كلمة السر
15 ربيع الثاني 1430
عمر النشيواتي
تمر على المرء مئات العبارات والكلمات ,  يسمعها أحيانا بأذنه  فقط  , فلا تُبقي , فيه أثرا , ولا تغير خلقا , ولا تحرك ساكنا , و لكن ربما سمع يوماً ما كلمة صادقة أو عبارة موجزة تلخص له مبدأً كبيراً , أو ,تجربة عميقة أو نظرة دقيقة لأمر ما يتلقاها بقلبه و جنانه, فتستقر في نفسه , وجوانحه وتتملك حسه ومشاعره , وتستولي على وجدانه , وربما غيرت حياته .
 
 وتبقى تلك , الكلمة يتردد صداها في نفسه وروحه وعقله , وتأخذ بمجامع قلبه وتكون بمثابة كلمة السر , لفتح قلبه وإيقاظ ضميره .
 
   لذلك يبقى اللبيب الناصح لنفسه , متعطشا للسماع من أهل الحكمة والبصيرة والفهم , يسلي نفسه أنه ربما يصل إلى تلك الكلمة التي تفتح قلبه وتغير مجرى حياته ... وللقلوب مفاتِح  ومداخل تُكشف لمن بحث عنها واجتهد في طلبها
 
 من تلك الكلمات الموجزة , والصادقة الجامعة التي وقعت في نفسي موقعها , وأراها ماثلة أمامي في كثير من المواطن والمواقف ,, وأرى أنها ليست كسائر الكلمات , وهي كفيلة بتغيير نظرتنا إلى كثير من الأمور و الأحوال وكثير من الأشخاص والأعمال  وتوقظ ضمائرنا وتحيي نفوسنا  , كلمة تختلف حولها مشاعري كلما أعدتها على نفسي , تبعت في نفسي غبطة وغيرة ممن تحقق لهم طرف منها ... وحزنا وأسى , مع رحمة وشفقة لطائفة أخرى وربما كنت أحد هذين الطرفين .

   إنها وباختصار تلك الكلمة النورانية التي تلفظ بها الحسن البصري فخرجت من فمه كالدر بل هي أغلى وأثمن , أوردها يوما واصفا حال العصاة المقصرين ...قال :" هانُوا على الله فعصَوه , ولوا عزُوا عليه لعَصَمهم " وتعال معي لنقف مع هذه العبارة وقفة يسيرة. 
 
 إذا نظرت يوما إلى صاحب معصية , ومقصر في طاعة مولاه وسيده , ولاهث وراء شهواته وملذاته, لا يفرق بين حلال أو حرام, ومشروع أو ممنوع , وهو مع هذا فرح مسرور يرقص طربا لبلوغ أمانيه , وتحقق آ ماله , و يرى أنه الرابح دون غيره , والظافر دون سواه , وربما أغراك حاله , ودعتك نفسك  واستفزك شيطانك لأن تبلغ منزلته , وتكون مكانه , وتفعل مثله .. عندها ذكر نفسك هذه الكلمة , وأيقظ ضميرك بها , وتذكر أنه طريق الذل الهوان  , ولا يُيسّر له إلا من هان على رب العالمين , وخف قدره ورخصت قيمته " نسوا الله فنسيهم" ...  عندها تُشفق على ذلك المقصر الغافل وتَرثي لحاله وتحزن لمآله , وتبكي هوانه , ولا تتمنى طرفة عين أن تكون  كانه أو أن تفعل أفعاله .
   وعلى النقيض من هذا , فإذا أبصرت أو سمعت يوماً ما عن موفق مسارع في طاعة ربه , عفيف القلب واليد واللسان عن محارم الله , بعيدا عن مواطن الفتنة والريبة والسوء , وربما قيل عنه مغفل , محروم , لم يستمتع بحياته, ولم يذق طعم ملذاته ,وأضاع شبابه وقوته , وكبت نفسه وهواه فذكّر نفسك أنه هو العزيز حقا ,و هو المكرم فعلا , وأنه لولا معزته ورفيع درجته عند ربه لما عصمه , ولتركه غافلا ساهيا لاهيا كما تُرك كثيرون "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين".

   عندها تبكي حسرة و ندامة , عندما تقصر في طاعةٍ , وتفوتك عبادة ,وتحرم علما ,أو فضيلة من الفضائل , ويسبقك إليها من عز على رب العالمين  , وارتفعت منزلته , وعلت مكانته من الموفقين المسددين , جعلنا الله منهم ...

 ثم تأمل معي في هذا الصدد وصف كتاب الله تعالى لموقف الطهر والعفاف الذي بدر من الطاهر الكريم نبي الله يوسف –عليه السلام- حين تعرض للفتنة وتيسرت له أسبابها ,وفتح له الطريق دونها , بل وأكره عليها
إكراها , و هُدد بالسجن إن امتنع وأعرض ,  وهي – في نظر من هانوا على الله – فرصة لا تُعوض , ومنحة لا تُفوت ,  لكن نبي الله الطاهر العفيف اعتصم بسيده ومولاه , والتجأ إليه ليصرف عنه السوء
والفحشاء , ولخص الله لنا الموقف بقوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء "
 
ولم استحق يوسف هذه الكرامة ؟ ولم عصمه ربه من هذه المعصية ؟ يجيبنا القرآن بكل وضوح وجلاء ..." إنه من عبادنا لمخلصين " ... لأنه من المصطفين , وممن عز على رب العالمين أن يتركه يقع في الرذيلة والسوء, ويراه متلبسا بالمعصية, ولأنه أكرم من أن يُنسى ويُترك بلا حفظ ولا رعاية ... وهذه هي سنة الله مع أوليائه وأحبابه وأصفيائه " فاذكروني أذكركم "

   ذكّر نفسك بهذا عندما تتكاسل عن طاعة أو تضعف همتك إليها , وسلّّها بأنه لا يوفق لها إلا أحباب الله وخاصته , بهذا تنفض عنك غبار الغفلة والركود لتسارع إلى الطاعة وتنشط إليها .

 
وإذا اشرأبت نفسك وتطلعت إلى اقتراف معصية وسوء , فازجرها وخوِّفها أن تكون ممن هان على الله فعصاه...
 
ولو وقعت يوما في شيء من الغفلة و ارتكبت إثما , وكلنا ذالك الخطّاء المذنب , فيكفي أن تجد هذه الكلمة دافعة لك للمسارعة إلى الرجوع والأوبة والإنابة إلى علام الغيوب ,    بهذا تجعل من هذه الكلمة الموجزة ,حياة هانئة , ومنهجا واضحا لنفسك, وطريقا نيرا لروحك وتسعد بإذن الله في الدارين ...