مناقشة قانونية حول التوسع في عمل المرأة

تقتضي الوطنية الحقة على المؤسسات والأفراد احترام أنظمة بلدانهم ، وعدم الخروج عليها ، لاسيما إن كان الفرد مسئولاً أو كانت المؤسسة حكوميةً ، فيُطلب منهم حينئذٍ درجة أعلى من الالتزام والانضباط النظامي ليكونوا قدوة حسنة لغيرهم من الأفراد ومؤسسات المجتمع الأخرى ، ورواج ثقافة احترام النظام في المجتمع ورسوخها وشيوع تطبيقاتها دليلٌ على مستوى عالٍ من الوعي الحضاري الذي يتمتع به المجتمع بمختلف مؤسساته وأفراده . 

     وفي عالم الأنظمة والقوانين يُعد الدستور النظام الأعلى منزلةً في سلم التشريعات القانونية ، وهو النظام التي تنبثق منه كافة التشريعات العادية والفرعية الصادرة من السلطة التي تملك حق التشريع ، كما أنه يعد النظام المهيمن عليها .
     ووفق مبدأ تدرج التشريع فإنه يجب أن لا تتعارض التشريعات التي تصدرها السلطة المختصة بالتشريع مع التشريع الأعلى درجة منها ، مع ضرورة التزام الجميع بأحكام دستور الدولة ، وعدم معارضته ، كما يجب أن لا تخرج سائر القرارات والأوامر التي تصدرها سلطات الدولة على أحكام الدستور ، ولا تتصادم معها ، ولا مع الأنظمة الأعلى درجة منها  ، وإلا كانت محلاً للطعن الموضوعي ، وحُكم على المتعارض منها بالبطلان وعدم النفاذ ، سواء صدر ذلك من رئيس الدولة أو من دونه من  وزرائه التنفيذيين .
    وإصدار سلطات الدولة لتشريع أو مرسوم أو قرار تنفيذي مخالف لدستور الدولة يعد في الأعراف القانونية ممارسة غير دستورية بمعنى أنها تخالف أحكام الدستور ، ويخول ذلك المحكمة الدستورية بالطعن في التشريع المتعارض باعتبارها الجهة المعنية بمراقبة مدى دستورية القوانين والأنظمة والقرارات الصادرة من سلطات الدولة  ، بمعنى مراقبة مدى موافقتها لأحكام الدستور ، وذلك وفق شروطٍ وأحوالٍ معينة تختلف باختلاف النظم التي تحكم الدول.

   وفي المملكة العربية السعودية يعد النظام الأساسي للحكم هو النظام الدستوري في الدولة ، وقد ورد في مادته السابعة "يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة " ،  ومقتضى ذلك أن جميع أنظمة الدولة وقراراتها خاضعة من ناحية قانونية لأحكام الشريعة الإسلامية بموجب هذه المادة ، فمتى ثبتت مخالفة مادة نظامية أو  قراراً إدارياً لأحكام الشريعة الإسلامية فإن ذلك يخول الطعن فيه ، والاعتراض عليه ، حسب آلية ذلك النظامية ، وللمحكمة العليا إن ثبتت لها المخالفة الشرعية أن تمتنع عن تطبيق المادة أو القرار محل الاعتراض في الخصومة المنظورة ، وفق ما نصت عليه نظام القضاء الجديد الصادر أواخر عام 1428هـ. 
     دفعني لهذه المقدمة ما لاحظته في السنوات الأخيرة من التجاوز الشرعي والنظامي في كثيرٍ من الجهود الرامية لتوسيع فرص ومجالات عمل المرأة بشكل لا يتفق مع النظام العام في المجتمع ، ويختلف مع القيم والمبادئ السائدة بين أفراده ، وقد اطلعت في هذا الصدد مؤخراً على حوارٍ صحفي أجرته صحيفة المدينة في عددها (16747) مع عميد المعهد العالي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجامعة أم القرى الدكتور خالد الشمراني ، انتقد فيه التوسع في عمل المرأة ، وقال : " إن التوسع في عمل المرأة غير صحيح ، والمسألة ليست أن نتجمل أمام الناس بأن المرأة تعمل ونشركها ، وهذا الأمر لابد أن يخضع للدراسة الشرعية ، ولا تنفرد به جهة معينة مثل وزارة العمل التي من المفترض أن ينحصر عملها في الجانب الخدمي ، ولا تدخل في هذا المجال ، ولذلك تجاوزت وزارة العمل الأنظمة والحدود ، وتوسعت بشكل غير مقبول في مسألة عمل المرأة " .

     الغريب أن وزارة العمل بدلاً من أن تهتم أكثر بمراجعة أوضاع عمل المرأة في بيئات العمل المختلفة والنظر في مدى انضباطها باعتبارها الجهة المسئولة عن تنفيذ الضوابط والاشتراطات النظامية المتعلقة بعمل المرأة ، وتسعى إلى تصحيح المخالف منها أصدرت بياناً نشرته صحيفة المدينة في عددها (16771) نفت فيه أن تكون قد تجاوزت الأنظمة في توظيفها للمرأة  ، وأكدت أن التوسع في عمل المرأة يأتي تنفيذاً لقرارات عليا ، ويتم وفق الضوابط الشرعية ، وادعت أنها استنارت بمشورة عدد من رجال العلم .
       والذي يتأمل في واقع عمل المرأة في المملكة خلال السنوات الخمسة الماضية وحتى يومنا هذا يلحظ أن هناك تجاوزاً نظامياً في بعض تطبيقاته ، تزداد مساحته وتتسع مع مرور الأيام ، تقوم به بعض الجهات التنفيذية وكثير من مؤسسات القطاع الخاص ، وعلى سبيل المثال فالملاحظ أن جزءً ليس بالقليل من الجهود المبذولة لتوسيع عمل المرأة يسعى بطريقة أو بأخرى إلى تسويغ العمل المختلط بين الرجال والنساء ، وإضفاء صفة الشرعية عليه ، وتطبيقات التوسع في عمل المرأة تشهد على ذلك ، لاسيما ما كان منها في القطاع الخاص ، وهذه الممارسات غير المنضبطة في الواقع الفعلي سواء أُقرت من الجهات التنفيذية المختصة أو سُكت عنها ، وسواء صدر بها قرارٌ أو نظام يشرعها ،  فإنها تعد ممارسات مخالفة لأنظمة الدولة ، وأي قرار أو نظام يصدر لتشريعها يعد ممارسة غير دستورية لأنها تخالف أحكام النظام الدستوري في الدولة في مادته السابعة التي أشرنا لها ، فالاختلاط بين النساء والرجال في بيئات العمل   الأصل فيه التحريم ، وقد صدرت بذلك قراراتٍ وفتاوى شرعية من هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء وهي الجهة الحكومية التي خصصها ولي الأمر لبحث القضايا الدينية وتقرير أحكامها الشرعية .

    ومن جهة أخرى فإنه قد صدر بمنع مظاهر الاختلاط المحرم عدة مراسيم ملكية ، أكد عليها المقام السامي مراراً ، بحكم أنه رئيسٌ أعلى لكافة سلطات الدولة ، ولا يوجد أي نظامٍ أو مرسومٍ ملكي يجيزها ، وبناء على ذلك فأي ممارسة أو نظام أو قرار إداري يصدر من أي سلطة في الدولة يجيز الاختلاط في بيئات العمل من غير ضرورة شرعية يقررها أهل الاختصاص الشرعي تعد مرفوضة لمخالفتها لأحكام دستور الدولة والمراسيم الملكية الصادرة من مقام رئيس الدولة .
       ولا يسوغ أن يحتج البعض بأن نظام العمل الجديد ليس فيه اشتراط ينص على منع الاختلاط صراحة في بيئة العمل ، لأن الأصل منع كل ما خالف أحكام الشريعة الإسلامية وإن لم ينص النظام على منعه ، وفي المادة (4) من نظام العمل الجديد ما نصه "يجب على صاحب العمل والعامل عند تطبيق أحكام هذا النظام الالتزام بمقتضيات أحكام الشريعة الإسلامية " .

     كما أن جميع الأنظمة والقرارات في المملكة خاضعة لأحكام الشريعة ، ونظام العمل الجديد وإن لم ينص على منع الاختلاط فإنه في المقابل لم ينص على إجازته صراحة ، والأنظمة والمراسيم والقرارات الملكية المتعلقة بعمل المرأة تنص في الواقع على أن يكون التنفيذ وفقاً للضوابط الشرعية ، وقد نص نظام العمل في باب تشغيل النساء في المادة (149) على وجوب مراعاة ما ورد في المادة الرابعة من النظام التي أشرنا لها أنفاً ،  وحينئذٍ فيجب على سائر الجهات التنفيذية أن نلتزم بموجب الحكم الشرعي والمراسيم الملكية الصريحة في منع صور ومظاهر الاختلاط المحرم في بيئات العمل سواء كان ذلك في جهة حكومية أو أهلية ، وإلا كانت جميع التصرفات أو الإقرارات المخالفة لذلك خروجاً عن مقتضى أنظمة الدولة .

   ولا  يعفي وزارة العمل وسائر جهات التنفيذ الحكومية من المسئولية  قيامها باستشارات شرعية انتقائية ، طالما أن  هناك جهة حكومية مختصة ومخولة من ولي الأمر للإفتاء في المسائل الشرعية وهي هيئة كبار العلماء ولجنتها الدائمة للإفتاء ، ولو قلنا تنزلاً أن الوزارة عملت ببعض الآراء الفقهية الأخرى فالسؤال الذي يطرح نفسه هل التزمت الوزارة فعلاً بالضوابط التي اشترطها أصحاب تلك الآراء ؟؟ أم أخذت منها القدر الذي يجيز حدوث الاختلاط فقط وأهملت الضوابط والاشتراطات اللازمة عند أولئك ؟؟ أترك الجواب على ذلك لوزارة العمل من واقع التطبيق الفعلي ؟؟؟  مع إن الأصل أن تأخذ الجهات الحكومية والأهلية الرأي الشرعي الذي تحتاجه في الشأن العام من خلال قرارات هيئة كبار العلماء وفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء  .