السياسة التركية الناعمة في الخليج العربي
5 جمادى الأول 1430
عماد خضر

تؤشر زيارة الرئيس التركي عبد الله غول للمنامة إلى حجم الدور الذي تسعى تركيا للقيام به في منطقة الخليج العربي ومقدر الثقل الدبلوماسي الذي ترمي به لتثبيت الملفات الاستراتيجية التي وقعتها مع المنظومة الخليجية في سبتمبر الماضي ضمن مذكرة تفاهم غطّت كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الأمنية والعسكرية، وذلك أثناء اجتماع وزارة خارجية الدول المعنيّة في مدينة جدّة في المملكة العربية السعودية. حيث تأتي هذه الزيارة والسياسة التركية تعيش أوقاتا زاهية بالإنجازات التي حققتها عبر تطبيق دبلوماسية متعددة الأطراف.

 

فقد قدم الرئيس غول وثيقة حسن نوايا عندما أكد دعم بلاده وحدة واستقرار البحرين، وبدت هذه التصريحات تعقيبا على الأزمة الدبلوماسية التي نشبت قبل شهور بين المنامة وطهران إثر تصريحات إيرانية عدائية قال فيها مسؤولين إيرانيون رفيعي المستوى أنهم يعتبرون البحرين إحدى الولايات الإيرانية، غير أن البلدين توصلا على تفاهمات دبلوماسية عالجت المسألة. وأيضا لجهة تشديده على موقف تركيا الداعي إلى حل سلمي لأزمة الملف النووي الإيراني، ودعوته كافة دول الشرق الأوسط إلى التوقيع على الترتيبات الدولية الرامية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.

 

سياسة تركيا تجاه منطقة الخليج العربي خاصة والمنطقة العربية عامة، تحمل العديد من الدلالات ، فقد برزت تركيا بإجماع كافة المراقبين كلاعب رئيسي في المنطقة خاصة بعد مواقفها الشجاعة من العدوان الصهيوني على غزة، وقد رفعت من أسهمها الإقليمية عندما استطاعت امتلكت بيدها خطوط الاتصال والتواصل مع الفاعلين المؤثرين إقليميا وعالميا ، أمام تراجع غير مشهود لأدوار الدول العربية المركزية في النظام العربي الذي وصل إلى درجة من الاختناق دعت إلى تصدير قضاياه إلى فاعلين إقليميين ودوليين، وأحد نظمه الفرعية المهمة (النظام الخليجي)، الذي ظهر أثناء قمة مسقط الأخيرة وكأنه صورة مصغرة للنظام العربي. وهو ما سمح لتركيا في آخر المطاف بالانخراط في مشكلات الشرق الأوسط حيث قامت بدور الوسيط بين لبنان وسوريا، وتتوسط في المفاوضات غير المباشرة بين الأخيرة وإسرائيل منذ فترة غير قصيرة، وأعلنت استعدادها للوساطة بين الإسرائيليين وحركة حماس . ومن هذا المنطلق، فان علاقات تركيا مع جميع الفاعلين المحليين، سيكون مفيدا جدا لدول الخليج العربي .

دور إقليمي معتدل
وبالرغم من نفي مساعي تركيا لتحقيق توازن إقليمي مع إيران في الخليج العربي، نجد أن موقع تركيا وحجمها وعدد سكّانها وقوّتها العسكرية التي تتشابه نسبيا لما تمتلكه إيران، يؤهلها لان تدخل طرفا في معادلة جيو- إستراتيجي ، خاصّة أن السياسة الإيرانية محل شك وريبة من دول الخليج العربي منذ احتلال العراق عام 2003، ففي الوقت الذي لا تفرض فيه تركيا نفسها بالقوة على المنطقة ، فإنها تقدّم نموذجا مغايرا عن النموذج الانتهازي الذي تقدّمه إيران وتبتعد سياستها عن كل ما من شأنه أن يثير اللبس والغموض. فتاريخيا كانت تركيا حاميّة لتخوم البلاد الإسلامية وبالتالي يمكنها أن تعيد تقديم نفسها هذه المرّة من باب الاعتدال الإسلامي الذي يقي من شر النفوذ الإيراني.
أمام هذه الصورة الإيجابية، لا يمكن التقليل من حجم التحديات التي تحفل بها المنطقة أهمها تلك النابعة من النفوذ الإيراني من جانب، والإسرائيلية من جانب آخر، ناهيك عن التصور الأمريكي للشرق الأوسط، والذي لديه حساباته ولديه حلفاؤه وأيضا أعداؤه؛ وعلى تركيا هنا تفهم جيداً المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وأن تتوقع تنافساً في بعض المجالات، وتنسيقاً في مجالات أخرى، وبالتالي فإن حرص تركيا على لعب دور فاعل في المنطقة يأخذ شكلاً من أشكال العلاقات التعاونية بين إسرائيل وتركيا من جانب، وبين تركيا والدول العربية الرئيسية كمصر والسعودية والإمارات والأردن من جانب آخر، كما يتطلب تحديد توجه ما نحو الدور الإيراني بكل تعقيداته وملفاته. وبطبيعة الحال لا توجد حساسيات لدى الدول الخليجية والعربية في قبول التوجه الخليجي والشرق أوسطي لتركيا، بل إن الدول العربية الرئيسة ترحب بهذا التوجه، وهي تعتبر الدور التركي مصدراً لدعم الاستقرار الإقليمي والسلام، خلافاً لما تراه تلك الدول بشأن الدور الإيراني والدور الإسرائيلي.

احتياج اقتصادي متبادل
وفي هذا الإطار يبدو أنّ فرص تعزيز التعاون الاقتصادي بين تركيا والدول الخليجية كبيرة على أكثر من صعيد وهي تمتلك فرصا واعدة في المستقبل، في ظل دافعية سياسية وأمنية من الجانبين تفرضها ضرورات التغير في موازين القوى في منطقة الخليج لصالح إيران بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ولاشك أن الأزمة الاقتصادية العالمية تلقي بظلالها على اقتصاد الطرفين، لذلك تحرص تركيا على فتح نافذة على السوقين العربية والخليجية لجذب الاستثمارات منهما كي تتغلب على تداعيات هذه الأزمة العالمية. ومن جانبها تبحث دول مجلس التعاون الخليجي بإمكانياتها النفطية عن منفذ آمن لاستثمار أموالها، لاسيما أن تركيا تمثل سوقا كبيرة بعدد سكانها الضخم، وموقعها الجغرافي الذي يمثل منفذا للخليج على أوربا وآسيا الوسطى، فهو نقطة وسط بين المناطق المنتجة والمستهلكة للنفط، وتتقاطع عندها أيضا حضارات الشرق والغرب. كما أن تركيا تمتلك اقتصادا متنوعا له إمكانيات صناعية وزراعية وتجارية ومائية، غير أن أزمتها الأساسية تظل هي الطاقة؛ حيث تستورد 90% من احتياجاتها النفطية، فضلا عن حاجتها الدائمة لرؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية وهو ما جعل أنقرة ترى في الخليج أحد المداخل لحل أزماتها.

 

ويمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أمام تداعيات الأزمة الغذائية التي اجتاحت الأسواق العالمية منذ فترة ليست بالقليلة الاستفادة من الإمكانات الزراعية في تركيا والدخول كشركاء في الخطة التي أعلنتها تركيا تحت شعار مركز الإنتاج الزراعي وسلة الغذاء في الشرق الأوسط، والتي تتطلب استثمارات تبلغ 12 مليار دولار على مدى أربع سنوات تسعى عبرها إلى تحويل منطقة جنوب شرق الأناضول إلى مركز لإنتاج وتوزيع المحاصيل الزراعية والغذاء على كافة بلدان المنطقة. وهنا يمكن تسليط الضوء على فكرة التكامل بين النفط والماء التي تشكل أمرا حيويا على صعيد الفوائد الاقتصادية للطرفين وتعزيز العلاقات السياسية ومفهوم أمن الطاقة، عبر إحياء مشروع "أنابيب السلام" التركي.
كما تعد تركيا تعدّ لاعبا أساسيا في التجارة العالمية مع سعيها لأن يبلغ حجم التجارة الخارجية لها نصف تريليون دولار في العام 2023، وهي أرقام ضخمة جدا إذا ما قورنت بحصّة دول مجلس التعاون فيها والبالغة أقل من 2.7% من حجمها، ما يعني بطبيعة الحال ضرورة رفع نسبة التبادل التجاري بين الطرفين وإزالة كل العوائق التي من شانها أن تحد من ارتفاع حجمها مستقبلا.

 

ولكن يظل أن نمو العلاقات الاقتصادية التركية –الخليجية يحتاج إلى مستلزمات أساسية لا بد من وجودها حتى تنمو العلاقات منها تطوير وسائل النقل لتقليل التكلفة؛ إذ يمكن النظر في إقامة خطوط سكك حديدية تمتد من دول مجلس التعاون إلى تركيا وهو مشروع طرحه الملك البحريني حمد بن عيسى آل خليفة في زيارته الأخيرة إلى تركيا في آب 2008 بعد قرن كامل بالتمام والكمال على تسيير أول قطار على خط سكّة حديد الحجاز، وهو ما قد يشكّل في حال إنجازه المنطلق الرئيسي لبنية أساسية متطورة للتبادل التجاري خاصة مع ارتفاع كلفة الوقود للنقل بوسائل النقل التقليدية الحالية والتي تعد باهظة في الوقت الحاضر.

وهناك فرص كبيرة لتوثيق التعاون الأمني والعسكري إذ لدى تركيا صناعتها الدفاعية الخاصّة، بعيدا عن تحكّم الدول التي تفرض قيودا على صادراتها العسكرية والتكنولوجية، وهي تتجه حاليا لتنفيذ مشاريع إقامة المفاعلات النووية لأغراض الطاقة السلمية بعد أن كانت قد أنجزت منذ زمن بعيد كافة الدراسات المتعلقة بها، واختارت مدينة "سينوب" على البحر الأسود موقعا لإقامة أول مفاعلاتها النووية من بين ثلاثة مفاعلات نووية تسعى لإقامتها . وهي تسعى أيضا إلى الدخول في مشاريع إنتاج أسلحة وأنظمة تسلّح مشتركة وذلك بالحصول على تراخيص إنتاج من بلد المنشأ، الأمر الذي يسمح بانتقال التكنولوجيا العالية إليها، والذي يمكن دول الخليج في مرحلة من المراحل من الاستفادة من التجربة التركية الصاعدة في هذا المجال.
ويمكن القول أن تركيا رقما صعبا في المنطقة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية ، إلا أن الصيغة الاقتصادية والتجارية تبقى هي الأداة الرئيسية التي ستعيد تركيا للمنطقة بعدما ابتعدت عنها؛ فالأتراك يدركون أن إمكانياتهم الاقتصادية تلائم المنطقة أكثر من غيرها، في المقابل فإمكانيات تركيا الاقتصادية قد تكون منفذا للفوائض المالية الخليجية التي تبحث عن فرص استثمار آمنة تمهد لعلاقات استراتيجية طويلة المدى.