الانتخابات الكويتية ومفارقاتها الأربع
27 جمادى الأول 1430
أمير سعيد




[email protected] 

لا تخلو الحالة السائلة للمزاج السياسي وعوامل التأثير في الانتخابات الكويتية من مفارقات وطرائف أحيانا تجعل المنافحين عن أي من القوى المؤثرة وأيديولوجياتها المتباينة في حالة من الارتباك إذا ما أرادوا الدفاع عمن يشاطرونهم الأفكار والتوجهات والقيم بنحو لا ينقل إلى مشاهديهم وقرائهم هذا الارتباك.

الانتخابات التي جرت بعد أقل من عام من أختها التي خلفت مجلساً مضطرباً آل إلى الحل عندما صارعت بعض قواه المعارضة الحكومة ورئيسها بعد سلسلة من الملفات الشائكات المتفرقة التي جالت بالخلافات السياسية ناحية الاقتصاد المتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية، بما أطلق عليه النائب الكويتي د.وليد الطبطبائي اسم "السرقة الثالثة الكبرى"، والتي أنهكت الطبقتين المتوسطة والأدنى من المتوسطة في المجتمع الكويتي في أثناء تعاطي ذوي النفوذ الاقتصادي مع الأزمة الاقتصادية في منحاها المحلي، والأزمة الداخلية التي فجرها نجاح الإسلاميين في إيقاف صفقة شركة داو كيميكال (Dow Chemical) الأميركية مع شركة الصناعات البتروكيماوية التابعة لمؤسسة البترول الكويتية التي اقترب حجمها من رقم 20 مليار دولار، والتي عقدت والشركة الأمريكية على وشك الإفلاس، بما اعتبر "قبلة حياة" منحت للشركة المذكورة، وجعلها تطالب بمبلغ 2,5 مليار دولار تعويضاً عن إيقافها في حينها.

وجالت ناحية الطائفية عندما أفضى السماح لشيخ شيعي متهم بالإساءة للذات الإلهية بدخول الكويت، ما استفز النواب الكويتيين ودعاهم إلى استقالة الحكومة في حينها، ما فجر أزمة بدورها، وأسبغ عليهم مصطلح "نواب التأزيم" لرفضهم تمرير مسائل كهذه، وسابقتها، واعتراضهم المتكرر على سياسة الحكومة الكويتية، لاسيما رئيسها السابق والمكلف.

على كل حال؛ فقد أفرزت الانتخابات الأخيرة واقعاً جديداً، سرعان ما أبهج الفائزين فيها، وهذا منطقي، وأدخل السرور على الإعلام العربي والعالمي وهذا منطقي كذلك؛ فالجميع أعرب عن سعادته بها، بمن فيهم إيران التي أعرب المتحدث باسم خارجيتها حسن قشقاوي عن سعادة بلاده بنتائج الانتخابات قائلاً: "نهنئ الكويت حكومة وشعبا على إجراء الانتخابات وخاصة انتخاب 4 نساء". (الطريف أن التهنئة الخجولة التي لم ترد تبرز سعادتها بفوز الطائفة الشيعية بنسبة عالية لها في البرلمان الكويتي، وإنما غلفتها بمسألة النساء، جاءت من دولة تمتلئ مواقع المقاطع المصورة في الشبكة، يوتيوب وغيرها، بمشاهد لنسوة يُضربن في قارعة الطريق لعدم التزامهن بنظم إيران).

عموماً هناك ترحيب لافت في كل وكالات الأنباء والقوى الرجعية العلمانية تقريباً بتراجع "التيار الإسلامي السني" في هذه الانتخابات، وصعود كلٍ من التيار الليبرالي والشيعي، واحتفاء من نوع خاص بتمكن 4 نساء للمرة الأولى في تاريخ البرلمان الكويتي من دخوله، وهو ما تم تفسيره تحليلياً على أنه "عقاب" من الشعب الكويتي لـ"الإسلاميين"، سلفيين وإخوان على مواقفهم التي أصابت ـ بنظرهم ـ الحالة السياسية بالشلل خلال عمل المجلس السابق..

لا غرو في كل هذا، فالمتوقع أن يحدث ذلك بطبيعة الحال، لأن التيار الليبرالي عموماً يرى أنه نبت غريب في المجتمعات العربية، يفاجئه بقوة أن ينجح في إحدى الجولات، ولا يكاد يصدق ذاته، وكيف أن شعباً مسلماً كالكويت يمنحه أقل من ربع أعضاء المجلس، ومن ثَم كانت فرحته لا تقدر بثمن.

ورغم هشاشة انتصاره بالنظر إلى كونه نجح اعتماداً على إخفاق الخصم نوعياً في قراءة المشهد، وبالنظر إلى قصر المدة التي غير فيها الشعب الكويتي مزاجه الانتخابي، والتي لم تتعد سنة حولت حصة "الإسلاميين السنة" من 13 مقعداً إلى 3 فقط هذا المجلس.

وهنا نرى أن الانتخابات قد حفلت بعدة مفارقات بعضها يحمل في طياته طرائف تجعله أقرب إلى الإضحاك منه إلى الدلالة المنهجية، كون ما جرى في صناديق الانتخابات لا يعبر حقيقة عن تبدل أيديولوجي أو تغير في النظرتين الاقتصادية والاجتماعية لدى الناخب الكويتي..

فأول تلك المفارقات هو أن الليبراليين قد طاروا فرحاً بانتصار لم تفرزه إلا شهور فقط من الأداء البرلماني المشلول سابقاً، بما لا يجعل سعادتهم مبررة كونها لا تعبر عن قناعة راسخة لدى الناخب، وإنما عرض أطل فجأة في مزاجه الشخصي أدى إلى تبدل الخريطة هكذا بين يوم وليلة.

وثانيها أن دخول المرأة في البرلمان قد صيره الفرحون عنواناً لعهد جديد للمرأة، وبالغوا به حتى قفزوا به من خانة الوسيلة إلى خانة الهدف، إذ صار مبلغهم من الطموح أن تطأ أرضية المجلس أحذية نسائية من دون أن يتحدث أحد عن الأداء البرلماني للعضوات الجديدات ومدى نجاحهم في فرض أجندتهم على الساسة الكويتية داخلياً وخارجياً.

ثَمَّ، لا يتكلم الفرحون عن اختراع جديد قدمه هؤلاء ـ أو غيرهن ـ للعالم، أو مثالاً فكرياً واجتماعياً يحتذى، أو تجربة رائدة ترتفع بالمستويين المعيشي والفكري للمجتمع الكويتي، بما أبدى الفرحين في موقف بائس لأنهم قد "جاهدوا" في سبيل دخول المرأة للبرلمان منذ خمسين عاماً حتى نجحوا في ذلك الآن.. وبانتظار فترة مشابهة لنسمع عن إنجاز حقيقي بعد ذلك!!

إننا لا نعادي المرأة، لا الكويتية، ولا غيرها، ولكن نكره استغفالها باسم الحرية السياسية، لصناعة انتصار وهمي لا يقدم ولا يؤخر، ومع ثقتنا عموماً بقدرة المرأة العربية على صنع إنجازات عديدة رأينا منها ما يفوق الخيال على سبيل المثال في فلسطين والعراق وحتى الصومال، إلا أننا لسنا مضطرين لتصديق أن من زجوا بالمرأة الكويتية في أتون السياسة يريدون لها أن تمارس معارضة حقيقية وتفتح ملفات الفساد وتنادي بإعادة النظر في العديد من الاتفاقات الدولية، وتمارس دوراً ما في وقف النزيف المالي الخليجي المستثمر عند أعداء المرأة الكويتية الحقيقيين.

إن تحول الوسيلة إلى غاية هو إحدى المفارقات التي لم يفطن إليها الفرحون، أو ربما يتجاهلونها عمداً لغاية في نفوس أحفاد يعقوب ترمي إلى زلزلة بنيات المجتمع عبر شعارات سيتبدى للناخبين والناخبات أنها سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه وجد أنه محشور بين خياري "المجلس المستأنس" أو "المجلس المنحل"، ولا غير..

وثالثها، هو ازدياد الهوة بين السنة والطائفة الشيعية التي حصلت على 9 مقاعد هذه المرة، معبرة عن نجاح كبير حصدته عبر تحشيد الطائفة خلف رموزها، والمفارقة الأكثر دلالة، هو تخلي جميع الوكالات والفضائيات عن تناول الموضوع كارتفاع لمستوى تمثيل "الإسلاميين" عموماً في البرلمان، بمعنى أن الاستقطاب قد صار واضحاً بحيث لم يعد يصلح وضع متديني السنة والشيعة تحت مسمى "الإسلاميين" مثلما كان دارجاً طوال الفترات الماضية، إن في الكويت أو البحرين، وأن ما يعتري المنطقة العربية والإسلامية من بروز مسألة الطائفية لم يجافي الكويت المعروفة بمحاولتها الدؤوبة لتغييب الشعور الطائفي تحت قشرة بدت الآن أكثر رقة تُسمى "التسامح الطائفي" أو "الديني"، ما يبين منه أن الاستقطاب والتمايز لم تنجُ منه الكويت بديوانياتها وقبائلها.

الأخيرة، تتعلق بالمسألة القبلية، التي ظهر أنها هي الأخرى آخذة في الحضور السياسي بشكل يتجاوز أو يتقدم على القيم الأيديولوجية الحاكمة لخيار الناخب الكويتي، ويكاد الجميع في كل القوى والطوائف يكون قد تأثر بهذه المسألة إن فوزاً تحت مظلتها، أو هزيمة خارجها.

وهذه النقطة غير غائبة عن المزاج الخليجي كله الآن، وهو ما بات يحذر منه محللون في السعودية والكويت وغيرهما، بعد أن أعادته الأحداث خلال العقد الماضي للواجهة.

والحاصل في النهاية، أن الانتخابات قد عبرت عن وقوع الكويت في أسر المحيط الإقليمي بشدة، إذ ما جرى في العراق طائفياً وعشائرياً قد أثر كثيراً عليها، وما أنتجته الآلة الإعلامية من تأثير على التفكير الجمعي للمجتمع الكويتي برغم إقرارنا مع ذلك بأن اللحظة الانتخابية الراهنة طارئة وعاجزة عن عكس الشعور الإسلامي والوطني الكويتي بصورة دقيقة.

وبرغم كونها طارئة، إلا أن السلفيين والإخوان الكويتيين بحاجة إلى إنضاج مراجعة كاملة لأجندتهما السياسية التي قادتهما إلى هذا التراجع الشعبي، إذ أننا مع تأكيدنا على عفوية بل عبثية النتائج هذه المرة، إلا أننا لن ننكر أن ثمة من نظموا صفوفهم بدرجة عالية قادتهم إلى الانتصار الظرفي، وغيرهم لم يفعل ولم يقم بما يوازي ذلك.

الطريف ـ أخيراً ـ أن مسألة "تداول السلطة" أو تداول الأغلبية في البرلمان الكويتي، لم يبدُ أن التيار الليبرالي وأصحاب الحركة النسوية أنفسهم مؤمنون بهh، لأنهم لم يصدقوا أن "الإسلاميين" إذا انتصروا مرة لن يخسروا أبداً.. إنها ثقة متدنية بأنفسهم نحييهم كثيراً عليها، وبذلك فليسعدوا!!