جدار "العدالة الدولية" المنقض
14 ربيع الثاني 1430
عبد الباقي خليفة







الذين يشبهون السودان بالعراق مخطئون جدا ، فهناك اختلاف كبير في أوجه الشبه ، سواء من حيث التهم الموجهة للطرفين، والاصطفاف الغربي والدولي وراء التهور الأميركي، أو طبيعة النظامين في العراق والسودان، ومدى شعبيتهما داخل حدود الوطن؛ فالرئيس العراقي كان محاطا بالكثير من المنافقين، وأصحاب المصالح والأغراض الخاصة، وهو ديدن كل بطانة فاسدة، لم تتربَ على قيم الوفاء والإخلاص، ومواجهة الشدائد بقلب رجل واحد كما هو الحال (كما نحسب) في السودان.

 لكن أهم ما تختلف فيه قضية احتلال العراق عن التهديدات التي يواجهها السوادن، هو أن قضية العراق كانت سياسية ألبست ثوبا أمنيا مكذوبا، هو وجود أسلحة محظورة دوليا، رغم أن تلك الأسلحة موجودة لدى أغلب الدول المشاركة في ذلك التحالف العدواني ضد العراق، ولاسيما أميركا وبريطانيا وايطاليا واستراليا وغيرها. أما التهديدات الموجهة إلى السودان فتلبس ثوب القانون، وهو الزعم بأن الرئيس عمر حسن البشير متهم بارتكاب جرائم حرب، بينما في قضية العراق كان البلد برمته متهما زورا بامتلاك ذلك السلاح الذي لا ريب أن من شن بسببه الحرب يملك الأطنان والأطنان منه. وهو أمر لا أخلاقي ولا قانوني ولا شرعي بكل المقاييس.

وكما في السياسة .. يصبح القانون لعبة، إذا كان مطية لتحقيق أهداف سياسية، كما هو الحال في قضية الرئيس السوداني عمر حسن البشير، والذي وفقا للقانون الدولي يتمتع بحصانة تمنع محاكمته طالما لا يزال في منصبه، هذا أولا.

ثانيا هناك الكثير من الحقوقيين الدوليين ومن بينهم فريق الدفاع عن الرئيس البشير يؤكدون بأن "المحكمة الجنائية الدولية" ليس من صلاحياتها محاكمة الرئيس، وشرعيتها محصورة في الدول التي وقعت على إنشائها فقط، فهي نادٍ خاص باتفاقية روما التي تم بموجبها قيام المحكمة، وبالتالي فإن الدول التي لم تنضم لنادي روما ولم توقع على الاتفاقية ليست معنية بقراراتها.

 ومن المفارقات أن لا توقع أميركا على الاتفاقية، وتحصل على إعفاء لجنودها من المساءلة، ومع ذلك تؤيد واشنطن محاكمة البشير أمام المحكمة التي لم تعترف بها ولم توقع على ميثاقها في تناقض مثير، يبين مدى الاستهتار السياسي والقانوني الذي تبديه الدول التي تعتقد بأنها فوق القانون ومبادئ السياسة الدولية والعلاقات الإنسانية.

ومن ذلك المنطلق، أي مبدأ الفوقية، تزعم المحكمة الجنائية ومن ورائها أن لها صلاحية تعلو فوق سيادة الدول، وتجعل بذلك مجموعة دولية معينة لها أهداف عدوانية تجاه الآخر تتحكم في مصائر الشعوب والدول.

 ومع أن المحكمة لم تنشأ بقرار من مجلس الأمن إلا أن الأخير أحال إليها قضية الرئيس البشير، الأمر الذي أثار استغراب الحقوقيين، معتبرين ذلك سقوطا أخلاقيا وسياسيا؛  إذ إنه ينفي المساواة بين الجميع، كما أسلفنا في قضية إعفاء الجنود الأميركيين من المساءلة، تحت ذريعة أن أميركا دولة عظمى وتتمتع بحق النقض الفيتو في مجلس الأمن، ما يعني أن المحكمة الجنائية جعلت لابتزاز الدول المسلمة وحسب. إذ إنه لن تحاكم الصين بسبب ما يجري للمسلمين في تركستان الشرقية، ولا روسيا بسبب ما جرى ويجري في الشيشان، لأنهما يتمتعان بحق النقض الفيتو!!!

 بل من غير المنتظر أن تحاكم الهند بسبب ما يجري في كشمير، ويذكرنا هذا بما قاله وزير خارجية بريطانيا روبن كوك عندما أعلن عن إنشاء المحكمة الجنائية، حيث ذكر بأن "هذه المحكمة لم تنشأ لمحاكمة رؤساء وزراء بريطانيا، ولا الرؤساء الأميركيين"، فكيف يمكن إذن الثقة بهذه المحكمة وميزان العدالة مختل لديها بهذه الدرجة، وكيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟!

ومن الحقوقيين من يؤكد بأن الجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة وليس مجلس الأمن من له الحق النظر في القضية المطروحة، مستشهدين بما حصل لوزير الخارجية الكنغولي الذي أكدت محكمة العدل الدولية أنه يتمتع بحصانة الوزارة وأمرت بإطلاق سراحه؛ فالسفير والوزير والرئيس كل له حصانة دولية وفق القانون الدولي، وعدم احترام هذا المبدأ سيحول العالم إلى فوضى، ويتم بمجرد رفع دعوى توقيف أي رئيس وأي وزير في أي مكان من العالم، إيقاف ذلك المسؤول. ولذلك هناك من دعا إلى محاكمة مدعي عام المحكمة الجنائية أوكامبو بتهمة الإرهاب، لأنه دعا إلى خطف الرئيس البشير، أي اعتقاله جوا وهو في طريقه إلى حضور القمة العربية في قطر. وهي ممارسات إرهابية تشجع عليها دول أوروبية لها أطماع استدمارية مثل فرنسا وايطاليا وألمانيا وبريطانيا (تراجع فرنسا لم يأت اعتباطا وإنما شعرت بتهديد مصالحها).

لقد كان أوكامبو يتحدث كما لو كان ضابط بوليس، وليس مدعيا عاما في محكمة تمثل نادي الدول الموقعة عليها، حيث تجاوز حدوده وسيس مركزه. وبعد زيارته لواشنطن أعلن بأنه " إذا خرج البشير من السودان فيمكن لأي فرد اعتقاله" وأنه سيضع جائزة لذلك، وهو أمر يتجاوزه.

 ووفقا لاتفاقية روما ذاتها من حق السودان الدفع بالطعون في مذكرة التوقيف، وإعطاء الفرصة للمزيد من التحري. ولا يمكن للمحكمة الدولية إصدار أي قرار إلا إذا أثبتت الدولة المعنية عجزها عن محاكمة المتهمين، وهذا ما لم يتم في قضية الرئيس البشير، وكانت جميع القرارات قد اتخذت على عجل.

لقد شبه البعض من الحقوقيين ما فعله أوكامبو بأنه أشبه ما يكون بمرشح في حملة انتخابية. ويصدر حكما بإدانة البشير بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وهو المدعي العام. بينما مثل هذا القرار لا يمكن أن يصدر سوى من قاضي بعد الاستماع للمتهم وللشهود من كلا الطرفين وامتحان الأدلة.

وجميع الدلائل تؤكد انتفاء وجود رابط بين ما تم في دارفور والرئيس البشير. إذ إن المفروض أن تكون هناك أدلة على وجود أمر من الرئيس البشير بالإبادة الجماعية ، أو الاغتصاب، أو ما شابه ذلك،. أو علمه بوجود تلك الجرائم ولم يقم بأي إجراء حيال المتجاوزين.

وبما أن الحرب في دارفور لم تنته فلا يمكن وفق جميع القوانين محاكمة الرئيس البشير لأنه لم يحاكم المتهمين. أي أن الوقت في صالح الرئيس وليس كما جرى في الحرب اليوغسلافية مثلا، حيث تمت المحاكمة بعد انتهاء الحرب.

 وعلى السودان وحكومته الآن استغلال هذه الثغرات، بإعلان محاكمة جميع المتورطين في جرائم، وإصدار لائحة بالمتهمين، وكل متهم برئ حتى تثبت إدانته، والقضاء المحلي هو من يؤكد ذلك أو ينفيه. وقد يقبل السودان بمحاكم مختلطة أي محليين ودوليين أو السماح بوجود مراقبين لهذه المحاكمات، مع الاحتفاظ بسيادته كاملة غير منقوصة.

 وهذا تقريبا ما أعلنته الجهات القضائية في السودان بأنها مستعدة لمحاكمة المتهمين ولكنها طالبت بإعطائها فرصة وهو حقها فجمع الأدلة وسير المحاكمات ليس سهلا في جميع القضايا ولاسيما المتعلقة بالحروب.

هذا إذا أغضنا الطرف عما جرى في مناطق أخرى من العالم، وتحديدا في إفريقيا حيث لم تجر محاكمات في أنغولا وموزنبيق مثلا وإنما مصالحات. فلماذا مصالحات هنا، وتأجيج الحرب في السودان بتوجيه مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير؟!

أخيرا وليس آخرا، لا شك بأن مذكرة التوقيف الخائبة كانت تهدف لبلبلة الأوضاع في السودان، وزيادة حدة التمرد، وربما تشجيع أقاليم أخرى على الخروج عن السلطة السودانية. في وقت يستعد فيه السودان لانتخابات رئاسية وأخرى عامة، وانتعاش فرص السلام في الجنوب وفي دارفور ذاتها.

ولكن من يحاسب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش على قتله مليون عراقي، بحكم أن الأمن مسؤولية الاحتلال وفق قرارات الأمم المتحدة التي ساهمت بلاده في وضعها.

بقي القول أن ما يوصف بالأدلة على ارتكاب جرائم ضعيفة جدا، وتصريحات أوكامبو والدول المؤيدة له، تعكس ضعف موقفها. ومذكرة التوقيف ذاتها مطعون فيها قانونيا كما يؤكد الخبراء، وتؤسس لقانون الغاب، كما تمثل حنينا للماضي الاستدماري الوحشي واللاانساني، وسابقة خطيرة في العلاقات الدولية.