغاتهما البدائية من التعلم بها بل والتفوق والإبداع، ولم تحل بينهما وبين التواصل العلمي مع كل بلاد الدنيا.
إن محل اللغات الأجنبية الطبيعي هو كليات اللغات والترجمة فقط، ودورات اللغة لمن يحتاجها في عمله، أو دراساته العليا، أو غير ذلك، أما أن تنتشر مراكز اللغات في طول البلاد وعرضها، ويتقاطر الناس إليها في الصباح والمساء دون أن يكون لهم هدف واضح من ذلك غير التكلم بما يتوهمون أنها لغة العصر، ثم يخرجون بحصيلة محدودة لا تساوي الزمن الضائع، ولا المال المبذول فمؤشر على حجم المشكلة الثقافية التي تتهدد الأمة.
إن تعريب العلوم ضرورة دينية وحضارية وعلمية وهو أمر مستطاع، لا تعوقه سوى الإرادة الضعيفة، ولو اعتبر هدفاً أممياً لأنجز في سنوات قلائل لا سيما أن بعض الدول العربية خطت في ذلك خطوات جيدة، وهناك آليات كثيرة من شأنها أن تسرع عملية التعريب كجعل تعريب المراجع واحداً من أعمال أساتذة الجامعات، وربط الترقيات والحوافز بها.
ختاماً نقول هاهي ذي دولة الصهاينة استطاعت خلال ستين عاماً فقط أن تجمع شراذم اليهود وتصهرهم في دولة واحدة وتجمعهم على لسان واحد وتصنع منهم دولة نووية صناعية تتسابق دول العالم على استرضائها. بل من العجيب أنهم لفرط حساسيتهم تجاه لغة من كانوا أعداءهم يوماً ما غادر عشرة من نوابهم مبنى البرلمان لما خطبت فيه المستشارة الألمانية بلغة بلادها، رغم أنها بدأت كلامها بعبارات عبرية، ورغم أن مضمون الخطاب كان التأكيد على حرص بلادها على أمن ما يسمى إسرائيل، والاعتذار عن المحرقة (الهولوكوست) التي ابتدعها الخيال اليهودي وألصقها بالألمان، ورغم أن المعهود في كل بلاد الدنيا أن يتكلم رئيس الدولة بلغة قومه، لكن الصهاينة رأوا في السماح بالحديث بلغة قتلة أجدادهم كما يزعمون إهانة لهم، لذا لم يقف الأمر على احتجاج النواب بل تعداهم إلى الصحف والشارع العام، فأين عزتنا بلغة القرآن والهوية والثقافة؟
 
 




[1] د. نجاة عبدالعزيز المطوع: تأثير اللغات الأجنبية على اللغة الأم، بتصرف، والمقال موجود على الرابط: http://www.acmls.org/MedicalArabization/10thIssue/mj1064.htm